نبيل سليمان

يرسم الانتقالُ والسفر تاريخَ البشرية وتطورها. والأفضالُ في ذلك هي لسلسلة القدمين والخيول والجمال والفيلة والحمير والكلاب والعربة والقارب والسيارة والطائرة والمركبة الفضائية... وقد كان لكل ذلك تعبيره الشعري أو السردي أو التشكيلي...

جاء القطار كحلقة حاسمة في تلك السلسلة. وقد تعاظمت المدونة الروائية المتعلقة بالقطار، حيث تبكر الإشارة إلى رواية دوستويفسكي (الأبله ـ 1869)، والتي تنفتح بمشهد القطار الذي ينقل الأمير ميشيكين من المصحة في سويسرا إلى بطرسبرغ. وفي القطار يلتقي الأمير بليبديف وبروغوجين، وتُنسج بينهم العلاقة في ذلك الفضاء (القطاري) وبفضله. أما الرواية الأكبر شهرة، ربما، فهي (جريمة في قطار الشرق السريع ـ 1934) لأغاثا كريستي، حيث أقلّ القطار في رحلته من اسطنبول إلى لندن اثني عشر شخصاً، سوف يشتبه بارتكابهم جريمة في هذا القطار الذي سماه الفرنسيون (قطار البرق الفاخر). وقد استوحى منه هيرمان هيسه روايته (رحلة إلى الشرق).

فضاء
قبيل كريستي كان غراهام غرين قد جعل من القطار نفسه أيضاً فضاءً لروايته (قطار اسطنبول - 1932). لكن الرحلة هذه المرة تبدأ من بلجيكا لتنتهي في اسطنبول، وتشغلها الجريمة أيضاً، غير أن هذه الجريمة تفتح على التهريب والجاسوسية.
في عام 1863 ظهر قطار الأنفاق (المترو) في لندن. ومن الروايات الحديثة الموقوفة على المترو في زمن سيأتي، هي رواية الروسي ديميتري جلوجوفسكي (مترو 2033) الذي ذكر أن شغفه بمترو موسكو هو ما قدح له شرارة هذه الرواية فأبدع شخصية (آرتوم)، الذي لم يبرح محطة المترو قط، فهي (وطنه) الذي سيؤوي من تخيّل الكاتب أنهم نجوا من انفجار نووي قي موسكو.
بين محطة القطار والقطار نفسه تدور رواية إيتالو كالفينو (لو أن مسافراً في ليلة شتاء) على النهج (الألف ليلي)، حيث تتناسل قصص وحكايا الركاب والمحطات وأحوال القطار في الليالي الشتوية القارسة.
ومن هذه الرواية السادسة من الروايات العالمية التي جعلت القطار فضاءً لها ـ وقد آثرت أن تكون، مع ماسيلي، جميعاً، مترجمة إلى العربية ـ أنتقل إلى الروايات العربية النظيرة، ولكن بعد أن أشير إلى قصة «في القطار» لمحمد تيمور (1892-1921) والتي يعتبرها كثيرون أول قصة قصيرة فنية عربية. فقد كان القطار هو فضاء هذه القصة ما بين محطة باب الحديد في القاهرة ومحطة قليوب.
أما في الرواية فتبكّر الإشارة إلى رواية (محطة السكة الحديد - 1985) لإدوار الخراط (1926-2015)، حيث الجو الكابوسي الذي تضطرم فيه خبطات القطار وصفيره والعربة المزدحمة والمسافرون والمحطة وشبابيك التذاكر والأرصفة والقضبان وذكريات الطفولة واصطدام القطار في ختام الرواية. وكل ذلك بالأسلوبية المعهودة لإدوار الخراط، وعلى النحو الذي يشبك بين أن يكون القطار فضاء وبناء وعلامة، في آنٍ معاً، مثلما هو الأمر في روايات شتّى، فالتصنيف ليس قاطعاً.
ومن الروايات ذات الفضاء القطاري الأكثر تميزاً تتقدم رواية (أصوات الليل - 1998) لمحمد البساطي (1937 - 2012)، ورواية (دنى فتدلّى - 1999) لجمال الغيطاني (1945 - 2015).
تمتلئ العربة الأولى في قطار «أصوات الليل» بالنسوة المتسربلات بالسواد. إنهن زوجات شهداء حرب 1973 في الطريق إلى حيث يستلمن رواتب أزواجهنّ. وإذا كان البساطي قد كتب هذه الرواية باقتصاده اللغوي المعهود، وبرهافة ودقة الإشارة، فقد كتب الغيطاني «دنى فتدلى» بالرهافة اللغوية الصوفية التي غلبت على أسلوبه، ليكون للقراءة أن ترمح بين القطارات المقبلة المدبرة، ترجّع السؤال عن صلة بين أكوان الإناث والقطارات، والكاتب يروي ذكرياته (القطارية) في مصر والعالم متهجّداً بأنوثة القطارات وبالقطارات الأنثوية.

