ترجمة: أحمد حميدة

يمثّل كتاب ألف ليلة وليلة الذي يصنّف ضمن الأدب الشّفويّ الشّعبي، ما يشبه المذكّرة بالنّسبة للرّواة الشّعبيّين، ولا أدلّ على ذلك من أنّ حكاياتها قسّمت إلى «ليالي»، كيما لا يطويها النّسيان وتحفظ في ذاكرة الرّواة. وقد ترسّخت ذكرى تلك «اللّيالي» بفضل روايات مستقاة من مصادر متباينة، قد يكون من المتعذّر تحديد هويّة أصحابها، لتعدّد أصول تلكم النّصوص التي ما انفكّت، منذ ترسّبها في المخيال الجماعي الشّرقيّ، تتزايد وتتنوّع. ومن بين النّسخ المدوّنة والمختلفة لتلك «اللّيالي»، النصّ العربي الذي طبع في بولاق بالقاهرة سنة 1835، نصّ لن يحظى بالشّهرة التي يستحقّ إلاّ في وقت متأخّر.
قرنا قبل ذلك، كان الفرنسيّ أنطوان غَالاَن قد ترجم في ما بين 1704 و1717 إثني عشر مجلّدا مخطوطا للّيالي عثر عليها في حلب في فترة تعود إلى القرن الرّابع عشر، وكذلك مجموعة من الحكايات المترجمة عن الفارسيّة انتشرت منذ القرن العاشر. ولم يكن من السّهل حينها، الانتباه إلى الإضافات والتّعديلات التي أدخلت على تلك الرّوايات بعد أن تناقلها الرّواة بصورة شفويّة. ومهما يكن من أمر، فقد احتفظت تلك الرّوايات بإطار القصّ ذي الأصول الهنديّة، والذي منه انبثقت شخصيّة شهرزاد، وسوف تزداد تلك القصص ثراء لتحمل بمرور الزّمن بصمة الحضارة العربيّة في العصر الوسيط.
لقد غدت تلك اللّيالي، الضّاربة بجذورها عميقا في التّراث الشّرقي، جزءا لا يتجزّأ من الفلكلور المصري، واكتست تبعا لذلك حضورا متزايدا في ذاكرة المثقّفين وفي أعمال أدباء مصريّين مرموقين، ومنهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. واهتمّ هؤلاء خاصّة بشخصيّة شهرزاد وبالحذاقة التي أوتيتها وجعلتها تتوفّق في ترويض جموح سلطان ضغين ودمويّ.
وبتلوّن السّرد تلوّنت صورة شهرزاد، لتبدو أحيانا على هيئة ساحرة خبيرة بفنون السّحر، وأحيانا أخرى على هيئة امرأة استثنائيّة، فارقة الفطنة وخارقة الذّكاء. وإذا كانت «اللّيالي» قد انتهت بصفح شهريار على شهرزاد، فإنّ عملين أدبيين حديثين ذهبا إلى مساءلة الزّمن الذي يلي سرد تلك الرّوايات بالنّظر إلى تغيّر طرأ على طبيعة الملك وعلى طبيعة تلك الرّوايات أيضا.
ففيما أخضع توفيق الحكيم السّلطان وزوجته إلى التحليل النفّسي، لملامسة التطوّر الطّارئ على طبيعتيهما، أحدث نجيب محفوظ تشابكا جديدا بين مستويي الإطار السّردي والرّوايات، فغدت جميع الشّخصيّات تعيش في عالم واحد، وأصبح أبطال تلك الرّوايات من أقارب وأصدقاء السّلطان. ويثبت ذلك الخلط فكرة بداية عهد جديد في حياة الزّوجين، لقد انتهت بذلك مرحلة السّرد الخياليّ، وأخلت المكان إلى وصف للواقع الذي كان يحيط بالزّوجين. أراد محفوظ حينئذ أن تكون الرّوايات أكثر واقعيّة من «اللّيالي» في نصّها الأصلي، وتقلّصت تبعا لذلك المكانة التي كانت لشهرزاد، التي اقتصر ذكرها على بعض الصّفحات الأولى والأخيرة. ولم تعد شهرزاد هي موضوع الرواية، وإنّما شخصيّة ثانويّة تحيل على ماض عجيب ومدهش. ومع ذلك فإنّ عطرها ظلّ يتضوّع في كلّ مراحل السّرد، إذ نستشعر في كلّ تفاصيله، التّأثير الذي كانت تخلّفه شهرزاد في السّلطان، واستحسانها لحالة النّضج البطيء الذي كان يساهم في تغيير طبعه.
