عن عمر ناهز 87 سنة رحل المفكر الفرنسي جيرار جينيت G. Genette، يوم الجمعة 11 مايو الماضي، بعدما خلّف وراءه تاريخاً طويلاً من العطاء امتدّ لعقود داخل مختبر الفكر والتنظير الأدبي. إذ وُصِفَ بأنه «منظّر الأدب» الشهير، بينما يصف هو مساره الأدبي قائلا: «لقد بدأت بالنقد، من ثمة انتقلت إلى الشعري، وانتهيت بالممارسة»، إنها ممارسة التفكير والتنظير، هي الممارسة التي يتحدث عنها جنيت، حيث إنه انتهج التنظير حتى في كتاباته الإبداعية، لقد كان مخلصاً لما كان ينظّر له. إنه جيرار جينيت الناقد والشاعر، المفكر في الأدب والمنظّر فيه وله، يعد من مؤسسي مجلة «الشعرية» Poétique، رفقة تزفتان تودوروف وهيلين سيكسيو، سنة 1970، المجلة التي تعتبر من أبرز المجلات احتضاناً للخطابات الشعرية والآداب المعاصرة، والتنظير لهما، كما أنها احتضنت نصوص أسماء شعرية عالمية كان لها دور كبير في إحداث قفزات نوعية في الشعر العالمي، أمثال رولان بارت وكريستين فاشامبر وميشيل دوبي ورومان جاكوبسون وفاليري Valery... عن علاقته بجيرار جينيت يتذكر تودوروف قائلا، «لقد كنا نكمل بعضنا البعض بشكل غريب»، ويضيف «كنا نحن نجمع النصوص وكان جينيت هو من يرفضها». هذه العلاقة «الغريبة» هي التي قوّت أواصر التماسك الذي عرفته المجلة وجعلتها تستمر لسنوات. من الأدبي إلى الفني يعد جينيت إذن من الأسماء البارزة في تاريخ التنظير الأدبي المعاصر، والممارسة الشعرية، إذ يعتبر متخصصاً في النظرية العامة للأشكال الأدبية، بالخصوص السردية. فقد ترك منجزاً متميزاً، سبر عبره وعبر كتاباته عوالم لامألوفة وغير سابقة الفتح في التنظير الأدبي، فاتحا بذلك أبواباً شاسعة على أفاق مغايرة وجديدة لم يسبق إليها كاتب قبله. لم تقتصر إسهاماته التنظيرية على حقل الأدب فقط، فهو مارس التنظير والتفكير حتى في حقول فنية متعددة، ومن أبرزها كتابه «العمل الفني» الصادر سنة 1994، حيث يعالج هذا المفكر الأدبي فكرة كون العمل الفني سواء كان نمط وجوده ماديا، كاللوحة أو المنحوتة أو المعمار، والتي تتمثل بشكل مباشر للإدراك الجسدي، أو المادي، كالنص الأدبي أو اللحن الموسيقي، أو تلك التي تتطلب إجراءات غير مباشرة، مثل صفحة مخطوطة أو كتاب مطبوع أو أداء مسرحي... لكن الأعمال الفنية تفيض عن هذه الأنماط الوجودية الجوهرية من خلال أنماط مختلفة متباينة والتي تجعلها متعالية. فالعمل الفني يمكنه أن يعرف عدة حالات états، وكل واحدة منها يمكن أن تسبب عدة أنواع من الاستقبال... إلا أنه يتطلب الطابع النشط لهذا الاستقبال موقفاً معيناً مسبقاً لدى المتلقي، والذي يمكن أن نصطلح عليه بالاهتمام الجمالي، والذي يتحول عفوياً نحو التقدير الإيجابي أو السلبي أو المحايد تجاه العمل الفني. إذ يشكل التفاعل بين الجوانب التي يقدمها الأثر والنشاط الفكري والإدراكي للجمهور ما يسمى ب»العلاقة الاستتيقية (الجمالية)» la relation esthétique، إذ يخبرنا جينيت أنه «ونظراً للشبكة التي لا تنفصل عن العلاقات التي تشكل عالم الفن، لا يوجد عمل مكتفي ذاتياً أو مكتفي بذاته: فتعالي الأعمال الفنية لا حدود له» (ص 238). وهكذا كما يخبرنا بيير هنري فرانغن P. H. Frangne، تبدو أن فلسفة