تحتل الرواية المغربية مكانة بارزة في الإبداع الروائي العربي، وتؤشر على حضورها المميز على الخريطة الإبداعية المغربية علامات عدة، ومثل شقيقتها الرواية العربية مرت بأطوار وتمرحلات أسلوبية وفكرية، وراكمت تراثاً من الممارسة على مدى العقود السابقة. ومع فوز رواية الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري مؤخراً بجائزة البوكر عن روايته “القوس والفراشة” بدا من المناسب طرح سؤال الرواية المغربية واجتراحاتها، فكان هذا التحقيق. يقول الناقد والأكاديمي المغربي الدكتور عبدالمالك أشهبون لـ “الاتحاد الثقافي”: “إن التجربة الروائية المغربية تحفل، طوال مراحلها السابقة بخصوصيات فنية لافتة، من بينها الحفاظ على نفس الوتيرة الإبداعية، والتطور المطرد، من منطلق أساسي مفاده: أن التطور الكمي يفرز بين طياته ـ لا محالة ـ تطورا نوعيا، وهذا ما تشهد به التحققات النصية، بمختلف موضوعاتها، وتعدد طرائق سردها”. ويشير أشبهون إلى أن الرواية كانت في بداياتها “تتأرجح بين الكتابة السير ذاتية والتاريخية، وذلك مع رواية “الزاوية” (1942) لللأديب والفقيه التهامي الوزاني، و “وزير غرناطة”(1950) لعبدالهادي بوطالب، و”في الطفولة” (1956) لعبدالمجيد بنجلون، و “رواد المجهول”(1956) لأحمد عبدالسلام البقالي، غير أنها انفتحت بعدها على نموذج الرواية المشرقية الذي كان مشدوداً إلى النزعة الأنجلوساكسونية، من حيث ثيمات الكتابة، والمعمار الفني، ووظيفة الكتابة الروائية من جهة، وعلى نموذج الرواية الواقعية ذات التوجه الأيديولوجي، التي أزهرت أفنانها، وأينعت ثمارها، في سبعينيات القرن الماضي من جهة ثانية (عبدالكريم غلاب، ربيع مبارك، وخناتة بنونة ومحمد زفزاف...”. فتح مثير للجدل ويتابع: “في ثمانينيات القرن الماضي برزت في المشهد الروائي المغربي، إرهاصات كتابة روائية ذات مرجعية فرانكفونية لها مواصفاتها وخصوصياتها. هذا التوجه الروائي الطارئ، شكَّلَ آنذاك فتحاً كبيراً ومثيراً للجدل لقارة جديدة أمام كتاب الرواية المغربية. ولقد مثل هذا الاكتشاف الجمالي لقارة الرواية الجديدة ـ كما تبلورت في فرنسا ـ ظاهرة روائية فريدة من نوعها، انعكست ظلالها وأصداؤها إيجابا على نموذج الكتابة الروائية، التي غدت متعددة المشارب، متنوعة المرجعيات، ثرية على المستوى الأسلوبي، تواقة إلى التجديد والتجريب وارتياد آفاق جمالية غير مطروقة، ومن نماذج الروايات الجديدة في الحقل الأدبي المغربي: “زمن بين الولادة والحلم” لأحمد المديني، “الضلع والجزيرة” للميلودي شغموم، و”الغربة” و”اليتيم” لعبد الله العروي، “رحيل البحر” لمحمد عز الدين التازي. واليوم يترسخ مفهوم التجريب في الكتابة الروائية من منطلقين: أولهما العودة إلى استثمار التراث والتاريخ ، “مجنون الحكم” و”محن الفتى زين شامة” و”العلامة” لبنسالم حميش و”جارات أبي موسى” لأحمد التوفيق. وثانيهما اختيار التخييل الذاتي (السيرة الروائية) أسلوبا في الكتابة، وهذا هاجس مجموعة من الروائيين الذين سجلوا سير حياتهم ومزجوها بأحداث متخيلة من منظور روائي يتقاطع فيه السير ذاتي بالروائي ومثال ذلك رواية :”القوس والفراشة” (2010) لصاحب البوكر لهذه السنة، وهو الشاعر