ليس من المؤكد أن حنا مينة قد ولد عام 1924، وبالتالي، ليس مؤكداً أنه رحل في الرابعة والتسعين. ذلك أن تدقيق الآباء والأمهات والسجلات الحكومية لتاريخ ولادة الأبناء والبنات، لم يكن متوفراً أو كبيراً في الغالب في سوريا، إلا لفئة الموظفين والمثقفين ورجال الدين، ولم يكن نسب حنا مينة في هذه الفئة، بل على العكس، كما عبّر في ثلاثيته السيرية «بقايا صور» وفي مقابلات وأحاديث جمّة، حيث ظهر الأب غير مبالٍ بأسرته. وليس افتقار تاريخ الولادة للدقة حكراً على حنا مينة، كما تؤكد سير الكثيرين من أقرانه وممن سبقوه أو تلوه حتى منتصف القرن العشرين، وحسبي أن أضرب مثلاً بآخر الشعراء الكلاسيكيين العرب الكبار: بدوي الجبل.

والأمر كذلك، ربما كان حنا مينة في الثانية والعشرين، أو فيما حولها، عندما كتب قصته القصيرة الأولى «طفلة للبيع». وربما كان في الثلاثين، أو فيما حولها، عندما صدرت روايته الأولى «المصابيح الزرق» عام 1954.

برزخ الحارة
أول برازخ العالم الروائي لحنا مينة هو حارة القلعة من مدينة اللاذقية، أي هو برزخ الحارة الذي ستعززه روايات أخرى للكاتب: «حارة الشحاذين» ـ 1975، وجزؤها الثاني الذي حمل هذا العنوان «صراع امرأتين» ـ 2002، وكذلك هي حارة (الصاز) من ميناء اسكندرون، أي «المستنقع» كما صورت الرواية التي حملت هذا العنوان عام 1977.
برزخ البحر
بسبب فراره من سوريا إثر ملاحقة دولة الوحدة السورية المصرية وهي الجمهورية العربية المتحدة (1958 ـ 1961) للشيوعيين، فقد طوّف حنا مينة في لبنان والصين والمجر قبل أن تصدر روايته الثانية «الشراع والعاصفة» ـ 1966، بعد اثني عشر عاماً من روايته الأولى، وإن يكن الكاتب قد أكّد أنه كتب هذه الرواية إبّان نشر روايته الأولى. والمهم هنا أن «الشراع والعاصفة» ستعلن البرزخ الثاني والأكبر في العالم الروائي لصاحبها: (البحر)، كما ستعلن بقوة عن هذا الذي سيحمل لقب (أديب البحر)، وسيعض على اللقب بالنواجذ والأنياب، على الرغم من الأصوات التي ستشكك في اللقب بعد عشرات السنين، لترى في حنا مينة أديب الشاطئ، وليس أديب البحر، تأسيساً على أن فضاء رواياته (البحرية) هو الشاطئ غالباً، وأن بحارتها (متقاعدون) يجترون ذكرياتهم البحرية. وسواء أصح ذلك أم لا، فالبحّارة هم عمدة القول بالبرزخ الثاني في العالم الروائي لـ (أديب البحر). وعمدة العمدة هو الطروسي الذي وسمت الملحمية مغامرته في «الشراع والعاصفة». لكن المغامرة التي حطمت عاصفتها مركبه (المنصورة) رمت بالطروسي في ميناء اللاذقية الذي سيكون أيضاً فضاء رواية «نهاية رجل شجاع» ـ 1989. وكما في المقهى الذي فتحه الطروسي، ستكون مقاهي الميناء في الرواية الثانية: لقاء البحارة ومطرح الصراع واستعادة المغامرات البحرية وغير البحرية. لكن هؤلاء البحارة كما في روايات أخرى، سيظلون نكرات تحفّ بالمعارف، أي بأبطال الروايات البحرية، يتقدمهم البحار المجرّب كالطروسي: صالح حزوم في الجزء الأول من ثلاثية «حكاية بحار» ـ 1981، والذي اختفى بعدما غرق مركبه، ليخلفه ابنه البحار سعيد في الجزأين: الثاني «الدقل» ـ 1982، والثالث «المرفأ البعيد» ـ 1983. وقد عاد حنا مينة إلى البحار صالح حزوم وإلى ابنه البحار سعيد في رواية «الرجل الذي يكره نفسه» ـ 1998، حيث يتوحد الراوي دعبس الفتفوت بصالح الذي لا يزال حياً، لكنه هارب من الحب، بينما ابنه يبحث عنه.
تقدم رواية «الرحيل عند الغروب» ـ 1992، البحار اللجاوي وهو يستعيد مغامراته البحرية إلى أن يعود إلى البحر، ويصارع العاصفة وينتصر. كما تقدم رواية «البحر والسفينة» ـ 2002، شخصية القبطان السابق بدر الزرقا الذي عاف البحر إثر خطأ فادح. ومن رواية إلى رواية ترتسم صورة البحّار بين الصلابة والشجاعة والشهوانية والقسوة والعشق والوفاء، كلما كان البحّار بطلاً للرواية، تظهر فيمن هو دون ذلك الضعة أو الغدر والجهالة والجشع.

