تميز الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب بالأناقة الشديدة والاهتمام البالغ بمظهره، وانطلقت شائعات وحكايات أقرب إلى الأساطير عنه، منها أنه لم يكن يستحم بالماء نهائيا بل بالكولونيا· والمفاجأة أن عبدالوهاب نفسه تعمد إثارة تلك الشائعات عنه، وكشف هو ذلك في حديث أدلى به للناقد الراحل جليل البنداري، ونشر عام 1958 في كتاب بعنوان ''عبدالوهاب طفل النساء المدلل''· كان عبدالوهاب يرى أن ما يقوم به يرجع إلى نص واحد لخصه في جملة: أنا احترم نفسي· ويفسر هذه الجملة باستفاضة قائلا: لقد نشأت في مصر فوجدت الناس يحتقرون الفنانين، وفي بداية حياتي الفنية واشتغالي بالغناء، كان المطرب الذي يحيي حفل الزفاف ينحني على يد صاحب الحفل ويقبلها، وكان المطرب والموسيقيون يتناولون عشاءهم في الافراح مع الخدم، وكان الفنانون يتناولون وجبتهم من فتات موائد المدعوين··· واحسست في ذلك الوقت بأنني اعيش وسط قومي بجرح في كبريائي، وهذا الجرح هو الذي جعلني أغالي في الاحتفاظ بكرامتي· مواقف محرجة ولم يكن عبدالوهاب يطلق حديثا نظريا، فقد تعرض لمواقف محرجة من هذا النوع، وحدث مرة أن دعاه أحد العمد في بنها لإحياء حفل زفاف ابنته، وبعد ان انتهت الفرقة جاء أحد أقارب العمدة يدعو عبدالوهاب وفرقته لتناول العشاء، هنا صاح العمدة في قريبة: ''لا سيب دول للآخر''··· واعتبرها عبدالوهاب اهانة بالغة، واخذ أعضاء الفرقة وانسحبوا من الحفل، ورغم أن العمدة اعتذر عدة مرات لكن عبدالوهاب رفض الاعتذار· وكان المدهش انه ليس المجتمع وحده هو الذي يحتقر الفنانين، لكن الفنانين في المقابل يشجعون الآخرين على ذلك او يقبلونه فلا يحترمون انفسهم وقد رفض عبدالوهاب ذلك· ويقول: اضطررت إلى أن أضع لهم تقاليد وادابا جديدة للمهنة، كما استطعت أن أكون منهم أسرة واحدة متماسكة متكاتفة، حتى أصبحت لهم نقابة مهنية مثل نقابات الصحفيين والمحامين والمهندسين· فرقة ارستقراطية اهتم عبدالوهاب باعضاء فرقته فألزمهم جميعا بارتداء البدلة الاسموكنج، رغم ان السائد وقتها ان الموسيقي يرتدي جلبابا ومن فوقه معطف عادة ما يكون مستعملا، وكان ظهور أعضاء فرقة عبدالوهاب بالاسموكنج حدثا لفت انتباه المعلقين والصحفيين ورموز المجتمع، فاندفع الارستقراطيون يطلبون عبدالوهاب وفرقته تحديدا، وكان خصومه يرون أنه بذلك رفع سعره في السوق، وأن الهدف مالي بحت، لكن عبدالوهاب نفسه فسرها بانه انتزع من قمة المجتمع الاعتراف بقيمة الفن واحترام الفنان، وأن هذا الاحترام امتد إلى فئات وطبقات المجتمع كله، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي من محيطه الى خليجه، ووصل الأمر إلى أن كبار المسؤولين يسعون اليه، بل وبعضهم حاول التشبه به وتقليده في الغناء وليس هناك فرق كبير بين رؤية خصومه ورؤيته هو فان ترتفع قيمة الفن في المجتمع يعني بالضرورة ارتفاع سعره ماديا· وكان عبدالوهاب قد بدأ يلحن قصيدة ''الكرنك'' التي كتبها الشاعر احمد فتحي والتقى باثنين من اصدقائه الوزراء المهتمين بالفن فاقترح عليه احدهما ان يقوم بتلحين القصيدة في معبد الكرنك نفسه حتى يستوحي الجو القديم وقد اخذ بالاقتراح· ومصادفة اصطحب رئيس الوزراء وقتها الوزراء وقرروا قضاء جانب من فصل الشتاء بين الاقصر واسوان وقضى عبدالوهاب عدة ايام في الاقصر حيث معبد الكرنك واتم اللحن ثم انتقل الى فندق كتراكت باسوان ليقضي به بعض الوقت وفي البهو كان رئيس الوزراء وحوله عدد من الوزراء فتقدم عبدالوهاب يصافحه فرفض رئيس الوزراء ان يمد