وفي ليالي محفوظ.. أسرّ السّلطان لشهرزاد بعد التحدّث إلى السّندباد: «إنّ قصص السّندباد لتشبه قصصك بشكل غريب..». وأجابته شهرزاد موضّحة: «إنّ مرجعها لواحد يا مولاي»، مؤكّدة بردّها ذاك الخلط المتعمّد بين ماضي القصص العجائبيّة، وحاضرها الذي لا يقلّ عنه روعة وإدهاشا. وبالنّهاية.. فعلى الرّغم من أنّ عالم الرّواية كان يبدو لازمنيّا وفاتنا، فقد تركّز الإطار الجغرافيّ والماديّ على سياق اجتماعيّ ملموس، وإن كان البعد العجائبي قد عكس بشكل مستغرب أبرز مظاهره.

الإطار المكانيّ والزّمانيّ للرّوايات
إنّ الإلماحات التّاريخيّة «للّيالي».. تسمح بتحديد إطارها الزّمني في القرن الثّاني عشر للميلاد. وكان مجال الشّرق حينها يمتدّ من شبه القارّة الهنديّة وبلاد فارس.. حتّى البلاد المصريّة. فإلى أيّ مدى قد تكون التمثّلات المكانيّة والزّمانيّة لهذه الرّوايات منبئة عن عالم كان التّاريخ قد أثبت ما ساده من ممارسات وتقاليد وأعراف؟ غير أنّ المسألة هي أكثر تعقيدا ممّا نظنّ، لأنّ «اللّيالي» ولئن اشتملت على توثيق ثمين لأوضاع العالم العربي، وعاداته المحليّة ومؤسّساته الدّينيّة، فإنّ ترجمة غالانْ قد أمدّتنا بصورة معدّلة عنها، صورة أراد صاحبها تغيير رؤية معاصريه للشّرق: فمن موطن للعلم والحكمة، غدا الشّرق كتاب غالانْ ذلك «البلد الأسطوري الذي ينعم بفيض من الخيرات ومن المتع الحسيّة». غير أنّ تلك الرّؤية الجديدة مردّها أساسا إلى جملة التّنقيجات الطّفيفة التي حتّمتها التّرجمة ذاتها.

عمل غالان حينئذ على «فرنسة» العناصر الماديّة التي وظّفها في «اللّيالي»، فالدّور العربيّة الباذخة، التي نعثر في النصّ الأصلي على وصف مسهب لخصائصها الهندسيّة، غدت بقلم غالان دورا مدهشة، موشّاة بواجهات وحدائق تذكّرنا أكثر بالهندسة الفرنسيّة خلال القرن السّابع عشر. ووفق الأسلوب الذي اعتمده لإعادة تشكيلها، غدت الفضاءات المغلقة تسمح برؤية الأثاث والزّخارف الشّرقيّة التي تخيّرها غالان ببالغ العناية، والتي تتشابك مفرداتها الزّخرفيّة الغرائبيّة مع ما كان يميّز الأثاث الكلاسّيكيّ الفرنسيّ.
وفي سياق السّرد، بالكاد بدا الفضاء الذي كان يتحرّك فيه شهريار وشقيقه.. مصمّما. بل إنّ بعض الجزئيّات لم يكن لها سوى دور وظيفيّ أملته أحداث الرّواية. فتنبئنا الرّواية مثلا، أنّ الأمير شاه الزّمان، شقيق السّلطان، كان يسكن «جناحا ملكيّا» في سمرقند، وأنّ ذلك القصر كان محاطا بخندق عميق، وكانت لتلك الجزئيّة أهميّة وظيفيّة في السّرد: لقد كان هذا الخندق معدّا لمواراة جثّة الملكة الخائنة بعد قتلها، والنّساء اللاّتي تزوّجهنّ شهريار ولقين نفس المصير.
أمّا توفيق الحكيم فقد تحدّث في إخراجه المسرحيّ «للّيالي» ودون التأنّي في سرد التّفاصيل، عن أماكن العرض التي تجري فيها الأحداث: قصر، جناح الملك وجناح الملكة، وفي الوسط.. حوض مرمريّ. ومع ذلك.. فنحن نعلم أنّ الأحواض والنّافورات والمسابح كانت من العناصر المميّزة للقصور الشّرقيّة في العصر الوسيط. طبعا.. كان ذلك الوصف المختصر للأماكن في مسرحيّة الحكيم، يسمح باستفزاز خيال القارئ، ويمنح المُخرج هامشا مريحا يمكّنه من تخيّر عناصر الدّيكور بنفسه.