والروائي والوزير السابق محمد الأشعري، بالإضافة إلى ظاهرة روايات السجن، والتي ازدهرت بقوة في السنوات الأخيرة، وشكلت تيارا عارما في المشهد الثقافي المغربي، وفي هذا الصدد نذكر رواية “معذبتي” (2010) للروائي ووزير الثقافة الحالي بنسالم حميش الذي انزاح عن نموذج الكتابة التي تنهل من التراث، ودخل غياهب السجون والأقبية”. ويختم قائلاً: “في هذا السياق الإبداعي الحافل والزاخر، تواصل الرواية العربية انسيابها النهري المتدفق الذي يحفر مجراه السردي ـ كما النهر ـ بتؤدة وإصرار وعزم. روايات يراهن كتابها على تجديد عوالم متخيلهم الروائي، وهذه المرة بالاقتراب أكثر فأكثر من ظواهر اجتماعية فاقعة الحضور في مغرب اليوم من قبيل: الدعارة وتجارة المخدرات والهجرة السرية، ومن خلال تناول سردي حكائي يشير إلى مجتمع يراهن على التحول، ولكنه يصطدم بمعيقات من صلب تَكَوُُّنِهِ وتشكله”. إعادة توازن من جهته، يلفت الدكتور محمد بوعزة إلى أن “صورة المغرب الثقافية ظلت لحوالي ثلاثة عقود في الخريطة الثقافية العربية تختزل في صورة المغرب الناقد، الذي يزدهر فيه الخطاب النقدي على حساب الخطاب الإبداعي”، ويؤكد أن تتويج رواية “القوس والفراشة” للشاعر الروائي محمد الأشعري بجائزة البوكر العربية، “جاء ليعيد لصورة المغرب الثقافية توازنها لدى المشرق العربي”. ويرجع أسباب تكريس هذه “الصورة النمطية” إلى عدة عوامل، من بينها: “أن المنجز النقدي المغربي استطاع أن يفرض خطابه كسلطة مرجعية، وهو ما ترتب عنه تغييب البعد الآخر من صورة المغرب الثقافية. أقصد البعد الإبداعي بمختلف أشكاله الشعرية والقصصية والروائية. فعلى الرغم مما عرفه المشهد الإبداعي المغربي من دينامية إبداعية سواء على صعيد التراكم الخطي أو التحولات النوعية في مستوى الشكل والرؤية وموجات التجريب والتجديد، ظلت صورة المغرب الناقد تهيمن على تمثيل المغرب الثقافي في المشرق العربي. وهذا ما يفسر أن أرقى الجوائز العربية المشرقية كانت من نصيب المفكرين والنقاد المغاربة وليس المبدعين (محمد عابد الجابري، محمد مفتاح، عبد الفتاح كيليطو، سعيد يقطين...)، بينما لم تنل أشكال الإبداع هذه الحظوة المعترف بها”. و يأخذ بوعزة على النقد المغربي أنه “ساهم في تكريس هذه الصورة الأحادية، حيث إن أغلب الكتب النقدية والأطروحات الجامعية اشتغلت على نصوص روائية مشرقية، وتجاهلت النصوص الروائية المغربية، وهو ما خلق انطباعاً وهمياً بأن الرواية المغربية لم ترق إلى مستوى الرواية المشرقية، ولذلك لم تجد طريقها إلى المحفل النقدي المغربي، بمثل الكثافة التي حظيت بها الرواية المشرقية، بل وصل الاستيهام بأحد النقاد في إحدى المحافل إلى التشكيك في وجود رواية مغربية عندما تساءل بنبرة استنكار مستفزة: “هل لدينا رواية مغربية؟”