لا تزال أركيولوجيا (حفريات) التاريخ لم تحسم الأمر نهائياً. لايزال الأمر غامضاً فعلاً، إذ لم يتفق علماء الحفريات بعد على أهم قرار في تاريخ البشرية، قرار يحسم الإشكاليات التي يعاني من معرفتها الإنسان الحديث. هل كانت بداية الإنسان في أفريقيا، أم هل كانت بدايته في أميركا، أم هل كانت بدايته في أرض سومر؟ الوجود البشري، لا تستطيع كل النظريات الحفرية أن تجزم بأصوله الأولى، مكانه الأول.. مسببات اختياره. ولكننا نسأل، وعلى فرضية أن الحياة البشرية ترتبط بالأشياء التي نصنعها أو تم صنعها، هل تبدأ حياة الأصول الأولى للإنسان مع وجود الأدوات، أم أن تلك الحياة ابتدأت مع وجوده “هو” كإنسان مجرد، إنسان يعيش ليأكل من ورق الشجر قبل اكتشاف النار. ماذا تعني تلك الحياة ـ قبل النار ـ للآثاري الأركيولوجي الباحث في الأصول. سلمان كاصد هل تعني له شيئاً؟ أعتقد أنها أسئلة مهمة حينما نكتشف أننا نحتفي بالإنسان مع الأشياء. ولهذا جاء معرض “كنوز من ثقافات العالم” الذي يقام في جزيرة السعديات بأبوظبي تحت رعاية هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، كونه احتفى بالإنسان وآلته، أغراضه، نتاجه، إنسانيته التي نزفها في عمل إبداعي. من خلال هذا المنطق أجد أن أهم سبب يدعونا لأن نعجب بهذا المعرض العالمي هو أنه أرخ لوجود الإنسان من خلال الآلة “الشيء المصنوع”، الإبداع، وعليه صار الإنسان خارج ذلك الشيء قضية أخرى ليست من اهتمام المعرض كونه يقدم كنوز سبع حضارات. صياغة الطبيعة يبتدئ المعرض من أفريقيا. يقول النص وتحت عنوان “بداية الإنسان”: “بداية الحياة البشرية كانت في أفريقيا، بحسب ما تشير إليه أقدم الأعمال المصنوعة من الحجر المكتشفة في القارة الأفريقية، ويؤرخ ابتكار تقنية أول عمل حجري يعود إلى نحو 2.4 مليون سنة مضت، لحظة انفصال أسلافنا الأوائل عن بقية المملكة الحيوانية”. يؤكد هذا النص من خلال قطعتين نادرتين تعود الأولى إلى 1.8 مليون سنة أو إلى مليوني سنة، والأخرى تعود إلى نحو 800 ألف سنة بدايات حياة الإنسان على الأرض حين صنع الآلة. مَنْ كان ذلك الإنسان الأفريقي؟ وهل تبدو هاتان الحجارتان دليلاً على موطن الإنسان الأول في أفريقيا؟، وهل يعني هذا أنه لا وجود لحجارة ثالثة تشير إلى موطن سبق للإنسان في قارة أخرى العيش فيه؟ ذلك سؤال فقط. الحجارة التي تعود إلى مليوني عام تم العثور عليها في عام 1931 من قبل عالم الآثار المولود في كينيا لويس ليكي، وكانت اكتشافاته من الأدوات والمستحاثات في أولدوفاي جورج بتنزانيا نقطة تحول هامة في مسيرة إثبات أن الكائنات البشرية نشأت وتطورت في أفريقيا. حصاة بازلت بارتفاع 8.7 سم، ذات حافة مصنوعة بقصدية اتفق عليها العلماء، ولم تكن قد تكونت بمحض المصادفة. وهذا التفريق يشير إلى نوعين من الحجارة آنذاك، وهما ما صنع بقصدية وما أفرزته وصاغته الطبيعة بلا قصدية، فإذا كانت صناعته مقصودة فإن ذلك يشير إلى بدء التفكير البشري، بدء علاقة الإنسان بالأشياء، الإنسان بالآلة. الكائن البشري أما إذا كان يشير إلى الاعتباطية فإن ذلك يلغي دور الكائن البشري بمعرفة الآلة. الأداة الثانية التي تؤشر إلى بدء الحياة البشرية في أفريقيا هي “فأس حجرية” من العصر الحجري القديم، منذ نحوى 800 ألف سنة وهي من الكوارتزيت بطول 13.6 سم، وتعد هذه الفأس الصغيرة تحفة قيمة في فن “صناعة” الأدوات الحجرية “على فرض صناعتها”. هذه القطعة صنعت من الكوارتزيت بروابط من الجمشت وهي مادة قاسية تناسب الأدوات