بناء
ثمة روايات يبدو فيها القطار كفضاء وحيد أو مركزي، أو كفضاء من فضاءات. وبالإضافة إلى ذلك يبدو وكأن القطار هو ما يشيّد معمارية الرواية. أي أنه يبني الرواية، مهما تكن درجة حضوره.
في رواية الجورجي لاشا بوجادزه «إكسبريس الأدب» يحتشد مئة كاتب مدعوون إلى مؤتمر أدبي ينعقد في قطار الأدب الذي يقطع أوروبا، وعلى الأدباء أن يكتبوا أثناء الرحلة نصوصهم.
على درجة أكبر جلاء لما يعنيه أن يكون القطار بناءً روائياً، تبدو رواية بولا هوكينز «فتاة القطار». وقد استلهمت الكاتبة روايتها ممن يستقلّون القطار في لندن يومياً إلى أعمالهم، ويمتلئون بما يبرق من نوافذ القطار من البيوت، فيتخيّلون حيوات من يحيون فيها. ولئن كانت قولة الرواية الكبرى تشبه حياتنا بالقطار الذي توحّد الغربة من فيه، وتشبه المحطات بالتماعات البهجة والحسرة، فإن المحطة الأخيرة ليست حول القطار، ولا فوقه، بل تحت عجلاته، عقاباً أو إخلاصاً.
في رواية «قطار الليل إلى لشبونة» لباسكال مرسييه، وكما كتب شوقي العنيزي بحق، ما من قطار ولا ليل ولا لشبونة، بل هي دعوة لكل منا إلى الإنسان فيه، بعدما تركه غريباً مهملاً في محطة مهملة من حياته. أما تسريد ذلك فقد جاء به الفيلسوف السويسري مرسييه في إهاب رحلة البروفسور غريغوريوس بالقطار من برن إلى لشبونة، وفي القطارات الأخرى التي تنقل فيها في أوروبا بحثاً عن حياة أخرى، فكانت الرواية استعادات للماضي وتأملات.
عربياً، تبكّر رواية (الأشجار واغتيال مرزوق - 1973) لعبد الرحمن منيف (1933 - 2004) إلى هذا اللون من (أدب القطارات)، وبالتحديد: الرواية القطارية. فالقطار يجمع منصور عبد السلام، الأستاذ الجامعي والمترجم لبعثة أثرية، مع الياس نخلة. وتتحول رحلة المثقف السياسي الذي ينتحر أخيراً، والمهرب المغامر، إلى رحلة نحو الماضي، يسرد فيها كل من المسافرين قصة حياته للآخر.
وتلك هي رواية (قط وفار في قطار - 1955) لفتحي غانم (1924 - 1999)، حيث ما إن يضع بطل الرواية المحامي قدمه في القطار حتى تبدأ الغرائب والعجائب، وتبدأ رحلة في الزمان – استذكار الماضي – والمكان الذي يترامى من سويسرا إلى الصين. وفي سيرة الكاتب أنه كتب هذه الرواية خلال رحلاته في القطارات في أوروبا.
وهذه أيضاً رواية (مترو - 2008) لفنان الكومكس الذي قدم أول رواية عربية مصورة، وبدا فيها المترو بلداً ومصيدة وسجناً، سيودع، الشاب المهندس ما سرق من البنك في محطة منه وسط المدينة. وتتلامع في الرواية محطات المترو التي حملت أسماء رؤساء وزعماء لمصر، وفي كل محطة نفثة حارة مما يكابد الناس. ومن المعلوم أن الرواية صودرت ولم يفرج عنها إلا بعد ثورة 25 يناير 2011.
من هذا الواقع الموبوء بالفساد والقمع تمضي إلى المستقبل رواية (يوتوبيا - 2008) أحمد خالد توفيق (1962 - 2018). وقد انشطرت مصر في هذا المستقبل الوشيك إلى مصر الفوقية، هي اليوتوبيا، والسفلية، هي أرض الأغيار. وسيكون المترو ما تبقى من مظاهر الحياة، بعد خراب قناة السويس وافتتاح إسرائيل لقناتها الموازية، بينما بدت عربات المترو مثل وحوش هامدة. فالسادة توقفوا عن استخدامها ورحلوا إلى عاصمتهم. وقد كانت تلك العربات مراحاً فغدت مأوى الكلاب الشريدة. ومن ذكريات الماضي فوق عربة المترو يتلامح لعب (البرغوتة)، بينما آلت الأنفاق في الظهيرة إلى ليل أبدي.

