تقديم
وفّر لنا عصر المعلومات تحديات وفرصا جديدة أثرت على حياة كل منا· فلقد تغيرت بشكلٍ جذري أساليب جمع المعلومات ونقلها للآخرين، كما مكنتنا التقنيات الحديثة من مشاهدة الأحداث الرئيسية حال حدوثها في أي مكان من هذا العالم، وبتنا نعرف ردود الأفعال على هذه الأحداث بسرعة مذهلة· وهكذا فإن الأخبار والتقارير التي تردنا من وسائل الإعلام عبر الأقمار الصناعية وشبكات الألياف البصرية والإنترنت، طغت على كل شيء، وصارت تشكل ملامح العالم الذي نعيش فيه· وفي ضوء الاتجاه القوي والسائد للاعتماد المفرط على وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، سواء كانت محطات تلفزة أو إذاعة، أو صحف ومجلات، أو مواقع إلكترونية، وإمكانية تأثيرها في الحد من التركيز على الحقائق وتحليلها، تبرز الحاجة إلى توفير رديف يتمثل في مادة تستند إلى البحث الجيد والمكثف، وتساعد على التعلم والفهم وطرح الأسئلة والتخيل· في هذا السياق يأتي الكتاب السنوي لدولة الإمارات العربية المتحدة ليقدم عرضا مفصلاً وواقعيا للأحداث التي عشناها على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية، وكلنا أمل أن يكون ، كما نريده ، تواصلاً بين الماضي والحاضر، وأن يحظى هذا الكتاب بالاهتمام الذي أظهره القراء في الأعوام الماضية·
عبد الله بن زايد آل نهيان
وزير الإعلام والثقافة
أصدرت وزارة الإعلام والثقافة الكتاب السنوي لدولة الإمارات العربية المتحدة ،وهوكتاب توثيقي ومرجع هام للمختصين وللقراء العاديين ، يعوّل عليه لبناء ثقافة تراكمية للأجيال ،تتجاوز رصد ما يحدث في هذه السنة أو تلك من إنجازات إلى إقامة جسر نحو المستقبل دون نسيان للماضي أو عدم إلمام باللحظة الراهنة ، على هذا النحو يبدو الكتاب السّنوي عملا متجددا ، وإضافة نوعية ، لا يغني عنه المنشور هنا وهناك خلال السنة الجارية ، ولا تقلل من أهميته توقعات المراقبين ، ناهيك على أنه الحكم الفصل لجهة المعلومات الخاصة بدولة الإمارات لكونه يأخذها من مصادرها الأصلية ··ورغم أن الكتاب اشتمل على جوانب معرفية كثيرة تعلقت بالنظام السياسي والتنمية الاقتصادية والبنية التحتية العامة والتنمية الاجتماعية والإعلام والثقافة والشباب والرياضة والبيئة، وحقائق وأرقام حول جملة من المواضيع الأخرى ،إلا أننا سنتناول بالعرض هنا ' لمحات من التاريخ القديم للإمارات' لجهة التنقيب على الأسس الحضارية والتاريخية، و للقول أيضا أن تراث الماضي يؤسس- إذا تمّت العودة إليه بوعي- للحاضر والمستقبل ، إذن فهو البداية ، وهو حديث الحاضر، الذي يجبّ أي حديث قبله ··ترى كيف كان ذلك التاريخ ؟··الإجابة في هذا العرض - اعتمادا على الطريقة المعتمدة في 'الاتحاد' لنشر الكتاب- مع التأكيد على أن المواضيع الأخرى التي احتواها الكتاب السنوي لا تقل أهمية عن الجانب التاريخي ، لكن تمّ اختيار هذا الأخير لاجتهاد خاص ، والآن لنترك التاريخ يتحدث
ترويض الجمل ·· والعصر الحديدي الثاني
عرض- خالد عمر بن ققه:
يواصل الكتاب السنوي لدولة الإمارات العربية المتحدة رحلته في أعماق التاريخ بهدف التأصيل وإثبات الأسس الحضارية لهذا المجتمع ، لدرجة يجعل القارىء يتفاعل معه بشكل إيجابي ، ليس فقط لكثافة المعلومات وإنما لحشده جملة من الحقائق العلمية أولا وللأسلوب الشيق في الطرح ثانيا، وللسرد الممتع ثالثا ، ومع ذلك فإن ما جاء في الكتاب يتطلب صبرا طويلا لدى القارىء - كما هي الحال في معظم الكتابات التاريخية - وهذا لن يكون إلا لمن أراد أن يسير في هذه الأرض فيعرف الجذور والأصول من أهل البلاد ، أو لمن أراد أن يعرف الثراء والتميز في تاريخ أمته على أن يكون متخلصا من أوزار الإستعلاء على تاريخ المنطقة وثقافتها ، غير مأخوذ بعزة بداية التاريخ في بلاده ، أو معتقدا أنها قد تكون النهاية··على العموم علينا أن نواصل هذه الرحلة التي تجعنا نعيد قراءة الحاضر باعتباره بعدا زمنيا من ضمن أبعاده الثلاثة
