بينما كانت الأسواق العالمية خلال الشهر الجاري- تتداعى تحت وقع الأزمة المالية والمستثمرون منكمشين على أنفسهم في حالة ذعر، كان الملياردير الإيطالي ورئيس وزرائها ''سيلفيو بيرلوسكوني'' يشاهد هو الآخر أسهم شركاته تتهاوى أمام عينيه وتفقد 40 بالمائة من قيمتها، لكن مع ذلك حافظ على توقده ونشاطه وبدا مستمتعاً إلى أقصى حد بوقته في أحد الملاهي الليلية بمدينة ميلانو، حتى بزوغ الفجر مباشرة بعد انتهائه من اجتماع مع القادة الأوروبيين حول كيفية التعاطي مع الأزمة المالية· وتأكيداً لهذه الروح المرحة نقلت صحيفة ''لاريبوبليكا'' الإيطالية عنه مخاطباً حشداً من الشباب ''يكفيني أن أنام ثلاث ساعات لأستمر في نشاطاتي الأخرى، وأرجو أن تكونوا بنفس اللياقة عندما تصلون السبعين من العمر''؛ غير أنه وبصرف النظر عن الحركات المسرحية التي يتقنها ''بيرلوسكوني'' وتجعله محط إعجاب وكراهية في نفس الوقت، فإن تصريحاته المتفائلة تعكس بالفعل حقيقة وضعه في المرحلة الراهنة؛ حيث يعيش اليوم وهو ابن الثانية والسبعين من العمر أقوى لحظاته بحضوره المتصاعد ونفوذه المتنامي على الساحة السياسية في إيطاليا؛ والسبب أن هذا الرجل الذي يحتل أصلاً مكانة متميزة في صلب الحياة الاقتصادية والسياسية للبلد مهيأ اليوم للإشراف على مليارات الدولارات من المال العام لإنقاذ الشركات الخاصة التي قد تحتاج إلى المساعدة· هذا التوسع الجارف لقوة بيرلوسكوني وسطوته الداخلية، التي يحذر البعض من خطورتها ويعتبرها البعض الآخر ضرورية في الوقت الحالي، تأتي فقط لتأكيد تلك المقولة المنتشرة على نطاق واسع ومفادها أن الإيطاليين نوعان: الذين يعملون مع بيرلوسكوني والذين على وشك العمل معه؛ وحول هذا النفوذ الراسخ لرئيس الوزراء الإيطالي يقول المعلق السياسي ستيفانو فولي موضحاً الأمر ''يسيطر بيرلوسكوني على الاقتصاد الذي هو في حاجة ماسة إلى تدخل الدولة في هذه اللحظة، لكن إذا كان يحتاج الدولة، فهو بالتبعية يحتاج بيرلوسكوني؛ والواقع أن القوة الاقتصادية التي يمتلكها رئيس الوزراء الإيطالي ليست منفردة، بل يصاحبها صعود سياسي غير مسبوق ونفوذ ضارب في الحياة العامة لم يصله على امتداد الخمس عشرة سنة الأخيرة، وهو ما جعله بالإضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون من بين القادة السياسيين في العالم الذين صعد نجمهم وتعززت مكانتهم بعد الأزمة المالية الأخيرة؛ ويبدو لحد الآن أن الخاسرين من الأزمة هما الرئيس الأميركي جورج بوش الذي تهاوت نسبة شعبيته بسبب الاضطرابات الاقتصادية، ورئيس الوزراء الروسي، فلادمير بوتين، الذي يعاني تراجع أسعار النفط وردود الفعل الدولية المنددة بالتدخل الروسي في جورجيا· وبالرجوع إلى ''بيرلوسكوني'' نجد أنه يتمتع بوضع مريح في البرلمان الإيطالي بعدما نجح تحالف وسط اليمين الذي يتزعمه، شعب الحرية، في الوصول إلى المجلس التشريعي خلال شهر أبريل الماضي بهامش كبير وصل إلى تسع نقاط، وهو اليوم أقوى من السابق لتخلصه من الأحزاب اليمينية الصغيرة، ويقود الحكم دون معارضة تقريباً بسبب تشتت اليسار في الانتخابات الماضية وانشقاق الحزب الديمقراطي خلال نهاية الأسبوع بعدما كان أهم قوة معارضة في البلاد؛ ويعبر عن هذا الواقع السياسي الذي يصب لصالح بيرلوسكوني ''فوريشيو دي بورتولي'' -مدير تحرير إحدى المجلات الاقتصادية ذائعة الصيت- قائلا: ''إنها مرحلة يحكم فيها بيرلوسكوني دون معارضة، ولست متأكداً ما إذا كان ذلك مفيداً للبلد· وبرغم أن الدولة في إيطاليا كانت دائماً لاعباً أساسياً في الاقتصاد، حيث العلاقات الشخصية تحظى بأهمية كبيرة، ورغم استعدادها اليوم على غرار باقي الدول الأوروبية للتدخل لإنقاذ المؤسسات المالية المترنحة، إلا أنه عندما يكون رئيس الحكومة هو نفسه من أقوى رجال الأعمال وأكثرهم ثراء في البلاد فإن النتيجة قد تسير باتجاه تكريس نظام الريع؛ ولئن كانت شعبية القادة السياسيين عادة ما تتأرجح صعوداً وهبوطاً اعتماداً على الحالة الاقتصادية للبلد، فإن الأمر يبدو مختلفاً في إيطاليا التي لا تنطبق عليها تلك القاعدة، فرغم تدني مؤشر المداولات في سوق الأسهم الإيطالي إلى أكثر من 22 باالمائة وتنامي المخاوف الاقتصادية التي رافقها ارتفاع نسب الفائدة على الرهون العقارية، لم تتأثر شعبية ''بيرلوسكوني'' التي وصلت إلى 62% حسب استطلاع الرأي الذي أجرته في الأسبوع الماضي صحيفة ''لاريبوبليكا''· وقد أرجع منتقدوه في اليسار الإيطالي بمن فيهم زعيم الحزب الديمقراطي ''والتر فيلتروني'' هذا النجاح إلى تأثير ''بيرلوسكوني'' الطاغي الذي يمارسه عبر التلفزيون العام والخاص، لا سيما وأنه يملك ''ميدياسات''، أكبر شركات البث الخاصة في إيطاليا، هذه الشركة التي تهيمن على قنوات تلفزيونية مؤثرة في البلاد لا تتحرى بالضرورة التوازن في البث، خاصة وأن منظمة حكومية أشارت إلى أنه ما يخصص من برامج تلفزيونية للحكومة يفوق بكثير ما يخصص للمعارضة؛ ويبدو أن التطمينات التي أطلقها ''بيرلوسكوني'' في وقت سابق حول متانة الاقتصاد الإيطالي وعدم تأثره بالأزمة المالية، لم يمنعه من الدعوة يوم الثلاثاء الماضي إلى اجتماع سيعقد في الأسبوع القادم بين البنوك وجمعية الصناعيين للتأكد، كما قال بأن ''الأزمة المالية لن تؤثر سلباً على الاقتصاد''؛ لكن مع ذلك بدأت المخاوف تبرز في الساحة الإيطالية من تنامي قوة ''بيرلوسكوني'' وحكومته إلى درجة أن وزير ماليته ''جيوليو تريمونتي'' سعى يوم الاثنين الماضي إلى التقليل من مخاوف سيطرة الدولة على الاقتصاد، مؤكداً أن عملية ضخ الأموال في المؤسسات المالية ستمارس بحذر كبير· راشيل دوناديو- روما ينشر بترتيب خاص مع خدمة ''نيويورك تايمز''