علامة
بدأ تولستوي (1828 – 1910) روايته المعجزة (آنا كارنينا - 1878) من محطة بطرسبرج، حيث التقى فرونسكي وآنا، وقدحت الشرارة التي ستقدح ثانية في المحطة وفي القطار. وبعد عرام الغرام بين هاتين الشخصيتين، وخراب زواج آنا، وانقلاب فرونسكي عليها، تنتهي الرواية في محطة البداية نفسها التي تدوي فيها صفارة القطار، ويفحّ البخار الحبيس، وتجلجل السلاسل وأحجار الرصيف إلى أن ترتمي آنا تحت عجلات القطار. وكان تولستوي قد شهد ارتماء شابة أمام قطار الشحن، كانت عشيقة لجارٍ له.
هكذا يكون القطار علامة روائية فارقة وكبرى، مهما يكن حجم حضوره في الرواية. ومن التجليات العربية المبكرة لذلك رواية (القطار 1974) لصلاح حافظ (1938-2008)، حيث يحمل القطار السجناء الثوريين المنفيين إلى أقصى الجنوب. لكن طوفان الناس يغمر المحطة التي سوّرها العسكر، فما هو هذا القطار الروائي؟
يترجّع السؤال في الروايات المماثلة، مثل رواية محمد البساطي «ويأتي القطار»، التي يربط القطار فيها القرية المعزولة بالعالم. وإذ ينتظر الراوي مع شقيقه القطارَ الذي سيقلّه إلى العاصمة ليلتحق بالجامعة، يصير القطار علامة للمستقبل والمصير، مما سيترجّع حاّراً في رواية مها حسن (مترو حلب ـ 2016). فإلى باريس تحضر سارة من حلب المبتلاة بالقصف والحصار والتشرد. وإذ تعلن هذه القادمة لزيارة خالتها المريضة أنها ضد عسكرة الثورة وأسلمتها وضد الارتهان إقليمياً ودولياً، تنتقل في باريس بالمترو، وتغزل الحلم بأن يكون لحلب مثل هذا المترو الذي يتيح للغريب ـ كما قال كافكا ـ فرصة كبرى ليحسب أنه قد أدرك جوهر باريس. ويشار أيضاً إلى الخالة التي تحلم كلما مرّ المترو فوق نهر السين أو جاب المدينة، بأنها ترى من نافذة المترو قلعة حلب أو سوقاً أو حياً منها.
تتوهج العلامة السيرية في روايتي عبده وزان (غرفة أبي ـ 2013) و(البيت الأزرق ـ 2017). ففي الأولى يستعيد الراوي من ذكريات المراهقة محطة القطار المهملة والقديمة، كأنها بقايا محطة ازدهرت ذات يوم، ولا تزال فيها بعض المقطورات التي أكلها الصدأ، وغرفتان ربما كانتا لحراس المحطة. وفي الاستعادة يأتي القفز على السكة المتقطعة، والمشي عليها مع تقليد صفير القطار، والصعود إلى المقطورات القذرة ذات النوافذ المكسورة، والتي باتت مراحيض للعابرين. وقد كان الراوي ورهطه يرسمون القطار على الورق، ويحلمون به يقتحم أسرّتهم، لأنهم لم يشاهدوه مرة يعبر السكة التي غطاها التراب، ونبت العشب بين ضلوعها. ويروي عبده وازن أنه شاهد القطار في العشرين، ولكن ليس كما حلم به أو رآه في الصور. إنه مترو باريس، ولكن ليس هذا صفير القطار، وليست هذه السكة التي كان يتخيلها، لذلك لم يحب مترو باريس، حتى إذا انتقل إلى كنشاسا حيث عمل مراقباً لأنه أبيض، اكتشف لأول مرة القطار الحقيقي على سكة لا تنتهي. وسوف يتحدث في الرواية الثانية عن أبيه وعن المحطة والسكة من جديد. وبمثل ذلك، هي السيرية في رواية صموئيل شمعون (عراقي في باريس ـ 2009). ومنها نوم الراوي في محطات القطارات وعلى أرصفتها، شريداً. ومنها أن حسبت امرأة وابنتها المراهقة في المترو، أن الراوي الذي حلق شاربيه هو الدوماتشيوني المحبوب في فرنسا. ففي مثل هذه التفاصيل يرجّع مترو باريس ومحطاته نبض الزمن.