القلعة الضخمة
ينتقل بنا الكتاب إلى العمران والتجمع البشري فيذكر ما يلي : قامت القرى الأولى في دولة الإمارات على أساس زراعي، ولكي يوفروا الحماية لاستثماراتهم في الأرض والماء والموارد الطبيعية، ربما شعر سكانه هذه القرى بأنهم مضطرون لبناء تحصينات هائلة، وظهرت هذه المباني لأول مرة في منتصف العصر الألفي الثالث قبل الميلاد و تشبه من الناحية المعمارية مباني ما تسمى بفترة أم النار '2500 ق·م ـ 2000ق ـ م' ·
وقد تم اكتشاف نماذج من قلاع فترة أم النار في موقع الهيلي ،1 والهيلي ،8 والبدية وتل أبرق وكلباء· وبينما يتراوح قطر معظمها بين 16 إلى 25 متراً، فإن قلعة تل أبرق التي يبلغ قطرها 40 متراً تعتبر الأكبر والتي لم يكشف النقاب عنها بعد ·
من ناحية أخرى، كان يعتقد، لعدة سنوات، بحدوث استمرارية رئيسية في التسلسل الآتاري لشبه جزيرة دولة الإمارت العربية المتحدة/عمان في نهاية القرن الألفي الثالث قبل الميلاد· و حقيقة الأمر أن العدد الإجمالي لمستوطنات أوائل العصر الألفي الثاني في دولة الإمارات لم يكن كبيراً ، بيد أنه من خلال تلك المستوطنات التي تمت دراستها ، كتل أبرق وأيضاً من المؤشرات السطحية في موقع مثل ند الزبة في رأس الخيمة ، يتضح أن بعض المراكز السكانية كانت مأهولة بصورة متواصلة طول الوقت، ولم تظهر أي علامات 'لتدهور' حضاري، و في تل أبرق، على سبيل المثال، ظلت القلعة الضخمة التي تعود لعصر أم النار مستخدمة حتى منتصف العصر الألفي الثاني قبل الميلاد مع بعض التعديلات على الحوائط الخارجية وإنشاء مبان جديدة في الداخل، و إضافة لهذه التعديلات الهندسية المعمارية، لوحظ حدوث تغيير رئيسي في غذاء سكان الموقع، حيث أصبح السمك و لمحار أكثر أهمية مما كانا عليه في أواخرالعصر الألفي الثالث قبل الميلاد، ويشكلان حوالى 50 بالمئة·
فترة وادي سوق
كما لوحظ أيضاً تحول مماثل من استغلال الحيوانات البرية إلى الموارد البحرية في منطقة 'شمل' حينما ينتقل المرء من أوائل إلى أواخر العصر الألفي الثاني قبل الميلاد ··إن مستويات فترة وادي سوق الأخيرة توازيها المستوطنات المأهولة في منطقة شمل في رأس الخيمة حيث كانت تقع منطقة سكنية في أسفل جبال الحجر وعلى مرمى البصر من بحيرة أشجار القرم القديمة ·
وتشتهر منطق شمل والمواقع القريبة منها مثل غليلة وضاية بمدافنها الجماعية العديدة التي تعود إلى فترة وادي سوق، إضافة لذلك فإن المدافن تحت الأرض الشبيهة بحدوة الحصان في وادي القور في جنوب رأس الخيمة و واحة قدفع في الفجيرة لابد أن تعود أيضاً إلى فترة وادي سوق، وكذلك المدافن الشبيهة بحرف ش كتلك التي اكتشفت في ضاية البثنة، علاوة على ذلك فإن المدافن المحفورة في داخل السبخة في منطقة القصيص في دبي تتضمن أيضاً العديد من تلك التي تعود إلى فترة وادي سوق ·
يواصل الكتاب الغوص في أعماق التاريخ مؤكدا على أهمية فترة وادي سوق ، فيقول : نشأت في أواخر العصر الألفي الثالث قبل الميلاد صناعة الأواني الصخرية الناعمة من طاسات و أكواب و صناديق مقسمة إلى أجزاء مزخرفة بدوائر منقطة ، و خلال فترة وادي سوق تزايدت أعداد الأواني الصخرية الناعمة المودعة في المدافن ، كما أن الأشكال الجديدة بالإضافة إلى النقوش والخطوط المائلة والأفقية العنقودية الشكل أتاحت بسهولة فصل الأواني الصخرية الناعمة عن سابقاتها في العصر الألفي الثالث قبل الميلاد ·