أمّا الفضاء الرّوائيّ لنجيب محفوظ، فقد كان نابضا وأكثر حيويّة، فقد ساعدت التّفاصيل التي أدخلها محفوظ.. على توسيع آفاق السّرد، وجعلها تنفتح على فضاءات جديدة أرحب. فقصر الملك مثلا، «كان ينتصب فوق المرتفعات»، فيما كان شهريار يجلس في «سطح خلفيّ يطلّ على الحديقة بأكملها». ثمّ إنّ وصف الفضاءات المنفتحة، غدا علامة تحذير من أحداث قادمة. وفي مثل ذلك التّشكيل للأماكن، كان الوزير يأتي القصر «عابرا رابية مجلّلة بضياء الشّمس وفاغمة بروائح الورد والقرنفل وتطيّبها نسمات بالغة اللّطافة»، وكانت تلك الأجواء تهيّئ القارئ لتقبّل نبأ العفو الملكي على شهرزاد. وفي الأثناء.. لم يصف الرّوائيّ إلاّ بصورة مختصرة الفضاءات المغلقة، طالما أنّ الأماكن والدّيكورات كانت تتغيّر باستمرار، وأنّ الشّخصيّات كانت تنتقل طواعيّة من الحديقة إلى سطح القصر. وتبدو الأجواء العامّة باذخة التّلوين: فكانت شهرزاد تقيم «في حجرة الورود، حيث الزّرابي والسّتائر القرمزيّة اللّون، والأرائك والوسادات الحمراء. وفي الأخير سيقوم محفوظ بوصف سريع للبيت المتواضع للشّيخ عبد اللّه البلخي.. المعلّم الخاصّ للملكة.
إنّ الزّمن السّرديّ الطّاغي في هذه الأعمال الثّلاثة هو ظلام اللّيل الدّامس، كما يوحي بذلك العنوان. فمع حلول اللّيل يبدأ السّرد، وتلك ممارسة تطيل أمد التّقليد الفلكلوريّ للسّمر، الذي يتحلّق فيه المزارعون والعمّال حول النّار لتجاذب أطراف الحديث والإنصات إلى الرّواة الشّعبيّين.
ويرى نجيب محفوظ أنّ الطّقس ولون السّماء، هو الذي كانت تنبئ عن ردود فعل الشّخصيّات. فأحيانا ما كانت صورة الأفق المتورّد تأتي مباشرة بعد خاطرة جالت بخيال شهريار: «ما يكون أشدّ غرابة في هذا الوجود.. هو الوجود ذاته». وأحيانا ما كانت الظلمة المطلقة تكتسح المكان وتولّد أجواء سحريّة، فيضاعف ذلك من درجة التّشويق، وكان ذلك حين أنبأ الملك وزيره بقرار إبقائه شهرزاد كزوجة له. وبعد ذلك مباشرة، تناهي إلى أذنيه صياح الدّيك معلنا عن نهاية الحكاية وطلوع الفجر.

شخصيّة شهرزاد
لقد مثّلت شهرزاد، فضلا عن كلّ الأحداث التي يرويها السّارد، نقطة جامعة بين النّسخ المختلفة «للّيالي». واسم شهرزاد.. على اختلاف أساليب كتابته كان يلمح إلى أصلها الفارسي، ويشير إلى أصولها الملكيّة أو الأميريّة.
وفي بداية اللّيالي، سجّلت شهرزاد دخولا فطنا.. لا يخلو من ألق وبهاء، فتقدّم في بداية السّرد على أنّها الابنة الكبرى للوزير الأكبر، وشقيقة دنيازاد الرّائعة. وتتطوّر شيئا فشيئا العبارات التي تشي بأوصافها، فهي زوجة السّلطان والسّلطانة والأميرة. ويصفها غالانْ قائلا: «كانت تتميّز بجسارة غير معهودة لدى النّساء وتفصح عن آراء بالغة الفطنة والذّكاء.. وهي بإجماع كلّ الرّوايات، فتاة هيفاء، آية في الحسن والبهاء، ظريفة المحاورة، لطيفة المؤانسة، عذبة المجالسة، تُمتع الجليس وتؤانس الأنيس، إن أسهبت في الكلام أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت، وإن نطقت أخرست، شغوفة بالمطالعة، خصيبة الذّاكرة، ولا شيء يشرد منها ممّا تكون قد قرأته. انكبّت على دراسة الفلسفة والطبّ والتّاريخ والفنون الجميلة، ولا أحد كان يجاريها في نظمها للشّعر، فضلا عن كونها كانت خلوقة، متواضعة وآية في الأدب والاستقامة».
