في الأزمنة الملتبسة، والمأساويّة، يموت الشاعر إمّا منتحراً أو مقتولاً أومشرّداً، ضائعاً في بلاد لا يعرفه فيها أحد. ولأن الزمن العراقي منذ الثمانينيات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، زمن أسود، ومرعب، فإنّ الشعراء الذين أسّسوا القصيدة العربيّة الحديثة، وأرسوا دعائمها في مقاهي وحانات بغداد العتيقة أواخر الأربعينيات، وأوائل الخمسينيات، دفعوا الثّمن غالياً، وغالياً جدّاً.. ففي أواسط السبعينات، فرّ الشّعراء العراقيّون أفراداً وجماعات إلى المنافي، بعد أن أدركوا أنّ كلماتهم الطّافحة بالحرّيّة، والحبّ، والتمرد الجميل، قد تقودهم إلى السجون، أو إلى الموت، أو إلى العدميّة المميتة في بلاد أصبح يحكمها «القائد الأوحد». منذ ذلك الوقت، بدأت حانات عمّان، وبيروت، ودمشق، وبرلين، وكوبنهاغن، وأمستردام، ومدريد، وبراغ، وميونيخ، وروما تعجّ بأفواج من الشّعراء، والمبدعين العراقييّن الفارّين بجلودهم من الطّغيان، ومن ظلمة بسطت نفوذها على بلاد الرّافدين فما عاد أهلها يميّزون بين النّهار واللّيل. حتّى سعدي يوسف الذي ما كان يظنّ أحد أنه سيهجر واحات البصرة بالسّهولة نفسها التي يتخلّّى فيها أحد مّا عن قميص مرقّع، أصبح يشاهد في أغلب عواصم العالم، وهو يتغنّى بمنفاه. وخلال حرب الثّمانية أعوام باتت الهجرة بالنسبة للشّعراء العراقيين الباب الوحيد للخلاص من المحرقة الهائلة. وما أن جاءت التسعينيات، ومعها سنوات الحصار العجاف حتّى أقفر العراق من الشّعر، والشّعراء، وأصبح أهله يواجهون الموت، والجوع، والخوف يوميّا. وعلى الرغم من بعدهم عنه، لم ينس الشعراء العراقيّون وطنهم، وكانوا يكابدون ما يكابده، ويكتوون بنيران فواجعه، ويتجرّعون عذاباته. وواحدا بعد الآخر كانوا يتساقطون في المنافي الباردة. وراح الموت ينتزع أرواحهم وهم نائمون أو يمشون في الشّارع أو يتحدّثون إلى صديق في الهاتف أو يشربون في ليل وحدتهم أو صمت عزلتهم أو يحلمون بأيّام العراق الزّاهية قبل أن ينقضّ عليه الطّغاة والقتلة. والقائمة كانت تزداد طولا شهرا بعد شهر، وسنة بعد أخرى.. بلند الحيدري، عبدالوهاب البيّاتي، إبراهيم الزّاير، جان دمّو، كمال سبتي، نازك الملائكة، سركون بولص الذي كان قد كتب في واحدة من أعذب قصائده يقول: «صفحاتي تطفح ليلا، تتجمّع الكلمات مثل طيور جارحة في سماء خافقة بالنّذر، زمن طوع يدي، مستعدّ للرّحلة القادمة حرّ في أن الأمس جذر المصيبة التي تطاردني عبر أيّامي، من لدي النّائي. أو أن أنسى المضائق، وأنطلق صوب البحر. كم من حياة إلهي مرّت بي مُعْولة، آتية من هناك، معصوبة العينين، لن ترى الشرّ، تلك المطرقة، كم من حياة تُسْحق كلّ يوم كلّ من لم يعد واقفا في مكانه تحت الشّمس». هو وبيروت لم يكن اسم سركون بولص غريبا عنّي لمّا قرأت له مطلع الثّمانينات قصيدة في مجلّة «مواقف» حملت عنوان: «محاولة للوصول إلى بيروت عن طريق البحر». وفيها يصف مشاعره عن الحرب الأهليّة التي كانت تحرق لبنان في تلك الفترة. في ذلك الوقت كان الجدل حول الشّعر شكلا ومضمونا حاميا في تونس. وكان التيّار الواقعي ـ الاشتراكي طاغيا على بقيّة التيّارات التي كانت تتلمّس طريقها بصعوبة بين الألغام الإيديولوجيّة، مختبرة