، وهذا ما يطرح مسألة النقد كسلطة تعمل في كثير من الأحيان وفق إستراتيجية الاستبعاد، وهذا ما يفرض إعادة النظر في الكثير من افتراضاته النقدية، التي لا تكون دائما مبنية على استقصاءات معرفية، بل على صراعات إيديولوجية مجانبة للحقيقة”. مصادرة أيديولوجية ويضيف: “لعل من أهم الكتب النقدية المؤسسة التي عملت على إزاحة هذه المصادرة الإيديولوجية كتاب الباحث الأكاديمي أحمد اليابوري “دينامية النص الروائي”، الذي عمل على إعادة الاعتبار للرواية المغربية، حيث تمكن من خلال قراءة عالمة بمسارين مزدوجين: “ما كرونصي” وصميكرونصي” استكشاف القيمة الكبيرة للنصوص الروائية المغربية، وتميزها في مجال الإبداع الروائي العربي، حيث تجاوزت مسألة التأثر والتأثير . وتمثلت هذه القيمة في خاصية الدينامية، التي تبلورت في إنجاز كتابة روائية وفق نموذج سردي دينامي (التهجين، الأسلبة، الباروديا، النسبية، الانشطار..)، يؤشر على التجاوزات والاختراقات لقواعد السرد التقليدي، وبذلك بلورت الرواية المغربية جمالية كتابة روائية منفتحة على أفق تجاوز الأشكال والصيغ الجاهزة، و استطاعت أن تؤسس لحظة وعي مزدوج، استطيقي وإيديولوجي متقدم”. ورغم هذا الانشغال بالرهانات الاستاطيقية، ظلت الرواية المغربية، بحسب بوعزة، منخرطة في أسئلة الراهن ومنشغلة بزمنيته. ففي ظل غياب التشخيص بمعناه الثقافي لكينونة المجتمع، لصالح سيادة “إساءة التشخيص” المميز للخطابات السياسية الإيديولوجية التي استنفدت إمكاناتها وتحولت إلى كليشهات جاهزة وصور نمطية، استطاعت الرواية المغربية أن تعيد تشخيص اللامفكر فيه والمسكوت عنه، وأن تؤسس بفضل لعبة التخييل والمعيش، لذاكرة مضادة في مواجهة التواريخ الرسمية والإيديولوجية، تلتقط “البقايا” والرواسب، غير المؤرخ لها في الأرشيف الرسمي للسلطة”. كتابة المنسي وينتقل إلى رواية “القوس والفراشة” ليقول: “في هذا الجهد التأملي التخييلي تعيد رواية “القوس والفراشة” كتابة الأرشيف المنسي للراهن المغربي، حيث تشخص تحولات ثلاثة أجيال من “آل الفرسيوي”: محمد الفرسيوي الذي انتهى به مصيره إلى دليل ضرير للسياح فيما تبقى من أطلال مدينة وليلي الأثرية، بعد إقامة طويلة بألمانيا، ويوسف الفرسيوي الابن العائد من أجل البحث عن الحقيقة، انتحار زوجته، بعدما اعتقد لمدة أن والده وراء مقتلها. وياسين الحفيد الذي انتهى به الضياع إلى إيديولوجية التطرف الديني، والالتحاق بجماعة طالبان ثم تفجير نفسه، ليسدل الستار معه على حكاية آل الفرسيوي. ثلاثة مسارات متداخلة ومتواشجة تنتظمها استعارة الخراب في مغرب تعددي، يبحث وسط الظلام عن بوصلة مستقبله”. ويرفض بوعزة ما ذهب إليه بعض النقاد من أن “القوس والفراشة” رواية أطروحة بسبب انشغالها بقضايا راهنة في المنطقة العربية (الإرهاب والتطرف)، ويعتبر هذه القراءة “اختزالية، أولا بسبب زخم المتخيل في الرواية وشاعريته، وثانياً لأن هذه القراءة الاختزالية بسبب بانشغالها بالصورة الكلية المهيمنة، تغفل بعض العناصر التخييلية الهامشية في النص. وما لا تدركه القراءة المهيمنة، أن هذه المكونات الصغرى والشاذة عن النسق المهيمن، على الرغم من هامشيتها، إلا أنها تسهم في اختراق الدلالة الخطية للسرد الأطروحي، وتنزاح به نحو الأفق الشعري المترع بالمجال الخصب للتأويل الذي يحرر الدلالة من سلطة الأطروحي. في هذا المنعطف الاستطيقي، يمثل التأمل التخييلي في المصير الإنساني عبر استعارة الخراب في الرواية، مسارا انتهاكيا لخطية السرد الأطروحي، حيث يشتغل المحكي الشعري كانتهاك استطيقي للمحكي الواقعي، يحتفي بالحياة في مقابل