وتلك صفات كمال توقّف عندها نجيب محفوظ بإسهاب. أمّا غالان، فقد أحاط فضلا عن شهرزاد، كلّ النّساء في اللّيالي بحجاب سريّ، وأضفى عليهنّ صفات كمال لا تشوبه شائبة، وكأنّه أراد أن يجعل من شهرزاد نموذجا للمرأة الشّرقيّة المبهرة، وتثبيت تلك الصّورة في مخيال القارئ الفرنسيّ.
كانت شهرزاد تفوق بصفاتها الخُلقيّة باقي النّساء، وإن كان جمالها الفاتن يثير هو الآخر، مشاعر الافتتان والغواية لدى الرّجال، وأنّها كانت برفّة هدب تبهج السّلطان وتحبس عليه أنفاسه. وكانت في ذات الوقت واثقة من وجاهة تصميمها: «إنّي لواثقة من أنّني سأخلّص بهذه الوسيلة كلّ الفتيات من الذّعر الذي يتملّكهنّ». ففي تشامخها.. وعلوّ همّتها، كانت تبدو متفوّقة على شهريار حتّي أنّنا لنلمس سطوة حضورها في كلّ الرّوايات.
كما أقامت شهرزاد الدّليل بأنّها امرأة واسعة الحيلة وتعرف جيّدا كيف تفاوض وتعقد الصّفقات. وقد أفلحت في إقناع والدها بقبول خطّتها، حتّى تضع حدّا للممارسات البربريّة التي كان السّلطان يفرضها على فتيات المدينة. فشهرزاد هي أشبه ما تكون بجان دارك الشّرق، من حيث حصافة آراءها وقوّة عزيمتها. وقد أقنعت والدها وهي تحاوره: أبتي، إنّي لمدركة للمخاطر التي تنتظرني والتي قد تقودني إلى التّهلكة، ولكنّي لا أبالي، فإن قضيت، فلسوف أموت ممجّدة، وإن نجحت في مسعاي، أكون قد قدّمت لبلدي خيرا كثيرا. لذا.. فهي بإصرارها وتصميمها وجسارتها.. ترتفع إلى مستوى الأبطال.
ووفقا لرؤية نجيب محفوظ لألف ليلة وليلة، تكون روايات شهرزاد قد انطوت على أسلوب بالغ الذّكاء في تأديب شهريار وتهذيب سلوكه. فخلال سنوات ثلاث، كانت الدّروس المسرّبة سرّا في رواياتها، تتضمّن مبادئ ووصايا ساعدت على إنضاج وعي السّلطان وإنماء مداركه. وقد يكون ذلك هو خيط أريان الذي يصل الرّوايات الثلاث بعضها ببعض. وبمجرّد أن اكتمل ذلك التّكوين، أصبح بإمكان السّلطان تقويم نفسه بنفسه. وهذا ما جعل السّرد، وهو يتمّ بشكل متباطئ، يرجَئ باستمرار في المسرحيّة، لأنّ الرّوايات الأخيرة لن يكون لها من مبرّر بعد ذلك. فكانت نهاية السّرد تمثّل بالنّسبة لشهريار بداية مرحلة جديدة، بداية بحث ذاتيّ عن حقيقة ذاته، عملت «ليالي ألف ليلة وليلة» على توضيح أبعاده: كان على السّلطان أن ينسلخ من زوجته-الأمّ.. حدّ الفطام، لتشرع شهرزاد بعد ذلك في تنشئة ابنها كما فعلت ذلك مع والده.