بسبب صلابتها الشديدة، حيث يتوجب على صانع الأدوات الماهر ضربها بقوة كبيرة ودقة لإزالة الرقاقات الفردية. صنعت الفأس للمرة الأولى في أفريقيا، ثم انتشر استخدامها في جنوب آسيا والشرق الأوسط وأوروبا منذ نحو مليون سنة مضت، واستمر استخدامها لمدة 750 ألف سنة أخرى ـ أعتقد أن هذا افتراض لم تحسم حقيقة قبول نظريته ـ المهم أن هذه القطعة شكلت مع نظيرتها الأفريقية الأقدم، جزءاً مهماً من افتراض نظرية “أفريقيا مهد حضارات الإنسان الأولى”. وادي النيل ينتقل معرض “كنوز ثقافات العالم” فجأة، وقد قطع ملايين السنوات إلى حضارة وادي النيل “مصر القديمة” إلى ما قبل 5000 سنة، أي بنحو 300 سنة ق. م. مصر، الزراعة، والماء، والمعدن الثمين، والعقل الجبار، وفرعون القاهر العنيد، كلها شكلت حضارة كبرى. الفرعون، الكاهن، القائد الأعلى للجيش، غزيت دولته، وغزا الدول المجاورة. من تلك الأرض التي جاورت النيل “أبو الأسرار”، والمصائر المجهولة، والفيضانات المميتة، والمخاض العسير. ولدت حضارة الفراعنة بكل عقائدها عن الحياة والموت، والحياة ما بعد الموت التي أسست لمنطق حضاري حير البشرية كلها. من مصر القديمة يقدم معرض “كنوز ثقافات العالم” في السعديات قناع مومياء من الكارتوناج المطلي بالذهب من الفترة البطليمية 305 ـ 30 ق. م وهو من الجبس والكتان وأوراق ذهبية بطول 51 سم وبعرض 24 سم. كما يقدم المعرض “الناموس” وهو القسم الداخلي لتابوت دجهو من أخميم بمصر للفترة نفسها، وقد صنع من الخشب وورق الذهب وطلاء وجبس بطول 76 سم وقد صنع لرجل ذي مكانة عالية، ويتضمن قراءات من كتاب الموتى وصوراً للآلهة والأرواح الحارسة مع كتابة هيروغليفية. في المتحف مومياء امرأة مع تميمة جعران مجنح وغطاء كامل من السلالة الحادية والعشرين 1070 ـ 945 ق. م، إنها رفات بشرية وكتاب ومكونات مزججة وجبس بطول 156 سم. إنها مومياء ملفوفة بالكامل، مومياء محنطة بشكل دقيق وهي لامرأة بالغة، حيث غطي جسدها بشبكة متقنة الصنع من الخرز مع تميمة جعران مجنح. أبناء حورس أثناء التحنيط لا يغفل الفراعنة شيئاً، إنهم يضعون كبد ورئتي ومعدة وأمعاء المحنط في أوعية وأوان حجرية، توضع الأعضاء تحت حماية أبناء حورس وهم: امستي ـ الصقر هابي ـ ابن آوى قبحسنوف ـ القرد دامونوف ـ الإنسان أما القلب ـ مركز الفهم ـ فكان يترك في مكانه. في هذه المجموعة الرباعية من الأواني التي تسمى آنية كانوبية من نيسخونس من الدير البحري بمصر العليا في السلالة الحادية والعشرين 1069 ـ 945 ق. م. والتي صنعت من كاليست وخشب مطلي، وقد تبرعت بها سيدة تدعى باتريس في عام 1925، وتنتمي هذه المجموعة الخاصة إلى ينسخونس زوجة بيتدجيم الثاني كاهنة آمون، وتوضع هذه الأواني قرب تابوت الميت في القبر، وقد نقش اسمها على واجهتها. نقش في قبر من سقارة في مصر وهو من السلالة الرابعة 2575 ـ 2450 ق. م. من حجر مكسي بطول 114 سم وعرض 48.3 سم. لوحة منحوتة، يبقى الزمن غير قادر على أن يمحي اللون. لوحة خشبية من طيبة بمصر من السلالة الخامسة والعشرين 716 ـ 656 ق. م. وهي من خشب جميز التين، وجبس مطلي، الألوان لا تزال بكل قوتها، والصورة تحكي قصة الأفعى والإله رع وصاحب القبر، لوحة مع جدث، زخارف تحيط بحكاية المرأة المتوفاة وهي ابنة كاهن الإله مونتو، وصلاة قربان، ونموذج فريد لزورق خشبي مطلي من مصر الوسطى في السلالة الثانية عشرة نحو 1900 ق. م. من خشب وجبس وكتان وطلاء بطول 113 سم، حيث يسافر الإله رع كل يوم في قاربه الخاص بعد أن