جينيت تظل مرتبطة بفكرة عالم من الفن يتعذر تصوره في لانهائية دقة ما يصطلح عليه بـ»نماذج». إن نماذج لا تشكل سوى الاشتقاقات والتغيرات والتكرار الدائري المتقيد بنوع من التذكر الذي يبدو أنه قانونها الأساسي، وهو قانون غير موجه نحو اتجاه تقدم الحرية أو العقلانية كما هو الحال عن هيغل. يقول جيرار جينيت في مؤلفه «العلاقة الاستتيقية»: «إن عالم الفن ليس مجموعة من الأشياء المستقلة، بل مجالا مغناطيسيا من التأثيرات والنشاطات المتبادلة» (ص 558)، فيصير التحول غير مصادفة، بل إنه حياة العمل عينه. إذن فاهتمام جيرار جينيت لم يصب على العمل الأدبي فحسب، بل تعداه حتى مناقشة وتحليل بنى العمل الفني بمختلف أنماطه، تحليل يروم إلى النهج البنيوي في قراءة النص الأدبي والفني، فقد اهتم جينيت بتلك الحال السائلة للعمل الفني ـ الأدبي بالخصوص ـ ، والتي تجعل من الصعب القبض عليه. وما يجعل من الأدب عنده قادرا على اتخاذ قوالب عدة ومتعددة ولا متناهية. تجديد الخطاب السرداني هذه الحرية في التيمات والمواضيع التي اشتغل عليها جنيت، قدمت له انفتاحا كبيراً على القارئ بمختلف مستوياته وتوجهاته وأصنافه. فقد استطاع هذا المنظّر أن يعيد إنعاش تلك النظريات الكبرى والصعبة، التي عرفها القرن العشرون، وذلك داخل قالب فني وملهم، يتخذ لنفسه أسلوبا سلسا وقريبا من القارئ، بما فيه المتخصص. ولم تقتصر اهتماماته عند هذا الحد إذ سعى جيرار جينيت إلى تطوير ـ رفقة تودوروف ـ علم السرد (السردانية) narratologie، وهو النظام الذي يدرس التقنيات والهياكل السردية المستخدمة في النصوص الأدبية (أو غيرها من أشكال السرد narration). وذلك في ثلاثيته الشهيرة «نماذج» (1966-1972)، المستوحى من أعمال جاكوبسون، وكتابه «خطاب جديد في السرد» (1983). ويقول عن علاقته بالسردانية: «لا أعرف ما إذا كانت السردانية قد عرفت «عصرًا ذهبيًّا» (وهو مفهوم إرجاعي دائمًا ووهمي بشكل كبير) أعتقد أنه مازالت هناك مواد دسمة كي تشغل اهتمام الباحثين. لكن اليوم ودائمًا اعتبر نفسي جاهلاً هذه الأعمال لكي أحاول إنجاز فرضية حول علاقة الاستمرارية أو عدم إنجازها بين مختلف المراحل. ما يبدو لي شيئًا أكيدًا، أن النقد والنظرية الأدبيين كان لهما دائمًا طرقًا أخرى يسلكانها غير تلك التي يسلكها تحليل الحكي، وأتذكر أنني تبعت إحداها وبعد لقائي (الدقيق وغير المتوقع تقريبًا) بالموضوع السردي: لم يكن حقل عملي هو السردانية الوحيدة لكن الشعرية بوجه عام، وبل أكثر عمومًا نظرية الفن بل أكثر من ذلك أيضًا الجمالية (الاستتيقا). لا أزعم أنني مثال يحتذى. لكنني أعتقد أن تخصص علميًا عليه أن يحافظ مع ذلك على الانغلاق أكثر في موضوعه الخصوصي أكثر من الرغبة في الالتحاق بالآخرين (أن يكون ملحقًا)». لهذا يصفه بعض النقاد بأنه الرجل «الذي يجعل السرد يكتسب المعنى ومن ثم يُفهم». فقد شكلت السردانية جزءاً أساسياً من الظروف النقدية والتحولات المعرفية التي عرفتها سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بل «إنه حتى لو لم تتوقف المفاهيم والتقنيات التحليلية عن التطور بطريقة متنوعة جدا، تبقى الأذهان موسومة بفكرة سردانية جدا كون الحكي récit يشكل