يتراجع كل شيء تقريباً في هذا العالم، إلا الديون. خطها التصاعدي عصي على الكبح، وهمومها أكبر من أي «أفراح اقتصادية»، وأثقالها أضخم من كل «الروافع» الطبيعية والمصنعة. إنها من تلك المصائب التي قد تنتصر لو عشت معها، لكن لا تحلم بكأس البطولة فيها. صارت الديون حقيقة إلى درجة أن بلداناً تفتخر بأنها تساوي نصف ناتجها المحلي الوطني، وليس كله! بينما هناك دول تحتاج لناتجها هذا مرتين حتى يمكنها التخلص من ديونها ومصائبها. في ديون العالم الهائلة المخيفة، لا أحد منيع، وتتساوى فيها بلدان متقدمة جداً وأخرى متخلفة جداً، مع الأخذ في الاعتبار، تفاوت المآسي الاقتصادية والمعيشية بين الأولى والثانية. ومن المصائب أيضاً، أن هذه الديون أكبر حتى من القيمة المالية الكلية للكرة الأرضية نفسها!
الأرقام تتحدث، وترسم بـ «بلاغة اقتصادية» اللوحة التي لا تحتاج إلى شرح، وبالتالي لا داعي لوجود خبراء اقتصاديين من أجل تفسيرها. حجم الديون الحكومية العالمية يقفز في الربع الأول من العام الجاري إلى 247 تريليون دولار! مرتفعاً 16 تريليون دولار عن العام 2016، وفقاً لمعهد التمويل الدولي. ولو جمعنا الأموال الناتجة عن كل اقتصادات كوكب الأرض، فإننا بحاجة لثلاث سنوات لتغطية هذه الديون! وضمن هذه الديون الخرافية، هناك 186.5 تريليون دولار هي ديون الأسر والشركات غير المالية! أما القطاع المالي العالمي، فبلغت ديونه 60.6 تريليون دولار. ومنذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في العام 2008، أخذت الديون بالتصاعد، إلى درجة أنها بلغت مستوى قياسي وصل إلى 58.5 تريليون دولار، بزيادة تتجاوز الـ84 في المائة!
لا شك في أن الأزمة العالمية المذكورة وتبعاتها التي استمرت قرابة عقد من الزمن، ساهمت في رفع الديون الحكومية العالمية إلى هذه المستويات المرعبة. فغالبية الحكومات أسرعت بتأميم مؤسسات وشركات كبرى خوفاً من انهيارها المؤكد. هناك مؤسسات تمثل رموزاً لهيبة بلدانها، لا يمكن السماح باختفائها. ورغم أن الحكومات تمكنت بعد عشر سنوات من السيطرة على الأمور، إلا أنها تواجه الآن فاتورة الديون. لكن لا توجد في الأفق مؤشرات على تراجعها في المستقبل، لأن حراك الاقتراض الحكومي يتصاعد في غالبية بلدان العالم، بما في ذلك البلدان المتقدمة. فأزمات دول مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا وإيرلندا لا تزال ماثلة على الساحة الاقتصادية. ولولا تحرك دول كبرى كألمانيا وغيرها لإنقاذ الوضع، لكان المشهد قاتماً مرعباً.
لا شيء مؤكداً للحد من الديون العالمية هذه. لكن ما هو مؤكد، أن الأجيال الحالية ستورثها حتماً للأجيال الآتية. وهذا شكل من أشكال الظلم، أن يولد الإنسان وهو مكبل بديون لا علاقة له بها. أموال لم «يستدينها» قبل أن يأتي إلى هذا العالم، وعليه أن يعيدها! ورغم كل شيء، علينا الاعتراف بأن هناك ديوناً حميدة وأخرى خبيثة، لكن الأخيرة هي السائدة. إنها الأكثر «توارثاً».