إبراهيم الملا

يتنزّه الضوء بين الأعمدة المجلّلة بالبياض، منتشياً بهواء قديم، يموج وسط جدران مائلة ومتخفّفة من ثقلها، يحنو الضوء ذاته على زخارف تكسو السطوح الخارجية للمكان، وهي سطوح جذلى يترنّح في أعطافها سطوع اللازورد، المشمول بلطافة اللون الفيروزي، وفي الأنحاء المجاورة ثمة نوافير وادعة، يتهادى فيها الصوت الرقراق، المرتحل في مسالك النسيم، عندما تبدأ سويعات العصر بتلويحة وداع لشمس تجري لمستقرّ لها في المغيب.
هناك.. تحت شرفات الظل العالية، وبمعيّة الأقواس الحاضنة للنظر، وقبل انهمار الظلام، انبثق ماء الحكاية، وطرح الغرام نرده على رخام القلب، وكأن الذاكرات المتدفقة من خلف أبواب موصدة، هي الذاكرات العصيّة على القبض والمتمنّعة في آن، أستعيد رقّة الوجد الذي مسّ جوارحي وأنا أمضي بأشواقي الطائرة نحو اللقاء الأول مع هذا المبنى الجليل، الناصع بأصدائه في الفؤاد، الضاجّ بمنمنمات الفرح، وصنوف المباهج، لوناً وصورةً وتشكيلاً وعزفاً وموسيقا، في معراج من الهيامات المكتملة، عندما تتشكّل أواصر الصحبة، بصداقات بنت لحظتها، وأخرى أثيرة، حيث تلتمّ الهواجس على مرأى من الجمال الفائض، والمزايا الباذخة.

شاشة الرؤى
كان اللقاء الأول مقروناً بلذائذ الرؤية وهي تتكشّف على الشاشة البيضاء الكبيرة بمسرح المجمع الثقافي، أثناء إقامة الدورة الأولى من مسابقة «أفلام من الإمارات»... كان محفل الأحلام هذا منطلقاً لتدشين الألفية الجديدة بتجارب شابة وواعدة، تقتحم للمرة الأولى عالم السينما التي يتسارع في مضامينها إيقاع الدهشة، وتتصاعد في تجلّياتها وتيرة السؤال، وكان المجمع الثقافي هو المحفل الأبهى والأنقى لاستحضار محبة لن تتكرر، واستجلاب رفقة يقصُرُ دونها كل لقاء، ويُستصغَر دونها كل اجتماع.
صار المجمع الثقافي من يومها، قبلتنا الماثلة، وبوصلتنا الدالّة، ووجهتنا الأكيدة نحو الانشغال بالسينما حتى النخاع، والافتتان بها حدّ الهيام والاقتران والعناق، قادتنا السينما كمجموعة صغيرة آخذة في التمدّد، إلى دروب ومشارب وأنساق ثقافية وفنية متعددة، كان للمجمع الثقافي دور ملحوظ في تأكيدها كهوية متنامية، وصفة ملازمة لقلب مدينة أبوظبي، فأصبح المكان هو الواقع وهو الافتراض، وصار منارة للباحثين عن متنفّس للفكر، ومركز إشعاع جديد، وقّاد، ومتوهّج أمام الزوار وأبناء المدينة والإمارات الأخرى، الشغوفين بطرائق الفن وصنوفه وحقوله المعنية بإنارة العقول وإضاءة الأذهان وتنوير المدارك.