نسقًا، فنجد من بين مواضيع البحث بلورة مناهج تسمح بإبراز النسق السردي». إذ فالسردانية بقدر ما بحثت في علم النظم السردية، فقد شكلت قفزة نوعية في الفهم الأدبي والحكائي المعاصر. الشاب الشيوعي الصارم عن سن الـ18 التحق الشاب جيرار جينيت إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي PCF. ترأس لفترة وجزية رئاسة تحرير جريدة الطلاب الشيوعيين «كلارتي» Clarté، ما سيجعل أصدقاءه يصفونه بـ»الشاب الستاليني»، وكما سيسمي نفسه لاحقا. سيترك الحزب سنة 1956، بعدما أعرب عن شكوكه لعرابه في المدرسة العليا (الفرنسية)، لويس ألتوسر، بعد أحداث بودابسيت (هنغاريا) في نفس العام. في تلك المرحلة بالتحديد، سيحتك الشاب جينيت بجيل دولوز وجون فرونسوا ليووتار، ما سيدفعه للالتحاق بـ»المجموعة الاشتراكية»، التي يقودها كلود لفور C. Lefort. هذه التجربة المتغايرة لعبت، بالنسبة له، «دور الخلية الستالينية الرصينة»، هذا «ما سيجعلني معفيا من الالتزامات العسكرية»، كما يقول في إحدى حواراته سنة 2006. «لقد تحول التركيز ـ كله ـ من التفرد المفترض للمواضيع نحو كونية الأشكال والبنى والممارسات»، هكذا أقر لجريدة «لوموند» le Monde الفرنسية سنة 1983، فقد انتهج جينيت صرامة منهجية داخل منهجه النقدي، ما سيلقي ظله على أعماله كلها، وحتى حياته. إذ يؤكد لذات الجريدة قائلا: «بالنسبة لي ولانضباطي (سلوكي)، البنيوية كانت أسعد مساهمة في عصرنا لي هذا الجهد [الأدبي] الدائم، في ظل جميع التقلبات في الظروف الإيديولوجية، للعقل الإنساني نحو الوضوح»، فالشكلانية إذن حسب هذا المنظّر، ليست غاية في ذاتها، بل هي الأكثر الوسائل جدية للتحقق، من خلال موجه التحليل الأسلوبي، في محتوى النصوص الأدبية. وهذا ما نجده في كتابه «خطاب الحكاية» الذي صدر مترجما إلى العربية، عام 1997 عن «المركز القومي للترجمة»، وقد انطلق فيه جينيت من الشكلانيين الروس، وطوّر اتجاهاتهم في النقد الأدبي، مستوعبًا مختلف مستجدات التحليلات اللسانية، ويعد هذا المؤلف من الكتب المرجعية الأساسية لفهم مكوّنات الحكاية ومستوى الخطاب فيها، وفيه قسّم جيرار جينيت مكونات خطاب الحكاية إلى ثلاث مقولات أساسية: الزمن والجهة والصيغة. لقد طبق جيرار جينيت فكره النقدي والنظري على تفكيره وذاكرته الخاصة. إنها صرامة منقطعة نظير جعلت من هذا «المفكر» قادرا على اجتراح أشكال أدبية جديدة، والحال هنا، السيرة الذاتية. بين فرنسا وأميركا ولد جيرار جينيت بتاريخ 7 يونيو 1930، بباريس، من أب عامل في النسيج، وقد عاش طفولته وسنوات مراهقته في مدينة سانت-هونورين (إقليم إفلين Yvelines). ودرس برفقة جاك دريدا في المدرسة الاعتيادية العليا سنة 1951، لينال شهادة الاستحقاق الأدبي سنة 1954، ليُدرّس في القسم التحضيري لثانية مونتسكيو ابتداء من سنة 1963، مساعداً لماري-جين دوري M. J. Durry، مدرسة الآداب بسوربون. أربع سنوات بعد ذلك، وبتزكية من رولان بارت، عُيّنَ أستاذاً محاضراً بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، ثم مديراً للدراسات في نفس المدرسة حتى تقاعده سنة 1994... وقد كان أستاذاً محاضراً في كليات خارج فرنسا، كجامعة «يال» Yale بأميركا.