السعادة مفهوم قديم عرفته البشرية مذ وعت وجودها على هذه الأرض، وحتى قبل اصطفافها في عيش منظّم عكسه ما اصطلح على تسميته في ما بعد بـ «أهل العصور البدئيّة»، والذين عرفنا أشياء عن مراحل حياتهم الأولى من خلال رسوماتهم على جدران الكهوف والصخور في مختلف قارات العالم، والتي يعود أصول بعضها إلى 42.000 سنة خلت. ومع ظهور عصور الكتابة والتدوين، التي وثقت حضارة الإنسان وتعبيره المباشر عن الذات.. ذاته في أعماقها، لم يكتفِ بذكر السعادة والكلام عليها فقط، بل قال فيها شعراً مرسلاً أيضاً كالشاعر الفينيقي ملياغر الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد في مدينة صور الفينيقية وكتب قصائده باليونانية القديمة.
ولاحقاً عرفت البشرية مفهوم السعادة وفلسفته على طريقتها في الأدب والحكمة والأطاريح الفلسفية المختلفة، كالتي شهدناها عند لاوتسو الصيني وكانط الألماني وصولاً إلى برترند راسل البريطاني وغيرهم.. وغيرهم (مثالاً لا حصراً بين مختلف الحقب ومختلف الأقوام أيضاً). ومؤخراً صار مفهوم السعادة أمراً سياسياً حضارياً تقرره الدول بهدف إسعاد شعوبها وثبات أمنها واستقرارها، فكرّست لهذا الغرض وزارات متكاملة بعينها، تماماً كما فعلت دولة الإمارات العربية المتحدة بتأسيسها أول وزارة عربية للسعادة في العام 2016. كما سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن أعلنت في العام 2011 عن أن يوم العشرين من مارس من كل عام، هو «يوم السعادة العالمي». هنا حوار حول السعادة ومفهومها وفلسفة أنساقها وتأويلاتها مع الباحثة اللبنانية د. رفيف رضا صيداوي المتخصّصة بعلم الاجتماع والنقد الروائي والثقافي بوجه عام. والدكتورة صيداوي نشرت مباحث عدة حول السعادة ونقد المنظّرين فيها. كما أصدرت كتباً نقدية أدبيّة وثقافية مهمة في طليعتها: «النظرة الروائية إلى الحرب اللبنانية» 2003، «جواري» 2001، دراسة حول العنف ضد المرأة في العائلة 2002. «الكاتبة وخطاب الذات: حوار مع روائيات عربيات» 2005. «الرواية العربية بين الواقع والتخييل» 2008. «العرب.. جدلية الحداثة والدولة والمجتمع» 2017. كما شاركت في إعداد وتحرير عدد من المؤلفات، منها كتاب «النسوية العربية: رؤية نقدية»، والذي صدر باسم «تجمع الباحثات اللبنانيات» عن مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت في العام 2013. ثم صدر بالإنجليزية لاحقاً عن دار توريس tauris البريطانية.
في ما يلي تفاصيل الحوار:

* لنتعرّف إلى منظورك للسعادة من بوّابة تخصّصك في عِلم الاجتماع، وكذلك من مَوقعك كناقدة في حقول الرواية والفكر والثقافة بوجه عامّ؟
** السعادة مفهوم نسبيّ، لا بل إنّها، وبحسب رأيي، مفهوم هيولي، وذلك على الرّغم من كلّ المقاربات الفلسفيّة والاجتماعيّة والنفسانيّة وغيرها التي حاولت تحديد مَعالِم السعادة والتنظير للطّرق التي تؤدّي إليها. وعِلم الاجتماع تحديداً، في فهمه للسعادة، يعتمد على معايير ومؤشّرات من شأنها أن تقيس السعادة بالاستناد إلى أبعادٍ أو مستوياتٍ مُستقاة من تداخُل المَعارِف والعلوم الفلسفيّة والتنمويّة والاقتصاديّة والتاريخيّة وغيرها؛ إذ إنّ رؤية اجتماعيّة خالِصة للسعادة، لا بدّ من أن تنطلق من القاعدة الدوركهايميّة، والتي تتمثّل في أنّ أكثر الأفعال فرديّة وخصوصيّة تكون الحقائق الاجتماعيّة هي المُحدِّد الأساسي لها. لكن يبقى معيار السعادة معياراً إشكاليّاً، نظراً لارتباطه الوثيق بطبيعة الفرد وببنيته النفسيّة وبتكوينه العاطفي ومدى قدرته على التكيّف والتفاعل مع بيئته وظروفه.