استمد المجمع طاقة استلهاماته، ومدار جذبه، من موقعه الجغرافي الفريد وسط أهم الشوارع والمناطق الرئيسية في أبوظبي، مشفوعاً بمجاورته لقصر الحصن، ذلك الصرح المهيب الذي تستظل في أركانه، وتحت سقفه العريق، قامات وأسماء وأطياف وذاكرات، أسّست لنهضة معرفية وعمرانية تم نسجها على مهل، حيث انطلقت هذه النهضة المتماشية مع التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة قبل أكثر من مئتي عام على يد الشيخ شخبوط بن ذياب، وتعاظمت أهمية هذا الصرح تحت قيادة الشيخ زايد بن خليفة (الشيخ زايد الأول)، حيث تحول البناء الأصلي مع ازدهار تجارة اللؤلؤ إلى حصن منيع، وموئل للباحثين عن قيمة للانتماء، ومقصد للاستقرار.


ويبدو أن تصميم المجمع الذي افتتحه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» في العام 1981 واحتضن أول معرض للكتاب في أبوظبي، هو تصميم متناغم مع الهوى العمراني للحصن ذاته، بحيث يكون ملاذاً لعشّاق الثقافة ومورد تقدير لهم، ضمن عملية تبادلية بين الاستيعاب والإنتاج، لأن دور المجمع لم يكن مقتصراً فقط على إتاحة فرص الاطلاع على ما يحتويه من إصدارات ومجلدات ومخطوطات ولوحات وأفلام ومكتبة موسيقية وكنوز تراثية، أو التواصل مع أقسامه في النطاق الإداري حصراً، بل كان همّ القائمين عليه هو خلق أجيال متعاقبة من المبدعين القادرين على العطاء والإنتاج والعمل النوعي المتواصل في مجالات متعددة مثل: البحوث والدراسات، والرسم، والتصوير الفوتوغرافي، والنحت، والموسيقا، إضافة إلى إقامة الورش التطبيقية، والدورات التدريبية، والمعارض الفنية، والاحتفاء بالسينما كنمط تفاعلي وبصري مشوّق، وكتيار فني معاصر يمتلك أبعاداً إنسانية شاملة موزعة على حقول مدهشة وثرية مثل الفيلم التسجيلي، والروائي القصير، والروائي الطويل، ولم يكن اهتمام المجمع بالطفل وتنشئته على الذائقة الفنية مبكراً، سوى حلقة واحدة من الحلقات والمفاصل الثقافية الكثيرة التي تم التخطيط لها طويلاً في الذهنية المُتبصّرة والرؤية المستقبلية التي استوعبها الشيخ زايد وعمل جاهداً على تفعيلها، ليكون لبناء الإنسان في الإمارات أسبقية على بناء العمران، وكي يصبح مفهوم التنوير ملموساً وحاضراً ومؤثراً منذ البداية.

بدايات وإشراقات
وكما يرد في مضامين هذا التوجه، فإن الهدف من إنشاء المجمع هو تحويله ليكون أول مركز ثقافي متعدد الأغراض، يحمل رسالة قيّمة لتعزيز كافة أشكال النشاط الفكري والإبداعي، كما يهدف إلى رفع الوعي الثقافي، وغرس قيم الهوية الوطنية، وبتأسيسه إلى جوار قصر الحصن التاريخي، يلعب المجمع الثقافي دوراً محورياً في المشهد الثقافي والفني والمعرفي مع إنشاء أول مكتبة وطنية، ومسرح وقاعة عرض متعددة الأغراض، إضافة للمرافق والأقسام التي استحدثت لاحقاً مثل: مركز حفظ الوثائق والبحوث، ومؤسسة الثقافة والفنون وتوابعها المتمثلة في المسرح والمرسم الحر وبيت العود وقسم التصوير الفوتوغرافي والسينما، وغيرها من الأقسام الفنية التخصصية.