و في «اللّيالي»، أصبحت شهرزاد تخاطب السّلطان مستخدمة مفردات لا تنمّ عن إحساس بالإذعان بقدر ما غدت تفصح عن شعور بالأمان، وبقدر ما كانت الرّوايات تتوالى، لم تعد شهرزاد لتخشى على نفسها من المصير المشؤوم الذي كان ينتظرها. كانت مدركة أنّ الملك بات متعوّدا على رواياتها وأنْ لا قِبل له بالتّخلّي عنها: حين كانت شهرزاد تتوقّف عن السّرد عند مواضع محدّدة من الرّواية، كانت تتعمّد الزّيادة في شحنة التّشويق، فتهيّج بذلك رغبة الملك في سماع بقيّة الحكاية. فهل يشهد هذا الأسلوب من القصّ، عن رغبة في عدم التورّط بكلمات قد تكون قابلة للاشتباه، أم أنّ الأمر يتعلّق بطريقة فطنة لإثارة فضول الملك وتضليله في متاهة السّرد؟
فما الذي ينبغي أن نستخلصه في النّهاية في ما يتعلّق بالأهداف التي كانت تتلمّسها شهرزاد؟ إنّ الهدف الأوّل هو بلا شكّ الطّمع في النّجاة، طالما أنّها كانت ترى نفسها مهدّدة كلّ صباح بسيف الجلاّد. ويتعزّز ذلك الهدف بهف آخر أكثر نبلا: إنقاذ المدينة بأكملها من خطر اختفاء بناتها الواحدة تلو الأخرى. وفي المقام الثّالث، كان الغرض هو.. تأمين تربية الملك وتهذيب طبعه كي يستعيد توازنه العقليّ والرّوحيّ ويصبح حقيقا بالحكم. هكذا.. كانت كلمات شهرزاد كلمات مخلّصة، ووسيلة فطنة لاذت بها شهرزاد لترويض جموح زوجها.

شهريار
على عكس شهرزاد، بالكاد تتبدّى لنا ملامح شهريار، ولكنّنا نعثر في اللّيالي على بعض من تفاصيل تلك الملامح: شعر أسود، عينان ملتمعتان وسط.. وجه ممشوق، تكسوه لحية كثيفة، وتنبعث منه علامات النّبل، ولكنّه كان بالكاد يخفي طبيعته الأنوفة والانتقاميّة.
في علاقته بشهرزاد، كان السّلطان نادرا ما يبادر بالكلام، فيما كانت أجوبته مقتضبة، ولا تصدر عنه إلاّ حين يجيز لشهرزاد متابعة القصّ. وكان ذلك الاقتضاب يضفي عليه قدرا كبيرا من الوقار والهيبة. أمّا صمته.. فكان مخيفا للسّلطانة وشقيقتها، إذ كان شهريار باردا، عديم التأثّر وغضوبا بصورة جعلت منه إنسانا غامضا وغير شفّاف. وتطوّر ذلك الطّبع النّافر والمرتاب، هو الذي تناوله توفيق الحكيم بالتحليل في مسرحيّته: من حاكم فضّ ومتهوّر، غدا السّلطان بعد ثلاث سنوات من التّهذيب والتّخليق، أكثر هدوءا وأقلّ ميلا للانفعال. لقد غدا مريد السّلطانة، تبثّه الحكمة من حيث لا يعلم، وبسردها اللّيليّ الممتع، توفّقت في تغيير مزاجه وترقيق إحساسه. وهكذا.. كان شهريار، وهو يؤجّل يوما بعد آخر قرار القتل، يزداد شوقا لسماع الرّوايات، لتساهم تلك الرّوايات في تهدئة معاناة روحه الحزينة والمكروبة. وهكذا أيضا ستغدو شهرزاد زوجة صاحب الجلالة الملك: والمسار المتواني الذي أدّى لمثل ذاك القرار، الذي أفصح عنه شهريار بجلاء بعد ثلاث سنوات طوال، يمثّل في الأخير خيط أريان الذي يصل بين الأعمال الأدبيّة الثّلاثة.

سرد لا آخر له
عند الحكيم.. بدت شهرزاد شخصيّة غريبة، يلفّها حجاب كثيف من الأسرار. فكان الجميع، بما في ذلك الملك والوزير، يتساءلون: من تكون شهرزاد حقيقة؟
فبعد أن حظيت بالصّفح.. توقّفت شهرزاد عن السّرد، ولكنّ هويّتها ظلّت مبهمة وملغزة بالنّسبة للملك: فهل تكون ساحرة؟ أم أنّها قد أوتيت مفاتيح الأسرار المنغلقة؟ ويتساءل شهريار على لسان الحكيم: «أنت تعرفين كلّ شيء ولا تنطقين بأيّ كلمة من دون تفكّر وتروّ (...) تتصرّفين وفق حساب ثابت، كذاك الذي يحكم حركة الشّمس ودوران القمر والكواكب». وفي مواطن أخرى.. مثّلها توفيق الحكيم بالطّبيعة التي تعرض جمالها الآسر لتفتن مَنْ حولها من دون الكشف عن أسرارها. فغدت شهرزاد هكذا.. امرأة دائمة الشّباب، بلا هويّة، ومثل الطّبيعة.. كليّة الحضور.
