يعتبر بعض الناس أن في الاعتذار جبناً وضعفاً أو انكساراً وانهزاماً، فيحجمون عنه مهما فعلوا واقترفوا من الأخطاء في حق الغير ومهما بلغت درجة اقتناعهم بأن ما بدر منهم يستدعي الاستسماح. فلماذا يبقى الاعتذار عملة نادرة وقليلة الرواج بين البشر؟ وهل هي صفة وراثية أم مكتسبة؟ وهل يتعلق الأمر بمغالبة ومكابرة؟ أم أنه تحصيل اعتقاد ثابت بعدم اقتراف خطأ يستوجب الاعتذار؟ هذا ما تسبر أغواره المؤلفة الشهيرة والعالمة النفسانية الدكتورة دينيس كيومينز في آخر مقال لها عن قيمة «الاعتذار». في سبعينيات القرن الماضي، راجت لازمة تقول «الحب يعني عدم الاضطرار أبداً إلى الاعتذار»، وكان ذلك عنوان فيلم لعبت دور بطولته الممثلة الأميركية آلى ماكجرو، والذي يسخر تصريحاً وتلميحاً بكل من يعتبر الاعتذار قيمة تستديم العلاقة طويلة الأمد بين الزوجين. وقد عقب ذلك نقاش حاد في أوساط باحثي علماء النفس واختصاصيي علم النفس الاجتماعي. وهو نقاش متجدد يطفو على سطح العلاقات البشرية في كثير من أشكال التنازع والتدافع، ويستدعي معه كل مرة أسئلة متعددة ومدارس تحليل سلوكي مختلفة. فهل يخدم الاعتذار غاية حقيقية تعود بالنفع على الطرفين؟ أم أن الأمر يحتكم إلى ميزان القوى ما بين الأفراد والأمم؟ ممارسة إيجابية تُشير غالبية البحوث إلى أن الاعتذار هو ممارسة إيجابية في مجملها، لكن ما دامت تخدم غاية مدروسة بموضوعية. فتقديم الاعتذار يُطفئ الرغبة في الانتقام ويحولها إلى إرادة للتسامح ونسيان الأذى. وتقول أستاذة علم النفس في جامعة إلينوي الدكتورة جينيفر روبنولت، إن تقديم اعتذارات حقيقية وصادقة يحقق ثماراً إيجابية في قضايا المحاكم. وتضيف «يُشجع مأثور الثقافة الشعبية والعُرفية للأسف على تفادي الاعتذار باعتباره يمثل اعترافاً ضمنياً قد يضر بوضع المدعى عليه (المتهم) خلال مجرى المحاكمة. لكن دراسات كثيرة تُشير إلى أن الاعتذار يلعب في الواقع دوراً كبيراً في تسوية عدد من القضايا». وقد بنت روبنولت استنتاجها على دراسة شملت 550 شخصاً خلال مفاوضات تسوية في قضية افتراضية ضمت معتدى عليهم تعرضوا لإصابات جسدية خفيفة. وخلُصت هذه الدراسة إلى أن تقديم الاعتذار يقلل حجم المطالب المادية عن التعويض، ويُسهل التوصل إلى اتفاق بالتراضي. غير أن طبيعة الاعتذار تبقى ذات أهمية بالغة في هذا الإطار. فصيغ الاعتذار التي يعترف من خلالها الشخص بخطئه يكون لها تأثير أكبر مقارنة بتلك الاعتذارات التي يكتفي فيها المؤذي بالتعبير عن تعاطفه مع المتضرر دون اعترافه بتحمل مسؤولية ما حصل. بل إن بعض الناس يرفضون اعتبار التعاطف نوعاً من الاعتذار أو الإقرار بارتكاب الخطأ. ومن بين صيغ الاعتذار التي يستاء منها المعتدى عليه لفظياً أو بدنياً «أنا آسف لطبيعة الشعور الذي يعتريك!». فصيغة كهذه تستفز في الحقيقة الشخص الآخر وتثير حنقه وتُعمق فيه الإحساس بالظلم وتثير في داخله نيران الرغبة في الانتقام، فيغدو غير مستعد لقبول الاعتذار». رفض الاعتذار إذا كانت غالبية آراء علماء النفس تكاد تُجمع على الفوائد الإيجابية جداً للاعتذار، فلماذا يميل كثير من الناس إلى المقاومة الشديدة لتقديم الاعتذار؟ أظهرت دراسة حديثة أن سبب تهرب الناس من تقديم الاعتذار له علاقة بقوة «الأنا» لديهم وغلبة كفته على كفة استحقاق حالة التعدي للاعتذار، أو طبيعة التجاوز المقترَف ضد الطرف الآخر. ويقول قائد فريق البحث، الذي أعد هذه الدراسة الدكتور تايلر أوكيموتو «حينما ترفض الاعتذار، فإن ذلك يجعلك تشعر بقوة أكبر. وهذا الإحساس بالقوة والسلطة يُترجم إلى مشاعر متعاظمة بتقدير الذات». ومن المفارقات الغريبة أن هذه المشاعر تتحول إلى رسائل إيجابية وشعور بالرضا في العقل الظاهر كما الباطن. وقد توصل أوكيموتو وزملاؤه إلى هذه النتيجة بعد إتمامهم بحثاً شارك فيه 228 أميركياً طُلب من كل واحد منهم تذكر آخر مرة أخطأ فيها بأي طريقة، سواءً كان ذلك الخطأً تافهاً أو جسيماً يرقى إلى درجة الجريمة كالسرقة ونحوها، مع ذِكر ما إذا كان اعتذر عن فعلته أم لا. كما طلبوا من كل مشارك كتابة رسالة إلكترونية يعبر فيها عن اعتذاره عما بدر منه من أفعال، أو يرفض فيها الاعتذار عما صدر منه. وتبين من النتائج النهائية أن رفض الاعتذار يوفر فوائد نفسية أكثر من الاعتذار! الحاجة إلى الاعتذار يتبين مما سبق أن الناس يرفضون تقديم الاعتذار لأن ذلك يُشعرهم بالسوء حِيال أنفسهم. بل إن منهم من يعتقد أن استسماح الشخص الآخر يعني إعطاءه الفرصة ليصرخ منتشياً بنصره وفرِحاً بهزيمة خصمه. وبحسب أوكيموتو، فإن طلب الاعتذار من الناس مع استحضار مثل هذه الاعتقادات يجعلهم يشعرون بالتهديد. ولكن الإنسان يتعلم قبل وصوله مرحلة الرشد أن الاعتذار ليس فيه أي انتقاص من قيمة النفس وقدرها. وأن الهدف الرئيس من الاعتذار هو جعل الشخص الذي أصبناه بأذى ما عن قصد أو غير قصد يشعر بتحسن وجبر نفسي لما لحق به من ضرر، وليس من أجل جعلنا نحن نشعر بتحسن. فالاعتذار يعني في جوهره «أرى أنك تضررت بفعلتي، وهذا يهمني». ومن ثم فإن الاعتذار يتوخى جبر خاطر ذلك الذي تعرض للأذى، وليس مراعاة مشاعر ذلك الذي صدر منه الأذى. ويبدو أن الاعتذار يهدد بإطاحة ذلك الشعور الزائف والهش لدى بعض الناس بامتلاكهم السلطة المطلقة. فقدرة الشخص على الاعتذار عند الخطأ يسمو به ويجعله يعترف بلسان حاله ومقاله أنه بشر قابل لاقتراف الخطأ كما هو قابل لفعل الصواب. ويذهب بعض علماء النفس أبعد من هذا وينصحون كل من يخطئ في حقه قريباً أو حبيباً أو صديقاً بأن يرسم على وجهه ابتسامة ويبادر باحتضانه وكأنه يقول له «إن تثميني لصداقتنا أو علاقتنا تجعلني أتقبل إساءتك وأسامحك». وتقول الدكتورة كيومنز «يجب أن نُدرك أن أولئك الذين يرفضون الاعتذار حتى عندما يخطئون في حق الآخرين هم بمثابة صبيان تمنعهم هشاشتهم الشعورية من كبح كل ما قد يتهدد كبرياءهم الزائف الذي نسجوه في عقلهم الباطن عن معنى الاعتذار. فنحن نحتاج إلى أن نروض أنفسنا على أن يكون التسامح والصفح ملاذنا الشعوري الأول، بصرف النظر عما كان الخطأ المقترف ضدنا ارتُكب عن عمد أو غير عمد». نصائح حول الاعتذار تختم الدكتورة كيومنز بنُصح كل من يجد في نفسه صعوبة في تقديم الاعتذار بأن يتذكر أمرين لا ثالث لهما: - الاعتذار لا يعني القبول بالدونية أو عدم تقدير الذات أو الضعف أو بخس النفس حقها. والناس الذين يطلبون الحصول على اعتذار ممن لم يخطئون في حقهم أو من أساء إليهم عن غير قصد هم متعطشون في الواقع إلى إشعار الآخر بالخضوع. وشتان ما بين اعتذار المخطئ، واعتذار المضطر غير المخطئ. - يعد الاعتذار أولاً وأخيراً رسالة بسيطة تؤكد سمو إنسانية المخطئ ورُقي الجانب البشري في المتعرض للأذى، وتجعل البشر يتقاربون أكثر ولا يتنافرون، ويقتدون بأبيهم آدم الذي كان أول كائن بشري يُجسد قيمة الاعتذار بأروع معانيها ودلالاتها. هشام أحناش عن موقع «psychologytoday.com»