أدواتها اللّغويّة والفنّية. وكنت واحدا من الذين يناصرون القصيدة القائمة بذاتها، متحرّرة من العكاكيز الإيديولوجيّة. لذا كان من الطبيعي أن أجد في قصيدة سركون بولص المذكورة ما أثار إعجابي، وحرّضني على أن أمضي قدما في الدفاع عن أفكاري. وسعيدا بتلك القصيدة التي جاءت من بعيد مثل طائر مهاجر حلّ بأرضنا مبشّرا بالرّبيع الجديد، رحت أتنقّل بها بين المقاهي في تونس، وفي القيروان منشدا إيّاها لأصدقاء مثل منصف الوهايبي، ومحمد الغزّي، وبشير القهواجي. وأذكر أن هؤلاء قاسموني الإعجاب بها.. وفي بغداد، خلال مهرجان «المربد»، التقيت سركون بولص أوّل مرّة. وكان في الأربعين، وفي رأسه بان الشّيب. وكان هادئا، لا يثير أيّ زوبعة من حوله كما هي حال جلّ الشعراء العرب. ونادرا ما كان يتطرّق إلى المواضيع السياسيّة. وعكس آخرين، لم يكن يعنيه أن يقرأ قصائده أمام الجمهور. وعندما تكون قاعة المسرح ملأى حدّ الفيض بالشعراء، وبالجمهور، كان هو يحبّ أن ينزوي في أحد أركان فندق «منصور ميليا» ليتحدّث إلى أحبّائه وأصدقائه عن الحياة في سان فرانسيسكو، حيث يقيم، وعن المدن التي أحبّها، وعن الشّعراء الأميركييّن الجدد، وعن المكسيك التي كان يزورها من وقت لآخر. ومنذ ذلك اللقاء، توطّدت علاقتي بسركون بولص. وكنت أراسله باستمرار متبادلا معه الأفكار حول العديد من القضايا المتّصلة بالشعر. ومرّة زارني صاموئيل شمعون في ميونيخ، فهتفنا له ليلا، وكان قد استيقظ للتوّ من النوم. بصوت متعب حدّثنا عن المكسيك التي عاد منها قبل أيّام قليلة. وعندما انتهت المكالمة، شرع صاموئيل يرقص فووق الثلج مبتهجا بابن العم الآشوري. ألم العزلة انطلاقا من مطلع الثمانينيات، ضائقا بعزلته الأميركية أخذ سركون بولص يتردّد على أوروبا ليقيم عند أصدقائه في باريس، وبرلين، ولندن. وفي هذه الفترة تعددت لقاءاتي به. وعلى الرغم من أن السياسة لم تكن تعنيه شعريّا، فإنه كان يتابع أخبار العراق باهتمام كبير. وبسبب النّكبات التي كانت تتوالى على بلاده، بدأ وجهه الآشوريّ العريض يأخذ شكل وملامح لوحة حزينة. وأحيانا كانت تشتدّ كآبته فيتعكّر مزاجه، ويحتدّ غضبه لأتفه الأسباب. وفي بيت صاموئيل في ضاحية «برادفورد»، حيث أقام أزيد من عام، كان ينام النّهار بطوله، ويمضي الليل في التدخين، والشّراب، والقراءة. ولعلّه أدرك أن الموت بات وشيكا، لذا كتب يقول في قصيدة حملت عنوان: «يوميّات من قلعة فيبرسدورف»: «لا أنا بالهادئ البارد الأعصاب ولا بالمتوجّس، القلق، المتوثّب على أقلّ خشخشة ونأمة حفنة بعد حفنة يتذرّى العمر. كأنّه الحصاد، والمذراة في اليد، والرّيح مقبلة تطفح عزلتي مثل جرّة تحت حنفيّة الصّمت أنا مملوء، تقدّم أيّها الظلّ، أدخل إلى بيتي، وانهب ما تشاء». ولم يكن سركون بولص يميل إلى الحوارات الصّحافيّة. وشخصيّا بذلت كلّ ما في وسعي لأجري حوارا معه غير أنه كان يصدّني عن ذلك بلطف ولباقة قائلا: «أنت صديقي... وأفكاري ليست غريبة عنك!». وذات مرّة قرأت حوارا معه أجراه خالد المعالي، فعثرت على مفاتيح أخرى لروحه، وفكره، وتوجّهاته الشعريّة، وفلسفته في الحياة. ففي ذلك الحوار المسهب، تحدّث سركون بولص عن سنوات المراهقة، والشّباب في كركوك، وعن