ستظل تشرق لتوّها أسطورة اللا مستحيل من أعماق الموج المسحور بها، لتمنحه ذاكرتها الأصيلة المتجددة، ولتترك للمستقبل ذاكرة مختلفة، لكنها تشبه شمسها وأمواجها ونخيلها وناسها وصقورها وصحراءها الخضراء، فكلما لمعتْ أمّ النار اقتربت منها حباً وبحثاً عن شاطيء وأمان، وكلما تكلمتْ هبّ إليها السندباد، وأنشدتْ الجهات حكمة إنسانية بحْرية موروثة: «ليس اللؤلؤ سوى رأي البحر في الصدف».
هي هكذا الإمارات ابنة البحر تحنو عليك بكل ما أوتيت من محبة عميقة وعريقة تجسدها بالخير والتسامح والسعادة لتجد في مراياك تلك الأمواج الانعكاسية المتلألئة كما «السنع» و«الناموس»، ثم تجذبنا لنصغي معها إلى سيمفونيتها التي تغوص بنا إلى أعماقها المتلاطمة مع أعماقنا بتفاؤل مشرق لتتشكّل هذه الكينونة موسيقا كونية مميزة ينشدها «النهّام»، وتعزف حركاتها «اليولة»، وتتداخل مع «خراريف» الجدات وهدهداتهنّ الأشبهَ بإيقاعات ميثولوجية تطرّز أناشيد المستقبل المتوغلة في الذاكرة الأصيلة للبحر وهي تراقص الصحراء والغيوم والجبال.
ولأن البحر مفردة أعماقها تموجُ بمدلولات لا نهاية لنهاياتها، فإنها تبحر بنا مخيلةً وخرافاتٍ وأساطيرَ ورموزاً مختلفة ومتنوعة تتشجّر في الثقافة الإماراتية حياةً وإبداعاً، وهذا ما تموج به «شذرات» النصوص الشعرية والسردية بين علي أبو الريش وعبد العزيز جاسم وحصة لوتاه وإبراهيم مبارك وأحمد راشد ثاني وجمعة الفيروز وفاطمة سلطان المزروعي ولولوة المنصوري وأسماء الزرعوني لتتشكّل أشرعة لقوارب هذه «الشذريات».
 
حقل كوني ومحارات خيول
لجلال البحر ورقصة الموج جنون وعبقرية الوجود، ولصوت النهّام عزف على أوتار اللهفة المباركة، وللسفر البعيد في أعماق الحلم، تبدو الحياة رحلة طويلة محملة بحركة المجذاف ورفرفة الأشرعة، ولكليهما رونق الصدق وبهجة الفردانية وقوة الإرادة، وعد أبدي يرسم ملامح الوجود بريشة الأصابع الدامغة في أحشاء المحارات التي كانت في حضور الغواص تبرز حقلاً كونياً يمزج بين الماء والعرق، ويسرج خيول الأشواق في الأحشاء
 «علي أبو الريش. البحر في الذاكرة الإماراتية.. تراجيديا الحياة والموت‏‏».

البحث عن عنوان
الشيخ المسن بعمر الأربعين
شرقي، ينهل من ماء الإشعاع المتساقط
يسيل على الأرض بين الطرقات
يتنفس عشقاً
يحلم بالنوم على الأرصفة
يبحث له عن عنوان بين أطياف الشك وأطياف اليأس
يحمل الموج ناطقاً رسمياً باسم الحقيقة
لكل موانئ العالم دون حقائب
 «جمعة الفيروز. قصيدة أمل.‏‏ مجموعة ذاهل في الفكرة»

انصهار متجانس حدّ التطهّر
مرت عربة مسرعة دثرته بالغبار فأغلق عينيه واستيقظ فيه شيء من الحزن والغضب. مشى باتجاه البحر، اقترب من الماء، عانق الموج قدميه، احتضنها وغسلها من الغبار. مشى نحو البحر أكثر. أحس بأن كائنات البحر متجانسة والماء المالح يغسل جسده. مضى أكثر ألقاً في الماء، ثم ذاب فيه.
«حصة لوتاه. قصة الأبواب المغلقة من مجموعة في الصحراء ورد».