إن اكتشاف أكثر من ستمائة من كسور الأواني الفخارية البربرية الحمراء الأضلع ، والتي ظهر الآن أنها تطابق فخاريات مستوطنة في البحرين يشير إلى وجود اتصالات في هذا الاتجاه ، علاوة على ذلك ، كان لدى تل أبرق و شمل على حد سواء فخاريات تعود لما بعد فترة هربان في نصوص مطلع العصر الألفي الثاني الأمر الذي يوفر الدليل على وجود اتصالات مستمرة مع وادي السند في ذلك الوقت ·
حدثت عدة ابتكارات في أواخر العصر الألفي الثاني قبل الميلاد أدت إلى إحداث ثورة في إقتصادات جنوب شرق شبه الجزيرة العربية ، وغنى عن القول أن ترويض الجمل الذي شهدته نهاية العصر الألفي الثاني قبل الميلاد في تل أبرق كان فاتحة لإمكانيات جديدة في مجال النقل البري ، بينما أدى اكتشاف نظام الفلج لنقل المياه من الطبقات الصخرية المائية إلى الجنائن عبر قنوات إلى إمكانية التوسع في ري الجنائن والأراضي الزراعية مما نجم عنه انفجار حقيقي في الإستيطان عبر شبه جزيرة الإمارات /عمان ·
تل أبرق ··والروح الشريرة
وتقليديا كان يشار إلى الفترة من 1200ق·م إلى 300ق·م كعصر الحديد، بيد أنه ليس هناك تعبير أقل ملاءمة من هذا، حيث أن الحديد لم يستخدم في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية حتى الفترة التالية ·
وباستثناء مدفن في السماح في رأس الخيمة يحتوي على مواد من العصر الحديدي الأول ، تأتي من المواقع الساحلية الخليجية في موقعي شمل ،وتل أبرق، وسلسلة من ركام المحار في موقع الحمرية في الشارقة ، هذا وقد تواصلت أهمية السمك والمحار في طعام سكان العصر الحديدي الأول ، على الرغم من أنهم كانوا يربون الضأن والماعز والماشية الأليفة ، كما أنهم استغلوا أيضا الغزلان والمها العربية والأطوم والسلاحف وطيورالغاق، إلى جانب ذلك كانوا يقومون بزارعة القمح والشوفان وظلت أشجار النخيل هامة كالعادة·
كان العصر الحديدي الثاني هو العصر'الكلاسيكي' الحديدي في دولة الإمارات ، وتشهد على ذلك الحفريات التي كشفت عن عدة مبان من الأجر الطيني في عدد من المواقع كالرميلة وبنت سعود والهيلي 2 والهيلي 14والهيلي 17في منطقة العين ،وأيضا في الثقيبة وأم سفح في سهل المدام ومويلحة في المناطق الصحراوية الرملية بالقرب من مطار الشارقة الدولي ، كما تحديد العديد من المدافن والمستوطنات في مواقع أخرى ·
وتشير التقديرات إلى أنه تم توثيق حوالي 150 موقعا على الأقل عن هذه الفترة في دولة الإمارات وسلطنة عمان المجاورة ، ويعزى الإنفجار في المستوطنات في هذه الفترة بصفة عامة لإختراع تقنية الري بالأفلاج ، كما أن أسلوب الزراعة باستخدام المعزقة، قد يستنتج من إكتشاف نصل معزقة برونزية في موقع الرميلة· من ناحية أخرى كانت هناك مؤشرات على وجود إتصالات بالمناطق الخارجية من خلال العثورعلى قلادة حجرية ناعمة في تل أبرق تظهر شكلا يذكربصورة الروح الشريرة التي كان يعتقد بأنها تسبب انتشار الأمراض في العصر الشوري الحديث والعصر البابلي الحديث، كما أن هناك اعتقادا سائدا بأن هذه القلادات تحمي صاحبها من الأمراض ، وتتضح المؤشرات أيضا على وجود إتصال فعلي بالعالم الخارجي من خلال قلادة أخرى على هيئة قارب في تل أبرق ، وهو الأثر الوحيد الذي يصورالعصر الحديدي في شبه جزيرة الإمارات /عمان·· ومن الواضح أنه يشبه القارب الشراعي العربي المثلث الشكل لم تشهده المنطقة إلا في فترة الساسانيين ، كما لم يكن معروفا في منطقة البحر الأبيض المتوسط حتى العام 900 ميلادية ، ويستنتج من ذلك أن قلادة تل أبرق كانت أقدم من صورة القارب الشراعي يتم اكتشافها حتى الآن ·
داريوس والإسكندر··والخليج العربي