شاغلة الفلاسفة
* السعادة موضوع قديم شغل فلاسفة البشريّة وحُكماءها الكِبار: من أفلاطون إلى سقراط.. ثمّ بوذا نفسه وكذلك كونفوشيوس.. وفي الزمن المُعاصر أيضاً تحدَّثت عنه رموزٌ فلسفيّة وأدبيّة وفكريّة عدّة، أمثال: هنري ديفيد ثورو وجون ستيوارت ميل وبرترند راسل وتيار دو شاردان وغيرهم.. فما الدروس المُستفادَة التي أراد هؤلاء تثبيتها هنا من وجهة نظرك لمفهوم السعادة، وهل تعتبرين أنّ دروسهم عكست نفسها في سياسات بعض دول العالَم اليوم.. شرقاً وغرباً؟
** بطبيعة الحال. فكلّ النظريّات التي طرحها هؤلاء وسواهم حول الخير والحقّ والسلام والعدالة وغيرها من القيَم التي تشكِّل مجتمعةً «منظومة أخلاقيّة»، سواء أكانت مبنيّة أم غير مبنيّة على الدّين، هدفت على المدى البعيد إلى تحقيق سعادة الإنسان واندماجه في مجتمعه. الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز رأى سعادة الناس في خلاصهم من البؤس والخوف من حالتهم الطبيعيّة، فأسَّس بذلك نظرية العقد الاجتماعي؛ والفيلسوف الألماني كانط رأى في الإرادة الصالِحة، التي لا غنى عنها في السلوك الأخلاقي، شرطاً للشعور بالسعادة، فأسَّس بذلك لنظامٍ سياسي قائم على القانون والدستور المدني وعلى فلسفة حقوق الإنسان والمُواطِن أو المواطنة.
وفَهِم هيغل السعادة بعلاقتها بالحرّية، الحرّية بوصفها شكلاً خاصّاً من العلاقة بالذّات في إطار المُمارَسة الأخلاقيّة، فأسَّس بدَوره نظريّة الدولة الحديثة القائمة على الأخلاق..إلخ؛ فهؤلاء وغيرهم أسهموا في تأسيس الفلسفة السياسيّة الحديثة وما نتَج عنها من نظريّة سياسيّة في الدولة الحديثة القائمة على القانون والحقّ. في المقابل لا بدّ أن نلحظ مدى إلهام الفلسفتَين الكونفوشيوسيّة والتاويّة، كمجموعتَي قيَم ومبادئ أخلاقيّة وروحيّة، التجربةَ السياسيّة الصينيّة.
أمّا الكلام على ما آلت إليه هذه النظريّات في الواقع السياسي الاجتماعي، كالكلام على الرأسماليّة المشوَّهة وتطبيقاتها المتوحّشة على بلدان العالَم الثالث، أو الكلام على «مكيافيليّة» المُمارَسة السياسيّة الصينيّة التي لبست رداء الكونفوشيوسيّة والتاويّة، فهذا كلام له سياق آخر.

الإمارات وتجربتها الاستثنائية
* عربيّاً، كيف تقوّمين الخطوة الاستثنائيّة التي أقدمت عليها دولة الإمارات العربيّة المتّحدة بإنشاء أوّل وزارة للسعادة على المستوى العربي، بل الدولي، لتوائم كلّ خطط الدولة وبَرامجها وسياساتها لتحقيق سعادة المجتمع الإماراتي ورخائه الاجتماعي؟
** تقوم هذه التجربة على مقولة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي «رعاه الله»، في «أنّ الإيجابيّة هي النظّارات التي يضعها الإنسان فوق عينيه عندما يشاهد العالَم». وفي رأيي أنّ هذه الإيجابيّة هي في المبدأ، أقلّه على المستوى النفساني، مفتاح للسعادة. وممّا يُعزِّز هذه السعادة في رأيي أيضاً، هو استنادها إلى بَرامج عمليّة أو عملانيّة، من خلال «ميثاق وطني للسعادة والإيجابيّة» يُعزِّز ثقة الشعب بحكومته ودولته. وبالتالي، لا بدّ لتجربة كهذه أن يكون مصيرها النجاح، ليس بسبب طابعها «العملاني» فحسب، بل بسبب ما توفّره من أمان مادّي وروحي ووجودي للشعب. فالرخاء الاقتصادي وحده قد لا يشكِّل لوحده مصدراً للسعادة، سواء بالنسبة إلى الأفراد أم بالنسبة إلى الجماعات والشعوب، بل لا بدّ لهذا الرخاء أن يترافق مع تلك اللّحمة الروحيّة التي يتشارك من خلالها أفراد الشعب تاريخهم وتراثهم وأخلاقهم ويشاركون من خلالها بناء سعادتهم على إيقاع العصر. فكما أنّ السعادة لدى الإنسان هي خيار وقرار يُمكن للفرد أن يتّخذه، كذلك يُمكن للدول والحكومات أن تضع برامج لإسعاد شعوبها وتعزّز من ديناميّات هذه البرامج.