استعارة الخراب المهيمنة. صورة جزئية هامشية، ولكنها منفلتة من سلطة الصورة الكلية، بل إن المحكي الشعري على هامشيته يمثل الإجراء التدشيني الاستهلالي للرواية في صورة العنوان (القوس والفراشة). عنوان شعري بامتياز، مكثف بأطياف الرمز، ينفلت من سلطة التوجيه الأطروحي، ويفتح القراءة منذ عتبتها التدشينية الأولى على سيناريوهات التأويل واحتمالاته المتعددة، ويدعوه إلى تأويل الرواية في ضوء هذه المعادلة اللانهائية بين القوس والفراشة، الحياة والموت”. تدفق نصوصي ويلتقط الناقد الدكتور حسن المودن خيط الحديث ليقول: “بالنظر إلى الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية، يمكن أن نسجّل أن هناك اليوم حيوية أكيدة في الإنتاج الروائي بالمغرب، فقد صدرت في السنوات الأولى من الألفية الثالثة أكثر من مائتي رواية مكتوبة باللغة العربية. وهذا مؤشر إيجابي على أن الرواية تعرف بالمغرب تراكما كميا ملحوظا، فمن الثمانينات إلى اليوم أصدر الكتّاب المغاربة أكثر من خمسمائة رواية باللغة العربية، وهو عدد يفوق، بعشر مرات ربما، ما صدر من روايات في مرحلة تمتدّ من الأربعينات إلى السبعينات، والتي قد لا يتجاوز عددها الخمسين رواية. مع الإشارة إلى أن سنوات التسعين وبداية الألفية الثالثة تستحوذ على الجزء الأكبر من هذه الأعمال الروائية، بما يفوق الأربعمائة رواية”. ما ينبغي تسجيله إذن، يضيف المودن، هو تدفّق النصوص الروائية على المستوى الكمي في السنوات الأخيرة من القرن الماضي والسنوات الأولى من القرن الجديد. ومن الضروري أن يلقى هذا التدفق ما يكفي من الاهتمام والدرس والنقاش، بالشكل الذي يدفع إلى طرح أسئلة أساسية لا تقف عند حدّ الاحتفاء بهذا التقدم على المستوى الكمّي، بل تتجاوزه إلى مساءلة المستوى النوعي. ومن أهم هذه الأسئلة في تقديرنا: ماذا عن المستوى النوعي لهذه الأعمال الروائية التي تتزايد يوما بعد يوم؟ ما هي أهم خصائص الأدب الروائي بالمغرب أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة؟ هل تعرف الرواية المغربية في الزمن الحاضر فعلاً تحولاً نوعياً يستدعي أن نوليه الاهتمام والدرس والبحث والنقاش؟ ما هو هذا الشيء الجديد الذي تعرفه اليوم الرواية بالمغرب؟ بماذا نصف الرواية بمغرب اليوم؟ إذا كنّا بالأمس نتحدث عن الرواية التقليدية، أو الرواية الواقعية، ثم عن الرواية التجريبية أو الرواية الجديدة أو الرواية الحداثية، فما هو الوصف الملائم للرواية في مغرب الألفية الثالثة؟ أيتعلق الأمر، على مستوى النوعية والجودة، بحركة تقدم أم بحركة تقهقر وتراجع؟. تنوع إبداعي ويلاحظ المودن أن هناك “تعدد وتنوع في المساهمين في الإنتاج الروائي، بشكل يبدو معه الأمر كأن الرواية المغربية الآن تختزل ماضيها أو تاريخها كله، فبعض مؤسسي الرواية المغربية في الستينات (عبدالكريم غلاب مثلا)، وبعض مؤسسي حركة التجديد أو التجريب في السبعينات والثمانينات (عبدالله العروي ومبارك ربيع وأحمد المديني ومحمد عز الدين التازي ومحمد برادة والميلودي شغموم ومحمد الهرادي ...)