وبالنسبة للعلاقة بالآخر في ذلك التاريخ يذكر الكتاب ما يلي : لا بد أن اضمحلال الفارسية كانت لها آثار وتداعيات على منطقة جنوب شرق شبه الجزيرة العربية ، حيث انه مع هزيمة داريوس الثالث وموته، لم تعد منطقة ماجان ولاية فارسية تخضع لحكم مرزبان، وعلى صعيد آخر لم تشمل فتوحات الإسكندر الأكبر الجانب العربي من الخليج، وعلى الرغم من أنه ورث الجزء الأكبر من الإمبراطورية الإخمينية، فإن الخطط الأخيرة للقائد المقدوني والتي تضمنت غزو شبه الجزيرة العربية، لم تتقدم مطلقا فيما وراء مرحلة الاستطلاع الأولية ·
وهكذا، وبحلول القرن الثالث قبل الميلاد كان جنوب شرق شبه الجزيرة العربية متحررا من النفوذ السياسي الأجنبي· وأنه يتعين النظر للتطورات التي شهدتها القرون اللاحقة من خلال هذا الواقع، ذلك أن أياً من خلفاء الإسكندر الأكبر لم يتمكن من فرض سيطرة الإغريق في هذه المنطقة· وباستثناء مليحة التي كانت مستوطنة تمتد لعدة كيلومترات على سهل من الحصباء جنوب الذيد، لا توجد أي مستوطنات أخرى يمكن أن تنسب إلى هذه الفترة ·
وتمثل مستوطنات مليحة استقرار الإنسان بصورة متواصلة في منطقة تتوفر فيها مقومات الحياة من ماء ووسائل ري جيدة منذ أواخر عصر ما قبل التاريخ · ويلاحظ أن المستوطنات التي قامت في وقت مبكر من فترة ما بعد العصر الحديدي شيدت من سعف النخيل والمواد المحلية الأخرى لتناسب الطقس الحار لشبه جزيرة الإمارات / عمان ·
الحديد ··والسجلات الأثرية
بيد أن الموتى كانوا يدفنون في مقابر أكثر تماسكا وقوة باستخدام الآجر الطيني تعلوها أبراج صلبة من الآجر تتوجها شرفات حجرية مزخرفة· وتذكرنا هذه البنيات ، التي لم تكن لها سابقة في المنطقة، بالقلاع التي استخدمت كمدافن في تدمر، وقرية الفاو ، وفي الفترات الأولى في البتراء· كما نجد أن هذه المستوطنات والمدافن على حد سواء قد حفلت بكميات من الأواني الخزفية، كان من الواضح أن بعضها تم تصنيعها محليا بعد إدخال بعض التعديلات على النقوش التي كانت سائدة أبان العصر الحديدي، والبعض الآخر تم استيرادها من خارج المنطقة وتتضمن الخزف اللامع والتي يبدو أنها من إنتاج جنوب غرب إيران أو جنوب العراق، باللإضافة إلى الأواني الحمراء والسوداء التي يعرف من شكلها أنها آتية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية، أو جزر البحرين أو فيلكا المجاورة · هذا إلى جانب أوان خزفية إغريقية مستوردة من بحر إيجه أو البحر الأبيض المتوسط، وتذكرنا بعض الأواني كالأباريق المصنعة من البرونز المحفور وأخرى مرمرية على شكل خلايا النحل عثر عليها في مليحة 2 ببعض النماذج من جنوب شبه الجزيرة العربية، وهذه حقيقة هامة فيما يتعلق باستعادة العديد من المواد ( أعمدة حجرية، وطاسات برونزية) تعود إلى منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية شأنها شأن عدد من القطع النقدية المعدنية التي تم العثور عليها في سطح الموقع·
إن أحد أكثر الابتكارات التي تميز أواخر عصر ما قبل الإسلام هو ظهور الحديد لأول مرة في السجلات الأثرية لمنطقة جنوب شرق شبه الجزيرة العربية · فإلى جانب المواد المفيدة كالمسامير ، استخدمت أيضا السيوف الطويلة ورؤوس السهام ، وسواء تم تصنيعها محليا أم لا، فهذا أمر آخر ، لكن بالإضافة إلى وجود مناطق تزخر بالحديد بالقرب من جبل الفاية، وجبل أملح، وجبل البحيص إلى الجنوب من مليحة ، فإن سطح الموقع نفسه تتناثر فيه بقايا قطع حديدية مما يوحي بقيام بعض صناعات صهر وسبك الحديد في المنطقة ، أما لماذا لم يستخدم الحديد مبكرا ؟ فإنه سيظل لغزا محيرا ، وربما كانت وفرة موارد النحاس في جبال الحجر والتقليد القديم في صناعته عاملا هاما ساهم في عدم الاهتمام المبكر بصناعة الحديد·