* إذاً، يبدو أنّ السعادة لم تعُد موضوعاً رمزيّاً وهميّاً معلَّقاً في الهواء، بل استحالت هكذا قراراً سياسيّاً دولتيّاً متعيّناً. فبعد عامَين من إنشاء أوّل وزارة للسعادة في العام 2016 شهدت دبي ولادة «التحالف العالَمي للسعادة»، وقبل ذلك، وتحديداً في العام 2011، كانت الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة قد اعتمدت قراراً باعتبار تاريخ الـ20 من مارس من كلّ عام يوماً عالميّاً للسعادة؟
** شهد العالَم في تاريخه الحديث إنجازات مهمّة وعظيمة كشفت الأيّام والسنوات التي خلت زيفها، وخصوصاً لجهة تطبيقاتها على العالَم الثالث. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ميثاق الأُمم المتّحدة (1945) الذي انبثق عنه مجلس الأمن الدولي، وشرعة حقوق الإنسان (1948)، وغيرها.. وغيرها من المؤسّسات والأجهزة والمواثيق والمعاهدات والاتّفاقيّات الدوليّة. كما شهدنا بدءاً من نهاية الحرب الباردة، أواخر تسعينيّات القرن الفائت، تسويقاً غير مسبوق لقيَم ليبراليّة مشوَّهة بقيادة الولايات المتّحدة، في محاولة لإرسائها بالقوّة (ديمقراطيّة، شفافيّة، تنمية بشريّة لكلّ البشر...إلخ) ليتبيَّن أنّ ذلك ليس إلّا نهجاً «حضاريّاً» للسيطرة على شعوب العالَم، فمَن ينجح في تشرّب هذه القيَم، يدخل التاريخ مُحقِّقاً السعادة، ومَن يفشل يلفظه التاريخ، ويستغرق في بؤسه الذي يكون هو وحده مسؤولاً عنه!
لذا فإنّ التحالف العالَمي للسعادة لن يكون قادراً على إحداث تغيير إيجابي إلّا إذا استند إلى حاجات الدول التي يتألّف منها هذا التحالف، وإلى أهداف هذه الدول النّابعة من رؤيتها الذاتيّة لسعادتها من دون إملاءات غربية أميركيّة أو شرقية روسيّة أو غيرها من إملاءات لقوى عظمى أخرى.

* يُقال إنّ البحث عن السعادة أحد مَصادر عدم السعادة.. بماذا تعلّقين؟
** لعلّني هنا ألجأ إلى نظريّة لاوتسو (LAO TZE)، عرّاب الفلسفة التّاويّة الصينيّة، القائلة بالتناغم الكلّي بين داخل الإنسان وخارجه، وصولاً للانسجام الكلّي، أي إلى «التّاو»، بوصفه المعبِّر عن التوازن والتكامل بين طاقتَي الوجود أو ثنائيّاته، وذلك عن طريق الين واليان (العلاقة بين السالِب والموجب)، حيث لا معنى للّيل من دون النهار، وللذكر من دون الأنثى، وللخير من دون الشرّ، وللجمال من دون القبح، وللسعادة من دون التعاسة.
ويخيّل إليّ أحياناً، ومن منظور آخر، أن السعادة هي خلاصة ثقافة استحقاق الحياة فينا كبشر، إنها أشبه بقصيدة النفس البشرية في بعدها الأقصى، والذي يعمل دوماً بموجب الطبيعة، التي يؤكد عليها مسار التاو نفسه (التاو بالعربية يعني الطريق أو الطريقة) وصولاً بالكائن البشري إلى الحقائق الكونيّة المطلقة. ومن هنا يعتبر كتاب التاو أشبه بقصائد شعرية فائقة الكثافة والإشارات الصوفية الآيلة لتنقية الروح وترقيتها بالسعادة.. فالسعادة هي الهدف أو هي بترجمة أخرى، آليات أسلوب العيش السامي بالتناغم مع الطبيعة السامية.