وعندما أغلق المجمع أبوابه في العام 2009 وظل لسنوات طويله معزولاً عن المنتمين له والمتعلقين به ذهنياً وروحياً، استشعر الجميع فقدان القيمة الإنسانية العالية التي كان يختزنها المكان، وانطفاء جذوة الذوق الرفيع الذي كان يبثّه في ردهاته وصالاته وغرفه وممراته، وخفّف من وطأة هذا الانقطاع، وثقل هذا الشعور، ظهور خبر لاحق أسعد الجميع، وهو إعادة دائرة السياحة والثقافة - أبوظبي، إحياء التقاليد الثقافية للمجمع، والبدء في عمليات ترميم المبنى وتجديده وتطوير مرافقه تماشياً مع التطور العمراني، وتنفيذاً للرؤية التنموية الشاملة لمدينة أبوظبي، مع تنوع خياراتها السياحية، واتساع رقعة مشاريعها الثقافية بشكل مطرد.
ومع تجديد أقسام ومرافق المجمع الداخلية ومساحاته الخارجية من قبل دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، نجد أن المياه تحضر بقوة كجزء أساسي من المخطط الرئيسي للمشروع، وهو حضور يعبر عن الدور البالغ الأهمية الذي لعبته هذه المياه بأشكالها المتنوعة في تطور أبوظبي، وتشكلت هذه المرجعية البصرية والذهنية للمياه من خلال الأخوار والمضائق والجزر والمسطحات المائية المحيطة بالمدينة والتي عززت الحماية الطبيعية للمكان، وأضحت ممراً آمناً نحو البحر، حيث كانت موارد الصيد والغوص لاستخراج اللؤلؤ والتجارة البحرية، تشكّل عصب وأساس الحياة على الساحل، ويأتي السمت الناصع والمتموج لطلاء المجمع الخارجي مع التنويع الزخرفي المتمثل في تكوينات السيراميك الزرقاء على شكل مربعات ونجوم مثمّنة، كاستعادات مجازية لصدى وارتداد أمواج البحر المنعكسة على الأسوار، أما لون الطلاء فيبدو أقرب للأرض الصهباء مع بعض البقع المرمّدة أو الغبراء المحاذية للسبخات والمساحات الرملية البيضاء الموزعة على الجزر القريبة من سواحل أبوظبي.

جماليات عمرانية
وجاء تصميم الباحة الخارجية، القريبة من مبنى المجمع الثقافي، على شكل بحيرة مائية تربط أجزاء الموقع ببعضها بعضاً، من خلال جداول ضيقة وقنوات وممرات جوفية، ليتحول إلى مسطح مائي كبير يُشكل وجهة للاحتفاء بالإرث الغني لأبوظبي في مجال الملاحة.
أما أشجار نخيل التمر، وهي التي تحمل القيمة الثقافية الأكبر، فتُستخدم في محيط المجمّع الثقافي، متضمنةً سبعة أجناس مختلفة تمثل تشكيلة مختارة من أكثر أنواع التمر شعبية في أبوظبي.
وأتت التصورات والأعمال الإنشائية للمجمع الثقافي بعد عودة الروح إليه، لتوائم بين الاحتياج الفني والاحتياج الوظيفي للعمارة الإسلامية والتراثية المتناغمة مع التصميمات المعاصرة، لتصبح المساحة الشاسعة للمشروع، جسراً يربط بين ماضي أبوظبي وحاضرها ومستقبلها، حيث يمثل قصر الحصن هوية أبوظبي التراثية، فيما يُجسد المجمّع الثقافي بدايات المدينة المعاصرة، أما المستقبل فيحضر من خلال الرؤية الحداثية لتحويل المنطقة بأسرها إلى مساحة حضرية للاستجمام والنشاطات الثقافية والسياحية، المتمثلة في الموسيقا والسينما والأوبرا والفن التشكيلي والقراءة الأدبية النوعية وغيرها.
وهكذا أيضاً يأتي تصميم المشهد المحيط بقصر الحصن الممتد شمالاً نحو المسطحات الخاصة بالمجمع الثقافي، بمثابة ترجمة حرفية للبيئة الصحراوية والثيمات الفلكلورية من جهة، وللطابع الحضري الحديث من جهة أخرى، حيث يندمج المشهدان في منتصف الموقع ضمن منطقة مستوحاة من المسطحات الملحية أو (السبخات)، والتي تنتشر حول أبوظبي بين الساحل والصحراء الداخلية.