، أغلبهم إن لم يكن كلهم يواصلون الإنتاج والإبداع إلى اليوم. والملاحظ اليوم أيضاً هو تكاثر وتزايد كتّاب الرواية المغربية، رجالا ونساء. فقد ازداد عدد الروائيات في السنوات الأخيرة، خلافا للعقود السابقة، بشكل لافت للنظر ومنهن: خديجة مروازي والمرحومة مليكة مستظرف، وزهور كرام التي تجمع بين النقد والإبداع، ومنهن من جاءت من القصة إلى الرواية، وأصدرت روايتها الأولى كوفاء مليح، ومنهن من جاءت من الشعر إلى الرواية كفاتحة مرشيد التي أصدرت روايتها الثالثة، ومنهن من تمتح من مصادر إبداعية ومرجعيات نقدية مغايرة، كاسمهان الزعيم التي أنجزت رسالتها لنيل الدكتوراه حول الأدب الإسباني في إسبانيا وأميركا اللاتينية، وأصدرت روايتها الأولى. أما كتّاب الرواية الجدد من الرجال، فهم كتّاب ينتمون إلى فضاءات اجتماعية وثقافية ومعرفية مختلفة ومتنوعة، أصدروا رواياتهم الأولى في التسعينيات وبداية القرن الجديد، ومنهم يوسف فاضل وأحمد التوفيق ومحمد الأشعري وحسن نجمي وشعيب حليفي وعبدالحي المودن وبهاء الدين الطود ومحمد غرناط ومحمد أنقار والحبيب الدايم ربي وعبدالكريم الجويطي وجلول قاسمي ونور الدين وحيد ومحمد أمنصور وجمال بوطيب وأحمد الكبيري وحسن طارق وأحمد اللويزي ومصطفى الغتيري وعبد العزيز الراشدي...”. وبالنظر إلى وضعية جنس الرواية بالمغرب في الوقت الراهن، يتابع المودن، يمكن أن نتقدم بافتراض أن الرواية المغربية الآن تشهد عودة الحكاية، وهي عودة تستدعي العودة إلى الذات والمجتمع والتاريخ والذاكرة، وتقتضي أن لا تبقى الكتابة منشغلة بذاتها فحسب، بل أن تعيد الاعتبار للمرجع. وهذا افتراض يستدعي أكثر من سؤال: ماذا نعني بالعودة إلى الحكاية؟ أتعني حركة ارتداد وتقهقر؟ أم أنها تعني حركة إلى الوراء من أجل حركتين إلى الأمام؟ هل تعني العودة مثلا أننا عدنا إلى قول الذات أو المجتمع أو التاريخ بالطرق التقليدية المألوفة؟ أم أن العودة تعني طرقا جديدة في بناء الحكاية وقولها،كما تعني أننا صرنا ندرك الذات أو العالم أو التاريخ بطريقة مغايرة للمألوفة في الروايات التقليدية؟. ويمكن أن نصوغ ذلك الافتراض بطريقة أخرى: ألا يمكن أن نصف اللحظة الراهنة، بالنسبة إلى الرواية المغربية، بأنها لحظة انتقال وتحول، ربما في اتجاه رواية مغربية يبدو أنها منشغلة في الوقت ذاته بسؤال الكتابة كما بسؤال الحكاية. فبفضل إسهامات الكتّاب، من الأجيال السابقة أو اللاحقة، لم يعد الأدب الروائي اليوم يكتفي بكتابة لا تنشغل إلا بذاتها، ولم يعد يقتصد في الحديث لا عن العالم الاجتماعي والنفسي، ولا عن الشيء السياسي. وبعبارة أوضح، فقد بدأت الرواية المغربية تعرف، منذ سنوات لحظة انتقال وتحول، وهي على ما يبدو لحظة في اتجاه البحث عن توازن بين الانشغال بسؤال الكتابة دون التضحية بالحكاية، أو لنقل في اتجاه تأصيل التجريب دون التفريط في أصول التخييل التي بدونها لا يمكن الحديث عن شيء اسمه رواية”. مفاجأة الأشعري وفي ما يخص الرواية عند محمد الأشعري يقول المودن: “تلزم الإشارة إلى أنه كان قد فاجأ، هو المعروف أكثر باعتباره شاعرا، أهل الأدب بروايته الأولى: جنوب الروح، التي لقيت ترحيبا خاصا من النقاد، لأنها، وأعمال روائية أخرى مغربية وعربية، نجحت في إخراج الرواية من مأزق النزعة التجريبية الشكلانية، وأعادت الروح إلى روابط الأدب