نوف الموسى (دبي)
أعمق ما قد يُشكل الذاكرة هو الشعور، والسؤال عن ما يحدث بالتحديد عندما تُبتر الذاكرة بشكل مريب، عن طريق صدمة مفاجئة مثل الفقد أو الحرب، لا يمكن استشفافه بصورة واضحة ومحددة، فلكل فرد تجربته التي لا تتكرر، وهي إحدى معجزات الحياة المهيبة. والفن بطبيعته إحدى تلك التعابير المفتوحة لهيئة الشعور، وما حدث مساء أمس الأول في معرض «ذاكرة المبتور» في مركز جميل للفنون، من خلال مجموعة من الفنانين المشاركين، هو البحث عن فضاء قابل لإعادة حالة الذاكرة الآمنة عبر ترميم شظايا من التراث المادي، منتجاً لحظة جديدة للذاكرة تختلف كلياً عن السابقة، إلا أنها تحفظ ميزة التراكم والبناء الجزئي للهدنة بين الذات والذاكرة نفسها، وتخفف من وطأة الصراع الذي ينشأ نتيجة البتر القسري، الذي عادةً يكون صادماً غير متوقع، والفنون تقدم استدلالا ماديا بإمكانية إعادة اكتشاف تلك الصدمة الشعورية ومحاولة تفكيكها للوعي بقوتها وتأثيرها علينا!
انتبهت غالبية الحضور لصندوق البيض الموضوع أسفل جرة فخارية كبيرة الحجم، خالقاً توازناً مذهلاً، أضفى فيه الفنان تيو مارسيي، هالة ضحك طفيفة، يقول إنه أراد أن يُنشئ الصدمة، بأن يجعل المتلقي يسأل نفسه عن الفرق بين سعر البيض، وسعر الجرة في السوق، لمَ هذا الاختلاف الشاسع بينهما، عابثاً وساخراً من ظاهرة تقديس الآثار وتعظيمها. بالنسبة لي أكثر ما فكرت به، هو تفريغ الفنان لمحتوى البيض، وجعله أسفل الجرة الضخمة، وكيف أنه بإمالة خفيفة قد تسقط الجرة وتُكسر، فالأخير هو من ينشئ فينا ردة فعل ما، قد تكون عنفاً أو ما أسماه الفنان علي شرّي بفعل التدمير في تشكيل الهوية الفنية في الأعمال، ومنه سألت الفنانة رند عبدالجبار، إذا كانت زارت بلدة العانة في العراق، مستخرجة تواريخها الضائعة، خاصة أن البلدة تعرضت لعمليات تدمير مستمرة، من قبل عناصر داعش، وتعاونت الفنانة مع مجموعة من الحرفيين وعلماء الآثار المحليين المعنين بإعادة بناء ما هُدم، لتقوم بتحويل الدمار إلى موقع تسرد فيه مظاهر تمكين المجتمع.
الأكثر تجذراً هو ما سعى لفعله الفنان خليل رباح، في عمله «بلا عنوان، كل شيء بخير»، عندما جسد تلك الشخصية المسنة في اللوحة الشهيرة «جمل المحامل» للفنان الفلسطيني سليمان منصور، والتي تحولت إلى رمز وأيقونة تناولت مسألة الاقتلاع والبتر بشكل مؤلم، ورغم أن الفنان خليل يرى الاختفاء على نحو تدريجي للقدس فوق ظهر المسن وهو يمشي، لكنه سعى إلى إعادة نسج الذاكرة مجدداً، بالإضافة الفنية عليها، مستخرجاً المسن خارج اللوحة بجعلها شيئاً ملموساً ويمكن التفاعل معه.