يده واحرج عبدالوهاب وقال له رئيس الوزراء ''لا انا ما سلمش عليك'' وكررها عدة مرات ودار حوار بينهما وعبدالوهاب في غاية الخجل وكان رئيس الوزراء حانقا وغاضبا بالفعل واتهم عبدالوهاب بأنه يغني كلاما فارغا واتضح ان الباشا كان قد حضر الحفل الأخير لعبدالوهاب وغنى فيه عدة اغنيات الاخيرة منها اغضبت رئيس الوزراء بسبب بيت فيها يقول ''مسكين وحالي عدم من كتر هجرانك·· ياللي تركت الوطن والأهل علشانك'' اغضبت الجملة رئيس الوزراء لانه لا توجد حبيبة تستحق أن يهجر الإنسان وطنه من أجلها، واعتبر ذلك ضد الوطنية وابدى رئيس الوزراء اندهاشه من أن وزارة الداخلية سمحت بتلك الأغنية ولم تمنعها، لانها تنطوي على استهانة بالوطن والوطنية· وفي اليوم التالي استيقظ عبدالوهاب من نومه فلم يجد العود في غرفته، فشعر بالقلق وأخذ يسأل ويستفسر، وعرف أن أحد الوزراء طلب العود في غرفته، فلم يشأ خدم الفندق ايقاظ عبدالوهاب وازعاجه فأخذ احدهم العود إلى غرفة الوزير، فذهب عبدالوهاب إلى غرفة الوزير ليجده يعزف بالعود لحنا له هو لحن يا زهرة البساتين/ يا محيراني سنين· وكان الوزير يتمتع بصوت جميل وكان يهوى الألحان خاصة، التي يشترك فيها الكورس، وهذا الوزير هو الذي اقنع عبدالوهاب بادخال الكورس إلى الحانه واغنياته· وفي المساء أخذ عبدالوهاب العود وذهب بنفسه الى غرفة الوزير يعزف ويلحن اغنية جديدة من الحانه التي ذاعت بعد ذلك وحتى اليوم وهي: ما كانش ع البال تشغل بالي/ يا روحي وتسهرني ليالي· ''دق'' يا محمد وفي أثناء عزف اللحن، دخلت زوجة رئيس الوزراء وجلست تتابع اللحن إلى ان انتهى ثم دخل رئيس الوزراء بنفسه فجلس الى جوار زوجته يتابع وكان عبدالوهاب قد بدأ يعزف لحنا راقصا فاذا برئيس الوزراء يهب واقفا ويخلع المعطف ويجذب ايشارب زوجته ويحزم نفسه به، واخذ يرقص على ايقاعات اللحن مما أحرج عبدالوهاب كثيرا، فتوقف عن العزف كي يتوقف رئيس الوزراء عن الرقص، لكن الأخير صاح به أن يواصل العزف وأخذ العرق يتصبب منه، وكلما أراد عبدالوهاب التوقف صاح به ''دق يا محمد'' وبالطبع كان الوزراء يصفقون مشجعين رئيسهم على مواصلة الرقص وكان عبدالوهاب في غاية الاندهاش ليس فقط من رقص رئيس الوزراء، ولكن من أنه هو الذي صاح فيه ورفض مصافحته في بهو الفندق وأمام الجمهور· الأستاذ مشغول عبدالوهاب شخصيا مارس ما يسميه المصريون ''قلاطة''، أو الاعتداد المبالغ فيه بالنفس·· ومن الوقائع الطريفة في هذا الصدد ما حدث عندما طلبه أحد الباشوات، وكان يشغل منصبا وزاريا، لإحياء حفل زفاف ابنته، فجاء الرد بأن الأستاذ معتكف في غرفته ولم يخرج بعد، وطلبه ''الباشا الوزير'' فجاءت الإجابة أن الأستاذ مشغول بلحن في غرفته وممنوع ادخال الهاتف له فعاد الوزير ملحا وطلب الانقاذ لأن زفاف ابنته لن يتم بدون صوت عبدالوهاب، عندها فقط خرج عبدالوهاب من عزلته ورد بهدوء شديد على الهاتف وحدث ذلك كله بينما هو الى جوار الهاتف من اللحظة الاولى· أمير الغناء··· وأمير الشعراء استفاد عبدالوهاب كثيرا، سواء في ترسيخ اعتداده بنفسه، أو في توسيع دائرة علاقاته مع ذوي النفوذ، من احتكاكه بأمير الشعراء احمد شوقي··· وقد كان باشوات ذلك الزمان وكبار المسؤولين يترددون على شوقي في منزله على نيل الجيزة، واعتاد عبدالوهاب أن يتعامل معهم بندية، أو بتعبيره هو انه لم يكن محتاجا اليهم في شيء ولذا كان يرى انه ليس اقل منهم ولا دونهم· وقد أفاد شوقي عبدالوهاب كثيرا، وتعلم الأخير منه أن يكون ارستقراطيا وأن يفرض ذلك على المحيطين به·