وتم تجسيد الرسالة الإنسانية والاجتماعية لتأسيس المجمّع الثقافي كما تصوره المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «طيب الله ثراه»، كي تحقّق تطلعات دولة الإمارات العربية المتحدة الواعدة نحو الحداثة على أرض الواقع، من خلال تصميم يدمج التفاصيل الجمالية ومبادئ التصميم الإسلامي والتصميم الحديث. ومن منطلق حرص المجمّع على الحفاظ على الماضي خلال رحلة التحول إلى المستقبل، جاء الانسجام بين الحداثة والتراث في إطار تحقيق الهدف الأسمى من إقامة هذا المشروع الفريد من نوعه في المنطقة.
كان المخطط الدقيق أحد عناصر التصميم الجوهرية للحفاظ على الهيكل الأصلي للبناء، مع إضافة اللمسات اللونية والزخرفية ذات المنحى الرمزي والإيحائي في طرز العمارة الحديثة، ودمج ثلاثة عناصر .

قالوا عن توجهات ورؤى المجمع في حلّته الجديدة
* يقول معالي محمد خليفة المبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي: «يحظى المجمّع الثقافي بمكانة خاصة لدى مجتمع أبوظبي، وذلك بفضل تاريخه العريق الذي يتقاطع مع نمو المجتمع في العقود الماضية، وتتخطى أهميته مجرّد مبنى تاريخي، فهو وجهة ثقافية واجتماعية بارزة وأصبح معلماً حضارياً مميزاً، يتيح التفاعل مع تراثنا الوطني واستكشاف الممارسات الإبداعية المعاصرة من خلال تقديم مجموعة متنوعة من البرامج التعليمية والترفيهية المصممة للأطفال وكل أفراد العائلة»، مضيفاً: «ومن شأن هذه المرافق الجديدة أن تحفز النشاط الإبداعي وإضافة قيّمة تعزز البنية التحتية للقطاع الثقافي، بما يمكننا من إقامة المزيد من الفعاليات الإبداعية، وبالتالي التأكيد على مكانة أبوظبي على خريطة الثقافة والفنون في منطقة الشرق الأوسط».
* ويقول سيف سعيد غباش، وكيل دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي: «يوفر مشروع تجديد المجمع الثقافي آفاقاً أوسع لتسليط الضوء على تراثنا الثقافي وتقاليدنا الأصيلة وتقديمها للجمهور، وسيسهم في زيادة أعداد زوار الإمارة، محققاً عوائد إيجابية لقطاعات الضيافة والسياحة والتجارة، ويعزز التزامنا بدعم النمو الاقتصادي في الإمارة» مضيفاً: «يحظى مبنى المجمع الثقافي بمكانة مرموقة باعتباره أحد الإنجازات الثقافية في أبوظبي ودولة الإمارات نظراً لأهميته التاريخية والاجتماعية والمعمارية والرمزية والحضرية، علاوة على دوره كعنصر أساسي في ذاكرة أبوظبي الحية ويجسد استمرارية ازدهارها الثقافي».
* وتقول ريم فضة، مدير المجمّع الثقافي: «طالما كان هدف المجمّع الثقافي، منذ تأسيسه عام 1981، متمثّلاً في توفير منصّة داعمة للفنانين للتعلّم والتفاعل والإبداع. ونحن سعداء بمواصلة هذا الإرث الباعث على الفخر عبر مساحات فنية غامرة وفريدة من نوعها، يصاحبها برنامج يُقام على مدار العام تتخلله سلسلة واسعة من المعارض والأنشطة الثقافية وبرامج الإقامة الفنية وورش العمل. ليصبح المجمّع الثقافي بذلك انعكاساً حقيقياً لمقاربة أبوظبي في مجال المعرفة بوصفه وجهةً أساسية لعرض أعمال الفنانين من الإمارات والعالم».

