جوليا سويج مديرة دراسات أميركا اللاتينية بمركز "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي تندرج تصريحات الكاردينال "جيم أورتيجا" أسقف هافانا، بشأن موافقة الحكومة الكوبية على إطلاق سراح 52 معتقلا سياسيّاً في إطار مسلسل الاعتقالات والإفراجات التي دأبت عليها السلطات الكوبية ضد المعارضين ومناوئي النظام على مدى الخمسين عاماً الماضية، ولكنها تبقى الأولى من نوعها بهذا الحجم منذ عام 1998، فلماذا هذا التحرك من قبل الحكومة الكوبية؟ وما هي دلالاته؟ بالنسبة لهافانا تحولت قضية المعتقلين السياسيين إلى عبء ثقيل تتحمله حكومة راؤول كاسترو، لاسيما في ظل المساعي التي بذلتها الحكومة منذ تولي راؤول السلطة في فبراير من عام 2008 للتقارب مع الاتحاد الأوروبي ودوله، فمع أن الدول الأوروبية تبنت ما سمي بالموقف المشترك الذي يقضي باستمرار العقوبات على النظام الكوبي وربط تخفيفها والحد منها بحصول تقدم في مجال حقوق الإنسان في كوبا، إلا أن ذلك الموقف ومع مرور الوقت بدأ في التآكل ربما بسبب المصالح الاقتصادية والتجارية التي تشكل أولوية بالنسبة للدول الأوروبية، وهو ما يفسر الانفتاح في العلاقات الأوروبية- الكوبية، لاسيما بين إسبانيا بزعامة ثاباتيرو، وبين هافانا، حيث نُظم في هذا الصدد حوار ثنائي بين الطرفين حول حقوق الإنسان والانفتاح السياسي واكبه نمو للمبادلات التجارية بين الطرفين وتصاعد للمصالح الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي عامة. ولكن يبدو أن العقبة ظلت مسألة حقوق الإنسان، خاصة بعد وفاة الناشط الحقوقي والمعتقل السياسي أورلاندو زاباتا، الذي كان مضرباً عن الطعام في شهر فبراير الماضي، وهو ما أثار استياء منظمات حقوق الإنسان الدولية وأغاظ الرأي العام الأوروبي إلى درجة أن إسبانيا، متزعمة الانفتاح على كوبا، هددت بوقف المحاولات الأوروبية لتطبيع العلاقات مع هافانا. وبالمثل شكلت مسألة حقوق الإنسان في شقها المتعلق بالمعتقلين السياسيين عقبة كأداء أمام الجهود الأميركية التي أطلقتها إدارة أوباما لمراجعة العلاقات الثنائية بين البلدين وإذابة الجليد الذي استمر طويلا بينهما، فمن المعروف أن أوباما لدى وصوله إلى البيت الأبيض وصف السياسة الأميركية تجاه كوبا بـ"الفاشلة" ليعكس تراجع شعبية الحصار المفروض على الدولة الجزيرة داخل أميركا نفسها، بل حتى في أوساط الجالية الكوبية الأميركية الواسعة وذات النفوذ الكبير في الولايات المتحدة. وقد أشار مسؤولون في إدارة أوباما، بالإضافة إلى مشرعين في الكونجرس، إلى الضرر الذي تلحقه قضية المعتقلين السياسيين بالجهود الرامية إلى مراجعة علاقة أميركا بكوبا، بل لقد اعتبروها حجر عثرة في طريق تحسين العلاقات الدبلوماسية وتخفيف القيود الاقتصادية المفروضة على هافانا. وفي هذا السياق لعبت الكنيسة الكاثوليكية في كوبا دوراً حاسماً في الدفع بالانفتاح الدولي على هافانا وذلك عبر سلسلة من الجهود مثل فتح حوار مع الرئيس راؤول ونشر مقابلات أجريت معه تشجع على الانفتاح، فضلا عن الجهد الدبلوماسي مع إسبانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ثم رعاية مجموعة من حلقات النقاش تتناول مستقبل كوبا. ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية في كوبا لم تفعل أكثر من التأكيد على تصريحات سبق أن أدلى بها البابا السابق "يوحنا بولس الثاني" خلال زيارته التاريخية إلى هافانا قبل عقد من الزمن عندما قال "تحتاج كوبا للانفتاح على العالم، والعالم يحتاج إلى التقرب إلى كوبا"، ومع ذلك وعلى رغم كل هذه الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات الدولية مع كوبا وأهمية إنهاء عزلتها العالمية لم تحظ قضية المعتقلين السياسيين هناك بما تستحقه من اهتمام ولم تدرج في إطار الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والتعليمية وغيرها المتوقع إجراؤها في البلاد، علماً بأن إطلاق سراح المعتقلين يعزز التوجه الغربي بالانفتاح على كوبا ويعطي مساعي الإصلاح الداخلية مصداقية أكبر. ويتصادف الإفراج الأخير عن المعتقلين السياسيين الذي أقدمت عليه السلطات في هافانا مع انعطافة حقيقية في السياسة الأميركية تجاه الجارة الصغيرة، حيث يفكر الكونجرس حاليّاً في رفع حظر السفر إلى كوبا. كما أن الإدارة نفسها تداعب فكرة فتح المجال أمام التواصل الشعبي وخلق فرص لتحسن العلاقات على صعيد المجتمعين وتبديد سوء الفهم الذي ساد لفترة طويلة. والمشكلة أن معارضي هذا الخط السياسي الجديد من قبل الولايات المتحدة سواء في الكونجرس، أو في دوائر القرار الأخرى، كانوا دائماً يشترطون تصفية ملف المعتقلين السياسيين أولا قبل الحديث عن الانفتاح السياسي، ويعارضون خطوات تطبيع العلاقات التي تنتهجها واشنطن ما لم تفرج هافانا عن أصحاب الرأي الذين يقبعون في السجون، فهل تقرر كوبا أخيراً التخلص من العقبة التي تقف أمام كسر عزلتها؟ الحقيقة أنه باستحضار ما جرى مؤخراً من اكتشاف لخلية جواسيس روس في الولايات المتحدة وإصرار الطرفين على رغم كل ذلك على احتواء الموقف عن طريق الدبلوماسية والإرادة السياسية وعدم التضحية بالتحسن الملحوظ في العلاقات بين البلدين ينفتح أمامنا باب الأمل من أن حلاً مماثلاً قد ينسحب على كوبا ويعيدها مجدداً ببعض الجهد الدبلوماسي والرغبة السياسية إلى حضن الأسرة الدولية. ولاشك أن إطلاق كوبا سراح الأميركي "ألان جروس" المعتقل في سجونها، علماً أنه ليس ناشطاً سياسيّاً بل هو فقط متعاقد مع منظمة المساعدات الأميركية، قد يكون الانطلاقة الصحيحة نحو تطبيع العلاقات الأميركية الكوبية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"