الروائي بالحياة والمجتمع والتاريخ والذات، وهو ما توفقت فيه روايته الثانية أيضا: القوس والفراشة. فالرواية عند محمد الأشعري ــ ومن هنا قيمتها ــ لم تعد تنتمي إلى مجرد نظام للحكاية أو الثيمة، بل أضحى سؤال الكتابة يحتل فيها مكانة خاصة، وفي الوقت نفسه فالرواية عند هذا الكاتب ليست مجرد لعب شكلاني فارغ من كل حكاية، من كل مضمون، من كل معنى. وتعود أهمية روايته “جنوب الروح”، وهو ما ينطبق على روايته الثانية “القوس والفراشة “، إلى كونها رواية تبحث عن كتابة تركب المغامرة والتجريب من دون أن تضحي بالمرجع (المجتمع، التاريخ، الذات، الأخر ...)، أي أنها الرواية التي لا تضحي بالحكاية، كما في النماذج الروائية ذات الطابع التجريبي الغارق في الجماليات الشكلانية، لكنها في الوقت نفسه تعمل على استثمار جماليات الشكل الروائي وتوظيف اقتصاديات مختلفة في الكتابة تستند إلى اللعب والمفارقة والترميز وتوظيف الأحلام والاستيهامات والمونولوجات والمحكيات النفسية. وفي روايته الأولى، كما في روايته الثانية، نجح محمد الأشعري في أن يتمثل، روائياً وجمالياً، راهنية تلك العلاقات والتفاعلات، الظاهرة والباطنة، بين ثلاثة أشياء أساس: الشيء العائلي ـ الاجتماعي، الشيء السياسي، الشيء الذاتي. تبقى عائلة الفرسيوي مركز الروايتين معا. ونفترض أن للرواية العائلية حظاً وافراً من الحضور في المتن الروائي العربي المعاصر، ويستحق الدرس، وخاصة من المنظور النفساني. ورواية “القوس والفراشة” ذات بنية ثنائية رمزية يوحي بها عنوان الرواية نفسه: يرمز القوس إلى ياسين الابن، الذي سافر من أجل استكمال دراساته العليا بالخارج، وجاء الخبر بموته في ظروف غامضة بأفغانستان، فهو رمز الجيل الجديد، جيل التطرف والأصولية والإرهاب. في حين ترمز الفراشة إلى العمارة التي بناها أحمد مجد، المحامي الحقوقي المعتقل سابقا، الذي يرمز إلى التحول الذي عرفه جيل النضال والالتزام والاعتقال، بشكل يتحول به الحقوقي المعتقل سابقا إلى واحد من هؤلاء الأغنياء الجدد الذين استفادوا من سياسة الانفتاح في مجالي العقار والسياحة... وبهذا المعنى، فالقوس والفراشة رمزان إلى تيارين جديدين (سياسيين، أيديولوجيين، اجتماعيين...) ظهرا بداية الألفية الثالثة بالمغرب بسبب من التحولات الخارجية والداخلية. ولا ينبغي أن ننسى أن اللافت في الرواية هو ذلك الشيء الذاتي الحميمي أيضا، فقد ركزت الرواية في جزء كبير منها على تشخيص آثار ما يحدث في الخارج والمجتمع على نفسية الشخصية أو الشخصيات المحورية: ما موقع الذات من هذه التحولات التي يعرفها التاريخ والمجتمع؟، كيف تلقى الأب، الذي ينتمي إلى عائلة اليسار والحداثة والتنوير، أن ينتمي ابنه إلى عائلة القاعدة والطالبان؟ ولا شك أن للحميمي والذاتي، بهذا المعنى، بعداً سياسياً، فهو فضاء يقع خارج سلطة المجتمع، وهو الحدّ الواقعي الذي لا تشمله سلطة الآخرين، وهو الفضاء الحيوي الذي تحتمي به الذات وتقاوم به قوى الشرّ والموت ويسمح لها بالبقاء والحياة. وأفترض أن قوة الكتابة في روايتيّ الأشعري معا تعود إلى هذا الحميمي الذي يقول الفقدان، ويواجه الموت، ويحاور الموتى، ويبحث عن الحياة بعيدا عن كل قوس أو فراشة.