وعود وبشارات.. أيقونة أبوظبي
رئيسية في البنية الوظيفية والتثقيفية للمجمع، وهي: التعلّم من خلال توفير مكتبة تحوي صنوفاً متعددةً من المصادر المعرفية، والأداء من خلال تصميم وبناء صالة عرض بأحدث التقنيات والوسائط الجديدة والمتطورة، والفنون المرئية من خلال تهيئة مراكز مؤتمرات وقاعات ومساحات مفتوحة.
لقد ركز هذا التصميم الهادئ بواجهته البسيطة المستندة على جوهر التخطيط الداخلي للمكان، حيث تلتقي المساحات والفراغات بسهولة وبساطة مع بعضها بعضاً للتأكيد على فكرة «الساحات الداخلية المكشوفة» وخلق فضاءات للتأمل والارتحال البصري في ثنايا وتفاصيل البناء، من خلال تكرار العناصر والاستخدام الجمالي للهندسة وحسن توظيف النقلات المتناوبة بين الضوء والظل، بالإضافة إلى تكامل التركيبات والمواد مع الطبيعة الثقافية والنخبوية لمرتادي المجمع ولزواره المنتمين لمرجعيات ثقافية متعددة.
يستلهم المجمّع تصميمه من قصر الحصن بارتفاعه المتوازن وخطوطه الطولية وحجمه وجماله الطبيعي إلى جانب بعض تفاصيل التصميم، مثل: النوافير والأروقة واللمسات الزخرفية والحدائق والمسطحات الزراعية الخضراء مع التباينات اللونية للزهور، التي تشيع نفحات من الألفة والاستئناس بين الزائر وبين العتبات البصرية المحيطة بالمكان قبل الدخول إلى ردهات وقاعات المجمع الثقافي.

التراث والحداثة
لقد أصبح هذا الشريان المعرفي المتدفق بالبرامج والأنشطة، واحة للفنانين والمفكرين المواطنين والمقيمين على السواء، وأيقونة للتنوير، وبات يستحق بجدارة لقب «واحة الإلهام وحديقة الإثراء الفكري والتعبير الفني والتبادل الثقافي».
وبما أن الثقافة الإماراتية الأصيلة تسع الجميع بكرمها وضيافتها، أصبح المجمّع الثقافي في غضون فترة وجيزة مكاناً لا يغادر الذاكرة، ويفرض بصمته كأثر وعلامة للهوى الأدبي والمناخ الوجداني والاجتماعي في مدينة أبوظبي.
وعلى غرار قصر الحصن المجاور للمجمّع، والذي يمثل ذاكرة المدينة، أصبح المجمّع بمثابة القلب الثقافي لها. إذ يقف المجمّع الثقافي كأحد المعالم المعمارية المهمة وسط مدينة أبوظبي إلى جوار معالم تاريخية أخرى، مثل: قصر الحصن والمجلس الاستشاري الوطني وجامع الشيخ زايد بن سلطان الثاني، وبيت الحرفيين، بالإضافة إلى المنفذ الرئيسي لأبوظبي المعروف باسم طريق المطار.
كما يمثل هذا المبنى الذي ينتصب بشموخ وإباء مزيجاً معمارياً بين التراث والحداثة، وبين المفتقد والراهن، وبين الماضي والحاضر والمستقبل الواعد.
