عماد ملاح (بيروت) - في منتصف الستينيات، وعلى رصيف «الكورنيش» البحري لمنطقة «الزيتونة» في العاصمة بيروت، ووسط الازدحام الشديد والضجيج في كل مكان، وبالقرب من مسبح «السان جورج» الذي كان مقصداً للسياسيين والأثرياء، وطبقة النخبة في المجتمع اللبناني، هناك كانت مجموعة من محترفي التصوير الفوتوغرافي المائي، يفترشون الأرصفة وصولاً الى شاطئ المنارة، وأول ما يلفت النظر في هؤلاء، هو تقدمهم في السن، حيث تعلو وجوههم شيبة الرأس، وتلتف حول كل منهم مجموعة من الناس، من بينهم السائح والطالب والموظف، ومن لهم مصالح مرتبطة بالسفارات والقنصليات، ممن يريدون إنجاز معاملاتهم بسرعة، حيث يقصدون المصورين المائيين، الذين يتميزون بإنجاز الصورة في غضون دقائق. مساحة ضيقة أحمد الصعيدي، رافق والده في مهنة التصوير المائي الفوتوغرافي التي اختارها، والتي بدأها هواية لتقوده فيما بعد الى الاحتراف، وإلى مورد رزق لعائلة كبيرة كان هو من بين أفرادها، وإن كان يومها ولداً فتياً لا يفقه من أمور الدنيا سوى اللعب والركض على رصيف «كورنيش» الزيتونة». وعن ذلك يقول، إن والده كان يفترش مساحة ضيقة من الرصيف، وأذكر أنه كان لا يلتفت الى ما يدور حوله ولا يتكلم كثيراً. وقف في هذا المكان لعشرات السنين، وكل أخوتي تعلموا وتربوا من هذه «الماكينة». يتابع: أذكر أن والدي كان يشتري علبة «الكارت» بعدة قروش وبعدها عندما ارتفعت الأسعار، أصبحت تباع فيما يسمى بـ»السوق السوداء». والمشكلة التي كنت أسمعها من والدي وبقية المصورين عندما نضجت بعض الشيء، تتمثل في أن غلاء الخامة كان يؤثر على الزبون، لأنه مضطر إلى رفع السعر كلما زاد سعر الخامة. ووالدي في زمن الستينيات كان «ملك زمانه»، فلم يكن هناك تصوير فوري، ولا صور ملونة، وكانت الاستديوهات قليلة جداً.. اليوم انحسر العمل كثيراً، ولم يبق إلا «العواجيز» ممن امتهنوا تلك الصنعة، التي ضاعت لأن الأولاد يرفضونها ولا يحبون تعلمها، وأيضاً يخشون سخرية الناس، وهذا ما حصل معي عندما رفض أولادي أن أكمل الطريق بهذه المهنة. عن العقبات التي كان يعانيها أصحاب هذه المهنة، قال الصعيدي: كان أبي يشكو من اللامبالاة من جانب الحكومة، التي لم تساعد ولم تشجع مهنة التصوير الفوتوغرافي المائي، بل أحياناً كثيرة كانت تهدم «الأكشاك»، التي كانت تحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، تحت حجج واهية. ذكريات التصوير المائي سيد منصور مصري الجنسية، مقيم في لبنان منذ عشرات السنين، وكان والده يعمل في مهنة التصوير الفوتوغرافي المائي، وقد توفى، وبقي هو في لبنان بعدما تزوج من سيدة أنجبت له ستة أولاد، وعن ذكريات التصوير المائي التي مارسها والده، قال: عمل أبي في هذه المهنة منذ عشرات السنين، وأذكر بأنه بدأ التصوير من الأربعينيات، ومن ثم ترك المهنة فيما بعد لإصابته بضعف النظر، وهذا ما دفعه، أي الوالد، الى تعليمي وتدريبي على استخدام آلة التصوير، إلا أنني لم أكمل مشواري