وفي ألف وليلة، ظلّ شهريار عاجزا عن فهم الطّبيعة الملتبسة لزوجته: «ها أنّ جسدك سهل المنال ومتاح لي، ولكن أنّى لي الظّفر بقلبك». واعترف شهريار على لسان نجيب محفوظ بطبعه الغليظ والمنفّر، وتفهّم أن تكنّ شهرزاد نحوه مشاعر الغضب والبغضاء. بل إنّ شهرزاد باتت على يقين بأنّ جهودها لن تفلح في كبح جماح ذلك الإنسان القاسي والمغرور: «إنّ الغرور والحبّ لا يجتمعان في قلب واحد»، هكذا كان يردّد لسان حالها، والحال أنّ شهريار كان لا يحبّ غير ذاته، ومع ذلك.. حدث التحوّل، وأدرك السّلطان نفسه ذلك: «طيلة عشر سنوات، عشت مقطّعا بين الغواية والحقّ، فكنت فجّ الطّبع وعديم الأخلاق، أقبل على الأعمال القبيحة ثمّ أتوب، ولكنّني كنت في كلّ الأحوال إنسانا تعيسا.. لقد آن الأوان كي أستجيب لنداء ملحاح يتردّد بداخلي، علّني أدرك الخلاص والحكمة».
واعترفت شهرزاد من ناحيتها بأنّها على عكس ما كان يتصوّر زوجها، امرأة سهلة الطّبع والمعاشرة: «وهل لجأت إلى تلك الخطّة، وسرد تلك الحكايات، إلاّ لأنجو بنفسي؟». ولم تكن شهرزاد لتشغل فكر السّلطان برواياتها إلاّ لتلهيته عن غواية العبث بأرواح فتيات بريئات. ولكنّه، وهو مدرك لعجزه عن فهمها، كان يمعن في الاقتراب منها، عساه يكون أقدر على كشف سرّها وسبر أغوارها.. (...) حتّى إنّه في الأخير لم يعد ليحتمل الحاجز الذي كان يفصله عنها.
لقد استمع لها طويلا، فكانت تروي على مسامعه حكايات عجيبة، ولكنّها لم تتحدّث عن نفسها قطّ. وها أنّ شهريار بعد ألف ليلة وليلة، يكتشف فجأة أنّه يجهل كلّ شيء عن زوجته، فيدفعه ذلك إلى البحث عن حقيقتها. وحين أقضّه السّؤال وغدا على حافّة الجنون، أصبح ميّالا إلى قتل الأبرياء.. عساه يفكّ لغز شهرزاد. وقد أسرّت له هذه الأخيرة قائلة: «لو قمت بسحب هذا الحجاب، فهل ستحتمل رفقتي ولو للحظة؟».
سينطلق شهريار حينئذ في بحثه، يحدوه أمل التوصّل إلى شكل أرقى من المعرفة. كما أقبل على السّفر.. لعلّه يبتعد وينسى، ولكن أي وجهة قد يتّخذ ليحظى بالسّكينة وراحة البال؟ إنّها الوجهة التي تمّحي عندها الحدود، وحيث لا تكون زوجته، طالما أنّ حضور شهرزاد كان يطبق عليه من كلّ جانب ويأسره. وشعرت شهرزاد بالنّدم على ما ولّدته حكاياتها لدى شهريار من يأس وتوتّر وإحباط: «لو كنت أعرف أنّك ستهيم وتشرد، لم أكن لأروي لك أيّا من تلك الحكايات». وفي الوقت الذي تزايد فيه ذلك البحث المحموم، ورغبة المضيّ إلى ما هو أبعد، كانت شهرزاد تبيّن له أهميّة المشاعر.. أهميّة أن يحقّق المرء الانسجام بداخله، حتّي يفوز بتلك الأنوار المضمرة في سرّه، وكان شهريار قد استوعب جيّدا الدّرس، من أنّ «المرء قد يدرك بقلبه، ما لا يطاله آخر بعقله».