عثر محمود درويش مؤخرًا على رمز الفراشة ليجسد به عوالم الشعر في تحليقها عبر المتخيل النشط، وفي هشاشتها المفعمة بتحولات الجمال والتلون بالصور الرائقة، وفي حريتها المطلقة التي تفقد جوهرها إن تخلت عنها، والتي يكون فيها حتفها· وفي كثير من الإيحاءات الأخرى المرتبطة بالصيد والطفولة والعبثية المرحة· ولعل هذه الحالة الشعرية المدوّمة مع حركة الفراشة هي التي قادته إلى تأمل تقلبات الطبيعة في فصولها المختلفة، ليمنحنا عبر إشارات مكثفة موجزًا لرؤيته لحركة الزمن فيها· يقول في مقطوعة ''صيف وشتاء'': ''لا جديد· الفصول هنا اثنان· صيف طويل كمئذنة في أقاصي المدى· وشتاء كراهبة، في صلاة خشوع· وأما الربيع/: فلا يستطيع الوقوف على قدميه سوى للتحية: أهلاً بكم/ في صعود يسوع'' الغريب أن يسيطر المتخيّل الديني على وجدان درويش وهو يستبطن تلاحق الزمن؛ إذ يشرع في رؤيته مدركًا أنها قد لا تحمل من الجدة سوى اختزالها للفصول في حركتين بدلاً من أربع، حركتان طاغيتان هما الصيف المتطاول مثل المئذنة الممتدة إلى أقاصي المدى في عناقها للسماء، فهو فصل مكشوف وعمودي وخارق للفضاء، بمقدار ما يتشاكل الشتاء - في دفئه وحميميته وزهوه - براهبة مستغرقة في خشوع الصلاة· على حافة هذا الشتاء لا يكاد ينهض الربيع متحاملاً على قدميه ليلقي تحية الفداء على الإنسانية وهي تتمثل في صعود يسوع الذي يتوج أسبوع الآلام، فصل عابر وأليم وخادع مع أنه مفعم برموز الروح والمحبة والتضحية كلها: ''وأما الخريف/ فليس سوى خلوة للتأمل فيما تساقط من عمرنا في طريق الرجوع· فأين نسينا الوجود؟ سألت الفراشة وهي تحوّم في الضوء/ فاحترقت بالدموع'' الخريف عند الشاعر فجوة الغياب، وعي بالفناء، وإدراك لوجع الفقد، عندئذ ينتفض ليطرح سؤال الوجود الفاجع: أين نحن من دورة الزمن؟ بيد أنه لا يسأل عقل الإنسان الذي طالما تفلسف في هذا المضمار، بل يسأل تلك الفراشة الطائرة المحوّمة في لجة الضوء وهي غالبًا تدرك أن هلاكها يكمن في افتتانها وتحليقها، فراشة الشعر الملهمة التي طالما حاكت الروح واخترقت ضمير الغيب، فلا تكون إجابتها سوى طقطقة الاحتراق باللهب والتساقط في دمعه· اللافت في هذه المقطوعة أن التمثيل الديني للوجود يمتد فحسب عبر الشتاء والربيع والصيف· أما الخريف الذي يواجه فيه الإنسان مصيره فلا يبقى له من يقين فيه سوى التساؤل عن جدوى الدورة الكاملة ومستقرها الأخير، مما يحيل الزمن إلى لغز والحياة إلى مجرد أمثولة مطروحة على التساؤل الكوني أمام روح الشعر المهوّمة· لقطات سريعة من مشهد كلي تتبعها لقطات أخرى تستكمل رؤية الزمن والوجود عند درويش تغري بالمتابعة والمتعة التأمل