برزخ الغابة
بعد برزخ البحر يأتي برزخ الغابة. ويمكن توحيد البرزخين باسم برزخ الطبيعة. فإلى (الغابة) يلجأ المرسنلي إثر قتله للخمّار اليوناني في رواية «الياطر». وثم يلتقي البدائي المتوحش بالراعية التركمانية شكيبة، فيبرأ من عهده الأول مع عاهرته أزنيف التي اقتحم ابنه عليه خلوته بها، فكاد أن يقتله. ولرواية «الفم الكرزي» ـ 1999، ستكون الغابة فضاءً، كما سيكون البحر، بينما تنفرد الغابة في رواية «النجوم تحاكم القمر» ـ 1993، وفي رواية «حين مات النهد» ـ 2003.

برزخ حوّاء
بعد الحارة والطبيعة (البحر + الغابة) يأتي برزخ المرأة الذي تتربع عليه ماريا من رواية «الشراع والعاصفة»، وكاترين الحلوة معشوقة صالح الحزوم وابنه من بعد، وشكيبة معشوقة المرسنلي، وسلافة معشوقة اللجاوي... وللبغيّ في هذا البرزخ حضور طاغ ومميّز، ليس ابتداءً بزنّوبة في «بقايا صور»، ولا انتهاءً بغنوج الزرقا في رواية «حارة الشحاذين»، أو بمنافستها شكوس التي ستقتلها، أو بامرأة القبو في رواية «الشمس في يوم غائم طويل» ـ 1973.

برزخ الآخر
وكما في الروايات العربية التي شغلها الآخر الأوروبي بخاصة، عبر المرأة والجنس، كان الأمر في عدد من روايات حنا مينة، سوى أن الآخر هنا كان الشرق آسيوي (الصين) وما عرف بالغرب الاشتراكي قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وكواكبه. ففي الثلاثية السيرية «حدث في بيتاخو» ـ 1995، و«عروسة الموجة السوداء» ـ 1996، و«المغامرة الأخيرة» 1997، تتدافر النساء على صدر ظل الكاتب: زبيد الشجري البوهيمي الدون جوان، ومن أولاء تتميز الصينية تشين لاو. وقبل الثلاثية ظهرت بيروشكا المجرية في رواية «الربيع والخريف» ـ 1984، وليديا البرتغالية في رواية «حمامة زرقاء فوق السحب» ـ 1988، وبربارة البلغارية في رواية «فوق الجبل تحت الثلج» ـ 1991. ولعل الإشارة في هذا السياق ضرورية إلى ما شغل بعض روايات حنا مينة من الآخر اليوناني في هذه الرواية، ومن الآخر الأرمني في رواية «الفم الكرزي»، وفي رواية «الولاعة»، وقد سبقت الإشارة إلى شكيبة التركمانية في «الياطر».

برزخ السيرة
وفي سائر هذه الروايات السيرية بدا ظل الكاتب الظليل ذلك السكّيرَ الذي لا يرتوي، وزيرَ ومعبودَ النساء، أي بدا ذكورياً ربما بأسوأ معاني الكلمة، فالأنثى هي فقط الغرض الجنسي لهذا الكاتب الفحل اليساري المنفي من بلده الذي تسمّى باسم كرم المجاهدي أو باسم زبيد الشجري، وتسمى في روايات سيرية أخرى بأسماء أخرى، مثل دعبس الفتفوت في رواية «الرجل الذي يكره نفسه»، أو فياض في رواية «الثلج يأتي من النافذة» ـ 1969، أو عناد الزكرتاوي في رواية «النجوم تحاكم القمر». وقد حُق في كل هذه الروايات السيرية ما خاطب به ديمتريو نفسه في رواية «مأساة ديمتريو» ـ 1985، ومن ذلك: أيها الوغد ـ يا جوّاب الآفاق..