الأعماق شعلة وحيدة
أغطس كضرس الأبدية في المياه العميقة
وحيداً مع شعلتي
كنت أرود حارات البحر
وأبيع ضوئي للأسماك وعظام الغرقى
وكنت أقف على الصواري المرجانية مشتملاً بعلتي
وأخطب فيهم بعيوني
 «عبد العزيز جاسم. من كتاب «مجهول البحر ومعلومه»
 
ذاكرة على الشاطئ
إنني أتمشى أمام البحر، وأزاول هوايتي التي أحبها، هواية المشي، لا ريب أن العالم كبير، وأكبر من هذا الشاطئ الذي اعتدت على زيارته منذ طفولتي، لقد مضت حياتي الأربعين بسرعة، فلم أحس بطعم الحياة، تذكرت الزهور الذابلة في حديقة منزلي، لا بد أن أعتني بها حتى لا أفقدها، بصدق أنا لا أريد أن أفقدها الآن، أعلم أنه لن يعتني بها بعد مماتي.
 «فاطمة سلطان المزروعي. من قصة قلب دافئ مثل قلبي من مجموعة أرملة فاتنة»

أرواح متطايرة
حين تغطس المحرق تدريجياً في ليلها وهمسها وحلمها ونعومة نسيمها القادم من الخليج، يخرج اللغز من النور الضئيل المترنح على البحر بالحزن واللذة والجنون، أجدني فارغة مني، لا أعرف عم أبحث، أزحم في ذاتي، وأفتش في الأرواح المتطايرة بصورة الأموات عن معنى الوجود الإنساني الذي يعقبه فناء أبدي دائم، تدخل أسئلتي المندوس الخشبي لرزيقة وترقد فيه، صندوق الموت المنغلق بإحكام على رائحة أمي وجدي.
 « لولوة المنصوري. من رواية آخر نساء لنجة»

البحر طيور عائدة للوطن
طيرٌ يعرف أن له في الصبح نشيداً
يقطعه فتضج به الغابات
ويكبر فيه العشب
وتمضي الأنهار إلى رغبتها
ويؤوب البحر إلى وطنه
 «أحمد راشد ثاني»

خيمة عشق خضراء
ينساب كالدم في شرايين الجسد.. تنبض الحياة لتمتد بمسيرتها على مسافات العمر المقبل. خيط طويل بين العدم والوجود يمتد العمر معه، ثم تبدأ حياة جديدة عندما يتعب العمر من مسايرة تدفقه المستمر، فتخرج حياة وليدة لترافق دربه الطويل، وتنبت البذور في ثنايا انسيابه.
وقف مع الواقفين على ضفته، يتأمل مده وجزره. كان الخور يحكي بحب حياة أفراد عشقوا البحر فكان مسكناً لهم. عند الجزر شاهد أعداداً من الصيادين يجمعون من أفواه الصخور أعشابه البحرية الخضراء ويودعونها قوارب صغيرة تجوب امتداد الماء لتكون غذاء لأسماك تصبح، فيما بعد، قوتاً لسكان البحر.
«إبراهيم مبارك. قصة عاشق البحر من مجموعة سواحل البحر».

البحر يتيم
لست وحدي كئيباً. العالم يتنفس الصعداء ويخرج آهات حارقة. القارب يتيم مثلي. الشبك، السمك، الهواء، الفضاء، الشمس، كل الأشياء تشكو الوحدة وتنعي أبي.
«علي أبو الريش. السيف والزهرة‏»

الأزرق اختفاء أبديّ
الماء.. الحياة.. «السيف».. البحر.. أنا. تركض، لكأنها تستعيد صوتها الآن أمام الأزرق الأبدي، سؤالها المضني عن الما بعد والما وراء والقاع. السطح والضفة، ترد على جاسم الذي قال: أنا لهذا البحر وأنت لليابسة. كان يغيب في الغمر، وكانت تخاف الملح. بقيت تركض على الساحل، وبقي يركض معها حتى نضجت أقدامهما، فتوارت خلف الأبواب، وتوارى مع الأزرق الشاسع يوم اكتمل نصاب سحنته السمراء، وجذعه المسفوع بشمس الساحل.
« صالحة عبيد. قصة غرق من مجموعة خصلة بيضاء بشكل ضمني».

مرايا الحنين والتأمل
البحر.. البحر هناك، ستلقي كل همومها كما اعتادت دائماً. جلست على الشاطئ سارحة تنظر إلى الشمس وهي تودع اليوم شيئاً فشيئاً وتختفي خلف الأفق.. هل تستطيع هي أن تودع همومها؟ النوارس ترفرف بأجنحتها قرب الشاطئ والموج يهدأ ليستمع إلى حديث الذين يرتادون الشاطئ. حدقت بعينيها نحو الأفق، وبدأت الصور تتسلل إليها مع أشعة الشمس الباهتة ويشدها الحنين إلى ماضي الذكريات.
«أسماء الزرعوني. قصة همس الشواطئ من مجموعة تحمل العنوان ذاته‏».