يجسد المبنى الجديد للمجمع الثقافي قيم التعايش والضيافة والتسامح في الإطار الاجتماعي والثقافي العام لدولة الإمارات العربية المتحدة، باعتبارها قيماً لصيقةً بالتراث المادي والمعنوي المنبعث من عمق الأصالة الإماراتية، وكرم سكانها الأوائل، وترحيبهم بالقادمين إليهم من الأصقاع المختلفة، وهي القيم التي تمت مراكمتها ونقلها للأجيال اللاحقة في مسار تصاعدي مواكب للتنمية البشرية والعمرانية الحديثة التي لامست جوانب الحياة المختلفة، وبالتالي كان لابد لهذه التنمية الخارجية أن تتوافق مع التنمية الداخلية للعقول والأذهان والأذواق، وخصوصاً ما يتعلق بالجانب الفني وبالمجال الثقافي وبالحقل المعرفي، ولاشك أن وجود المجمع الثقافي بحلّته الجديدة اليوم يعتبر إضافة مهمة في المكان وملتقى للثقافات والمرجعيات والأعراق والجنسيات المختلفة التي تحتضنها الدولة، والتي يصل عددها إلى أكثر من 200 جنسية، ففي هذا المناخ الكوزموبوليتي الحيوي والديناميكي، تأتي أهمية وجود حاضنة ثقافية كبرى تسع الجميع وتسعد الجميع أيضاً، وتجعلهم مشاركين حقيقيين في تفعيل النشاط الفني ومواكبة التطور السريع في التحولات الثقافية والانفتاح على الآخر، وتجاوز الأفكار الرجعية المتمثلة في الانغلاق والعزلة والثبات والانكفاء.
قامت فلسفة تجديد مبنى المجمع الثقافي باعتباره رمزاً لنشأة العاصمة الإماراتية، على عنصر مهم وهو الانطلاق من القاعدة الأساسية لإنشاء المبنى القديم والمتمثّل في نشر الثقافة ورعاية المواهب الفنية، للوصول إلى صيغة معاصرة وتفريعات مبتكرة وخلّاقة للأنشطة والبرامج والفعاليات والعروض، ما يمنح أبوظبي هوية ثقافية متوازنة تحتفي بالعنصر المحلي وتستقطب في ذات الوقت الأسماء والفرق العربية والعالمية ذات الحضور الدولي اللافت، وذات الإمكانات الفنية المتميزة والمبهرة.


وأسفر التوجه التجديدي لمرافق المجمع الثقافي والتي تم تدشينها مؤخراً، عن إنشاء قاعة عرض داخلية تسع 900 شخص إضافة للمدرج الروماني الخارجي المخصص للأنشطة المقامة في الهواء الطلق، كما تشمل عمليات التجديد إعادة بناء المكتبة الرئيسية، واستحداث «بيت الخط» وإنشاء مكتبة أبوظبي للأطفال بتصاميم جاذبة ومواصفات تقنية عالية، وعودة «المرسم الحر» إلى مكان انطلاقه في ثمانينيات القرن الماضي، مع توفير مساحات أكبر للمعارض ومرافق الأنشطة الثقافية والتعليمية وورش العمل.
واحتفاء بإعادة افتتاح هذا الصرح الفني والمعرفي، قامت إدارة المجمع الثقافي بتنظيم حزمة من النشاطات التفاعلية التي استقطبت الجمهور مجدداً وجعلته عنصراً عضوياً وفاعلاً في إثراء هذه النشاطات ومنها: معرض: «الفنانون والمجمع الثقافي: البدايات» الذي أقيم العام الماضي مع إنجاز المرحلة الأولى من الخطة التحديثية للمجمع، وشارك في المعرض أبرز الفنانين الروّاد الذين كان لهم اتصال وثيق بالمجمّع في عقوده الأولى، بالإضافة إلى مجموعة من الأعمال الفنية لجيل الشباب من الفنانين الذين ترعرعوا في كنف المجمّع.