برزخ المعلم
ثمة برزخ آخر أقل شأناً، ولكن لا ينبغي إغفاله، وأعني به شخصية المرشد أو المعلم الذي يحضر بمثابة الأب، أو صديقاً، أو قائداً يسارياً، شيوعياً أو نقابياً، ليأخذ بيد بطل الرواية الأصغر سناً وأقل تجربة وثقافة وخبرة. هكذا تشكل سعيد حزوم على يد الأب البديل أو الأب الثاني بعد اختفاء الأب الحقيقي صالح حزوم، كما تشكّل الفتى الذي كانه حنا مينة في اسكندرونة في رواية «المستنقع» على يد عبده حسني الذي يقدم لفتاه الكراريس الثورية. وكذلك كان للنقابي فايز الشعلة دوره، وللشيوعي اسبيرو والأعور دوره. وهذا الدور سيتجدد في رواية «الثلج يأتي من النافذة» وقد غدا الفتى شاباً وتسمّى المعلّم بخليل، بينما تسمّى الشاب بفياض الذي تلاحقه المخابرات في الإقليم الشمالي (سوريا) من الجمهورية العربية المتحدة، كما لاحقت الشيوعيين في هذا الإقليم وفي الإقليم الجنوبي (مصر).

أشجان الرحيل.. فسيفساء تنجز وعدها
من النادر أن تُذكر مساهمة حنا مينة النقدية التي تجلت فيما كتب عن الآخرين، كما في مقالاته في مجلة «النقّاد» السورية المحتجبة، والتي كانت بالغة الأهمية في خمسينات القرن الماضي. وقد تجلّت تلك المساهمة النقدية أيضاً فيما كتب حنا مينة عن تجربته، كما في كتاب «هواجس في التجربة الروائية».
من جهة أخرى، ومن أجل أن يكون الحديث عن حنا مينة أوفى، ليس للمرء أن يغفل عن انحيازه إلى رأس النظام السوري، وهو من كان له دور أساسي في تأسيس اتحاد الكتّاب كما كان له دور أساسي في تأسيس رابطة الكتّاب السوريين (1951). وقد أسرع الإقصائيون والإلغائيون الذين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الثورة إلى الشطب على حنا مينة وعلى كتاباته جزاء على ما ذكرت من انحيازه، مما ينادي القول فيما يذهب من المرء بالموت، وما يبقى من إبداعه، حتى لو كره حامل الساطور الإقصائي والإلغائي. لقد سميته البحّار العجوز الشاب، وسميته الشاب الذي لا يشيخ، وسميته الساحر الجميل، ووصفته بما لا يرضيه: النرجسي والذكوري في رواياته السيرية، والكلاسيكي في فنه الروائي، ولكن... ولكن، ألا يحق لي، أن أزهو بأنني ابن اللاذقية التي سكنت من روايات حنا مينة ما سكنت، لكأنها أم المدائن التي أقام فيها، وقامت في رواياته، وها هي تحتضنه في مقامه الأخير؟ لقد أقمت في العام الدراسي 1959 – 1960 في حي القلعة، في حارة رواية حنا مينة الأولى، «المصابيح الزرق»، وذلك عندما كنت طالباً في الثانوية الصناعية القائمة في الحارة المحاذية، حارة الشحاذين. وبعد قليل، بعد أن قرأت رواية «المصابيح الزرق»، دأبت على أن أتهجّى في حي القلعة، ليس موطناً لصباي، بل الموطن الأول لعيش حنا مينة ولخياله، أي لحياته وروايته. وهكذا أيضاً دأبت من بعد، على أن أتهجى في حارة الشحاذين أو الميناء أو الشيخ ضاهر أو أي ركن لاذقاني، ليس موطناً لصباي، بل الموطن الأقرب لروح حنا مينة، كما أعلن هو مراراً، وكما أعلنت غُرر رواياته دوماً.
في حفلٍ لتكريم حنا مينة في مدينة السويداء عام 2010، تساءلت: أليس من حق حنا مينة علينا، أليس من حق الإبداع والثقافة علينا، وفي أقل القليل، أن نعلق لوحة حيث كان دكان الحلاقة الذي عمل فيه حنا مينة زمناً، ولوحةً فلوحةً حيث أقام وحيث عمل؟ ومَنْ أولى من اللاذقية أن يكون لحياة وإبداعات حنا مينة متحف فيها؟ لقد مضى حنا مينة بعدما بذل حياته ليكون لنا هذا العالم الروائي، لتكون لنا هذه الفسيفساء الثرية البديعة التي يعشق فيها البشر ويتصارعون ويتآخون ويتحيونون ويتسامون، فسيفساء المناضلة والعاهرة والسجان والسجين والأب السكير والأم القديسة والصياد والقاتل والفادي.. إنها الفسيفساء التي تنجز وعدها، روايةً فروايةً، فتتمجد القيم الإنسانية النبيلة، يتمجد الإبداع، يتمجد حنا مينة.

الوصية
كتب حنا مينة في وصيته يقول:
أنا حنا بن سليم حنا مينة، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب».
كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل.
لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.
أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب عليّ، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إليّ، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.