يولد من جديد كل صباح. أوراق البردي وفي متحف “كنوز ثقافات العالم” من حضارة مصر صحيفة من أوراق البردي من انكواهيرا، أواخر السلالة السادسة والعشرين 550 ـ 525 ق. م. حيث نرى الحبر على ورق البردي بطول 50.4 سم وبعرض 26.8 سم، إنه جزء من كتاب الموتى “كتاب الذهاب بعيداً عن اليوم” فيه مجموعة من التعاويذ مكتوبة على ورق البردي تم لفها ووضعها في القبر. كتب النص بالهيراطيقية مع استخدام الحبر الأحمر للعناوين والعبارات الهامة وهو توصيف لرجل يدعى “انخواهيرا”. “قلادة عين” و”حلية للصدر مع جعران القلب” و”حلية للصدر” وهي من السلالات السادسة والعشرين والتاسعة عشر والتاسعة عشر أو العشرين، الأول رمز يحمي العين، يمثل عين حورس إله الصقر، والثانية توضع على صدر الميت لضمان ألا يشهد قلبه ضد صاحبه أثناء الحكم عليه، وهو من قبر امرأة تدعى “بتاهمهب” والثالثة لتزيين المومياء، وكانت مع لفافة مومياء، حيث الإله انوبيس بشكل ابن آوى. ويحكي معرض “كنوز ثقافات العالم” قصة الملوك الفراعنة، ومنها تمثال ليستاي الثاني في وضعية الجلوس من معبد الكرنك في طيبة بمصر وهو من السلالة التاسعة عشر 1200 ق. م. من حجر رملي بطول 164 سم وعرض 50 سم، وقد كتبت على قاعدته قصة اتحاد الشمال والجنوب. سيتاي الثاني يجلس على العرش ويمسك صورة مقدسة لرأس كبش. تمثال لرمسيس الرابع في وضعية الركوع من السلالة العشرين نحو 1153 ـ 1147 ق. م من حجر طيني بطول 128 سم وبعرض 50 سم وبعمق 32 سم. تمثال للإلهة سخمور “القوية” في وضعية الجلوس من طيبة في مصر من السلالة الثامنة عشرة نحو 1350 ق. م وهو من الجرانيت بارتفاع 146 سم وبعرض 46 سم وبعمق 77 سم. مسخمت آلهة الدمار والخراب، وهي العين النارية لرع إله الشمس. تمثال للآلهة باستت كقطة جالسة من العصر المتأخر 664 ـ 305 ق .م من البرونز. تمثال الآلهة برأس كبش من العصر المتأخر ذاته ومن البرونز الصلب، وضريح أوزوريس 1250 ق. م من حجر مكسي، حيث يظهر إله الحياة الآخرة ـ أوزوريس ـ داخل ضريح قد خصص من مثل “باسانيسو” كاتب القرابين لجميع الآلهة. “امنحوتب الأول” الملك المعظم، له لوحة من حجر كلسي تروي لقاءه مع الملكة أحمس نفرتاري يجلسان أمام جرار الماء والقرابين. أفريقيا الفنون تنوعت بثقافاتها، شعوبها، لغاتها، تاريخها، ارتحل الإنسان الأول منها إلى آسيا وأوروبا منذ نحو مليون سنة مضت، عبر كل هذه المفاصل المهمة في تاريخها وتنوع حضاراتها جاءت التقاليد الثقافية متنوعة فيها. في “كنوز ثقافات العالم” ترى أربع لوحات نحاسية من نيجيريا وبنين، من نحاس القرن السادس عشر الميلادي، حيث الملك أوبا مع كبار القادة والجنود في بنين. ومن بنين رأس تذكاري نحو 1550 م من نحاس وحديد، شكل منمق وقلادة حبوب المرجان. تمثال خشبي منحوت من جنوب أفريقيا من زولو أوتسونجا، يستخدم خلال الاحتفالات البدائية لعلاج الأمراض، خشب محروق. كرسي مرتفع الظهر من زنجبار ـ سواحيلي من الأبنوس والعاج وعظم وقطن، وهو كرسي السلطة “كبتا تشا إنزي”. تمثال لفارس خشبي من ساحل العاج غرب أفريقيا. وتنتهي مرحلة أفريقيا بأيدي نسائها الرائعات، وهن ينسجن حريراً “لامبا” من مدغشقر، منسوجة رائعة في خطوط ملونة، تقابلها لوحة أخرى من الحرير المنسوج من اثيوبيا كحرم داخلي مقدس من الهيكل الرئيسي للكنيسة في اثيوبيا. إنها واحدة من أكبر المنسوجات المحاكة في العالم. تلك هي أفريقيا، ما بين أصول الإنسان فيها، من صلابة حجارتها المسننة حتى رقة حريرها المنسوج بأيدٍ رقيقة.