أما الموسم الافتتاحي للعام الجاري فدشّن نشاطاته بمعرض «الإهداء: معرض احتفائي بنجاة مكي» بمشاركة 19 فناناً إماراتياً. ويجمع المعرض بين ثلاثة أجيال مختلفة من الفنانين الإماراتيين تحت سقف واحد، بدايةً من جيل السبعينيات وحتى جيل التسعينيات، خاصةً أن هذه الأجيال الثلاثة المختلفة قد عاصرت الفنانة نجاة مكي ولمست دورها الريادي في تطوير المشهد الفني محلياً ودولياً، بجانب إقامة المجمع لعدة فعاليات موسيقية وسينمائية ومسرحية وعروض أدائية تجمع بين الإبداعات المحلية والعربية والعالمية في إطار تفعيل التواشج والربط المطلوب بين التيارات الثقافية والفنية المختلفة، وإرضاء الأذواق المتنوعة للجمهور وإضفاء السمة التوافقية بين فئات المجتمع بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم ومرجعياتهم.

عن الهندسة ومضامينها وإحالاتها
يعود تصميم مبنى المجمع الثقافي لمجموعة المعماريين التعاونيين (تاك) التي أسسها فالتر غروبيوس، المهندس المعماري ومؤسس باوهاوس، وضم ثلاثة طوابق وساحة مركزية، بينما عكف فريق عالمي على التصاميم التفصيلية للمشروع، وكان المصمم والمعماري العراقي هشام أشكري الذي كان يعمل مع لويس ماكميلين أحد مهندسي مجموعة المعماريين التعاونيين (تاك) المسؤولة عن المشروع، حيث قام المهندس أشكري بوضع التصاميم النهائية للمجمع الثقافي بعد أخذ الموافقة من الشيخ زايد «طيّب الله ثراه» الذي عرضت عليه عدة مقترحات لشكل البناء ومساحته والأقسام الخاصة به والفراغات الخارجية المحيطة قبل أن يستأنس بالتصميم النهائي ويقرّه. ويستحضر المهندس أشكري تلك اللحظات الحاسمة والعالقة في ذهنه عندما يشير إلى أن الفكرة بدأت بالتنفيذ في شهر مارس 1972، وكانت الأرض خالية، حيث تم وضع حجر الأساس في الزاوية الجنوبية الشرقية للمجمع والمكتبة الوطنية.
ويوضّح المهندس أشكري أن الصرح الذي نراه اليوم هو بناء المرحلة الثالثة في عملية التصميم التي تمت في 1973، مشيراً إلى أن شكل البناء مستوحى من مفهوم المعمار المدني الإسلامي الذي ساد في بداية السبعينيات، إضافة إلى الأفكار المستوحاة من بهو قصر الحمراء في إسبانيا ذي النافورة المهيمنة بحضورها وتأثيرها الجمالي، ويشاهد هذا في بهو المكتبة، حيث جرى استعمال المساحة المفتوحة كقسم للعرض يشتمل على التنوّع في الفضاءين الداخلي والخارجي، ما يتيح الفرصة أمام الجمهور والزوار للتواصل والتعارف والإقبال على المعارض التي يحتضنها المبنى، وما يساهم أيضاً في تحسين أداء الموظفين وسهولة استخدام المرافق، خصوصاً مع وجود ثلاثة أقسام منفصلة في كتلة البناء وذلك لحمايتها من التصدع، فالمسرح تم تصميمه بطريقة النجمة الثمانية، وتم إحداث شقوق في الجدران والزوايا لتفخيم الصوت من دون تأثيرات مزعجة للصدى، إضافة إلى المعالجة التي تمت للإسمنت، ما يجعله مبنى جامعاً بين المتانة والبساطة في آن واحد، كما أنه يضفي انطباعاً بتمازج عنصري القوة والرهافة في حيّز بصري مشترك، مع وجود بوابتين رئيسيتين للمبنى، إحداهما مخصصة للجمهور الخارجي لأنها قريبة من المسرح وقاعة المعارض، والثانية مخصصة للموظفين لقربها من المصاعد والسلالم الذاهبة للطابقين العلويين حيث المكاتب وغرف الاجتماعات والقاعات الصغيرة المهيأة للورش والمحاضرات الخاصة بالحضور النوعي والمكثّف.