معها. ويتابع: كان والدي رحمه الله يعشق هذه المهنة، وقد ترك دراسته وتفرغ لها كهواية، كما كانت والدتي تخبرني. وقبلاً كان دخل العائلة يكفي، إلا أنه فيما بعد تغيّرت الأحوال وتبدلت الأجواء، بسبب إقبال الناس على التصوير بالألوان، علماً أن إمكانات الماكينة التي كان يملكها والدي جيدة، والخبرة كانت تلعب دوراً في إعطاء صورة لا تقل جودة عن صورة الكهرباء. ويضيف سيد منصور: عندما كنت أرافق والدي وأنا فتى، كنت أرى الناس البسطاء هم الذين يقدمون على التصوير الفوري أو الملون. إضافة الى أن أبي صور شخصيات مهمة من مديرين وأساتذة جامعات، وأيضاً فعاليات تعمل في السلك الدبلوماسي، وكثيرون ممن اضطرتهم الظروف من أجل الحصول على الصورة في أسرع وقت ممكن. وعدا الشخصيات اللبنانية، صور والدي من المشاهير، إسماعيل ياسين وأنور وجدي وغيرهما من الممثلين، وكان ذلك في نهاية الخمسينيات والستينيات. بعد ذلك شهدت المهنة حالة من الركود، بالرغم من أهميتها، وبسبب عوامل كثيرة وعديدة، منها أن الماكينة كانت تصنع في بلدان كثيرة، مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا، وهي في الأصل صنّعت للعمل بالكهرباء، ولكن أبي كان يرفع «الشاسيهات» الأربعة، ويترك واحداً، ويقوم بتركيب الصندوق الخشبي بعد تصنيعه محلياً ليكون محل المعمل في «الاستديو»، ويقدم صوراً سريعة. وهذه المهنة كانت مهنة إنقاذ في حالة الطوارئ، وأشبه بالإسعاف السريع، كما كان يقول والدي، حيث يتم نقل الصورة في دقائق، والجمهور دائماً مستعجل، ويحتاج للصورة في أسرع وقت. عدسة وسكة وصندوق اشتاقت الأرصفة القديمة مثل «الزيتونة» و»السان جورج» والمنارة، الى آلات التصوير الفوتوغرافي التي شهدت عزاً وشهرة ومجداً، بالرغم من بساطة تكوينها، حيث يقول الخبراء عنها: كان يتم شراء العدسة والسكة قبلاً، بينما الصندوق والأرجل من الخشب، يتم تصنيعها محلياً، وهذه المهنة كانت مطلوبة وضرورية ولها جمهورها الفقير من طلاب وموظفين. محبو هذه المهنة ممن عايشوا انتشارها في الماضي، يقولون إنها شهدت عصراً ذهبيا، والقروش اللبنانية التي كان يجنيها أصحاب المهنة، هي أفضل من آلاف الليرات حالياً. اليوم زاد على هذه المهنة التصوير الفوري، والتكنولوجيا والتطور، والسبب في انقراضها هو عدم وجود راغبين بها، رغم أن الإنسان يحن دائماً الى الماضي الجميل، ويكفي القول إن من كان يملك آلة فوتوغرافية مائية، كان يصرف «تحويشة العمر» في عز الرخص. زحف الآلات الحديثة ثمة تغيير هائل أحدثته الآلات المستوردة من الخارج، وخصوصاً على الحرف والمهن القديمة. فلم تعد صناعة النقش على النحاس، أو زخرفة الأثاث أو غيرهما من الحرف اليدوية مجدية، وفي ظل زحف المنتجات الأوروبية والأميركية والصينية واليابانية على الأسواق اللبنانية، فإن مهنة التصوير الفتوغرافي المائي انقرضت لصالح الآلات الحديثة، وانطفأ الضوء الذي كان يعطينا صورة عفوية وصادقة صادرة من القلب، بعيداً عن ومضات «العصرنة» المعقدة