حبّه المبكّر للشعر، وعن اكتشافاته الأدبيّة والفنيّة في بغداد خلال الستينيات، وعن علاقته بجبرا إبراهيم جبرا الذي رعى الفصل الأوّل من مسيرته الإبداعيّة. وهن القلب نهاية التسعينيات، بدأ القلب يخون سركون بولص. وكان صاموئيل الذي يتعامل معه كأخ كبير، الأشدّ منّا جميعا قلقا على صحّته التي كانت تتدهور بسرعة، فكأنّ برحيله سوف تنقرض سلالة الآشوريّين التي إليها ينتميان. وعندما داهمته أزمة قلبية خطيرة في سان فرانسيسكو، هرع صاموئيل لمساعادة الأخ الآشوريّ الأكبر ليعود من هناك بمرارة في القلب والرّوح. فقد بات متيقّنا من أنّ الموت سوف لن يلبث أن ينقضّ على صديقه الرّوحي قبل أن ينال الشرف الذي يليق به كشاعر كبير. والحقيقة أن سركون بولص كان يغرّد خارج السّرب. وكان يمقت الأضواء، والمهرجانات، وعندما يلبي الدعوة فإنّ هدفه من ذلك هو الالتقاء بمن يحبّ من أصدقائه النّادرين أو ليستريح قليلا من عزلته القاتمة. ولم ينل سركون بولص ما يستحقّه عن جدارة من الجوائز العربيّة فقط لأنه لا يتقن النفاق، والتّهريج، والزّيف. كما أنّه لم يقبل التّنازل عن القيم التي آمن بها شاعرا، وإنسانا. وعلى الرغم من تمتّعه بالجنسيّة الأميركيّة، ناهض سركون بولص بشدّة الاحتلال الأميركي لبلاده. ومرّة جاء إلى ميونيخ ليقرأ قصائده في «الرّايت هاوس». وما أن انتهى من ذلك حتى شنّ هجوما عنيفا على «المحافظين الجدد» الذين ذبحوا وطنه من الوريد إلى الوريد باسم الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان. في آخر اللّيل، كنّا في حانة «ألأونسوفايتا» في شارع «الأتراك»، فقلت له: «كنت أظنّ أنّك لا تعير اهتماما للسياسة وأهلها...» ردّ عليّ غاضبا: «نعم... أنا لا أعير السياسة اهتماما في الشعر... غير أني أعتبرها عنصرا مهمّا في الحياة، وفي الواقع... ثمّ كيف تريدني أن أسكت في حين يقوم الغزاة بتدمير بلادي تدميرا منهجيّا؟!». بعدها قرأت له قصيدة حزينة يصف فيها طفلة عراقيّة تعيش أهوال الحرب، والحصار، وفيها يقول: «الطّفلة جاءت تلك المفقودة في الحرب واقفة في نهاية الممرّ، في يدها شمعة أراها كلّما استيقظت من نومي في الساعة الأولى من الفجر، إنّها تنتظر اصطدامي بجدار الحقيقة». ولعل سركون بولص كان يرغب، بعد الصدمات النفسية الرهيبة التي توالت عليه، وهو على أبواب الشيخوخة، في أن يأتي الموت بسرعة ليريحه منها، لذا راح يبالغ في التدخين، والشّراب، والسّهر. وفي صيف 2003، التقيت به في دبلن على هامش المهرجان العالمي للأدب. كان عذبا، صافي النفس كعادته. وبصحبة صاموئيل، وزوجته ماغي كنّا نسهر حتى ساعة متأخّرة من الّليل في حانات مدينة جيمس جويس. وخلال اللّقاء الذي خصّص لنا، تحدّث سركون بولص بشكل أخّاذ، وبإنجليزيّة بديعة أبهرت الحاضرين، وفتنت شابّة شقراء أخذته بعيدا عنّا حالما انتهى اللّقاء. كنت أتهيّأ للعمل في صباح كئيب من صباحات أكتوبر لمّا علمت برحيل سركون بولص. وفي الحين تذكّرت قصيدته التي حملت عنوان: «بورتريه لشخص عراقيّ في آخر الزّمن»، وفيها كتب يقول: «أراه هنا أو هناك: عينه الزّائغة في نهرالنّكبات، منخراه المتجذّران في تربة المجازر بطنه التي طحنت قمح الجنون في طواحين بابل لعشرة آلاف عام...».