السعادة والاستشراق
* كتبتِ مرّة أنّ معايير السعادة لا تختلف من شخصٍ إلى آخر فحسب، بل من بيئة إلى أخرى أيضاً.. كيف تشرحين لنا فكرتك هنا، وبشيء من التفصيل المكثّف إن أمكن؟
** جاء كلامي هذا في سياق نقدي للاستطلاعات التي تقوم بها مؤسّسات دوليّة أو جامعيّة، حول السعادة، وللمؤشّرات التي يتمّ اعتمادها لترتيب البلدان أو المجموعات، بحسب مستوى سعادتها؛ إذ إنّ إشارة القائمين على مثل هذه الاستطلاعات إلى أنّ الثروة الاقتصاديّة لهذا البلد أو ذاك لا تعني بالضرورة سعادة مواطنيها، لم يحل دون ربطهم مؤشّر السعادة الذي اعتمدوه بالمال. فقد ذكر استطلاع معهد غالوب حول السعادة، جرى ما بين 3 إلى 6 مايو 2011، أنّ أغلب البالغين الأميركيّين يتمنّون أن يصبحوا أغنياء ويريدون ذلك، فيما يعتقد 10% منهم أنّ الأغنياء من دون شكّ هُم الأكثر سعادة على الإطلاق. وبيّن أيضاً، ثبات رأي الأميركيّين لجهة انتفاع الولايات المتّحدة بوجود طبقة من الأغنياء، إذ بلغت نسبة هؤلاء 60% وهي النسبة ذاتها التي أظهرتها نتائج الاستطلاع نفسه الذي قامت به غالوب في العام 1990؛ أي ثمّة ثبات في آراء الأميركيّين حول « قيمة وجود أغنياء يعيشون بينهم»، على الرّغم من مرور 21 عاماً كاملة على ذلك.
انطلاقاً من هذه النتائج، جاء تعليقي الذي ورد فيه أنّه إذا كان وجود طبقة أغنياء في أميركا يجعل الناس سعداء، وإذا كان هؤلاء يتمنّون أن يصبحوا أغنياء، لأنّ الأمر يُسعدهم، فإنّ الأمر عينه قد لا ينطبق على شعوب أخرى، ولاسيّما أنّ القيَم الأميركيّة مختلفة عن القيَم الأوروبيّة مثلاً أو الشرق أوسطيّة عموماً أو الآسيويّة أو الهنديّة أو العربيّة. أمّا الّذين لا يؤيّدونني بحجّة أنّ القيَم الأميركيّة باتت قيَماً مُعولَمة، وأنّ ذلك يحدّ من تأثير القيَم المحليّة، فأقول إنّ تمسّك شعوب عديدة بخصوصيّاتها الثقافيّة وقيَمها الذّاتيّة أو بعض عاداتها وتقاليدها، قد يكون باعثاً لدى أفرادها على السعادة؛ وربّما يكون الاندماج الموضوعي بالقيَم المُعولَمة في المقابل مصدر تعاسة لكثيرين.

* تحدثتِ أيضاً عن السعادة في زمن الاستشراق الاعتيادي الحديث، وزمن استشراق ما بعد الحداثة أيضاً، وكان إدوارد سعيد نبراسك في كلا الفضاءين.. فما الذي جعل موضوعة السعادة جزءاً من موضوع أو فضاء الاستشراق لديك هنا؟
** منذ زمن الاستشراق، في أواخر القرن الثامن عشر، أُنيطت مهمّة تحقيق السعادة (سعادتنا كعالَمٍ ثالث أو العالم الآخر) بالمُستشرِقين، انطلاقاً من نزعة «الوصاية»؛ إذ صنَّف الغربُ نفسَه، كما نعلَم جميعاً، في أعلى مَراتِب الحضارة، مانِحاً نفسه سلطة قيادة الشعوب الأخرى للارتقاء بها في السلّم الحضاري الذي قام هو برسْمه. ولم يكُن هذا التحضُّر، من وجهة نظر الآخر المُسيطِر، سوى السعادة بعينها، ما مهَّد إلى تزييف الوعي بتحويل الإيديولوجيّة الاستعماريّة إلى «هِبَة» طرح الغرب الاستعماري نفسه على أنّه يقدّمها لنا، أي إلى الشرق الخاضِع، المُحتاج إلى «وصيّ» أو «راشد» إلى حين بلوغه سنّ الرشد تحقيقاً للسعادة.
أمّا في مرحلة ما بعد الحداثة، وما رافقها من استقلالات وحركات تحرّر عربيّة، ووعي قومي لقراءة الذّات من خارج عيون الغرب الاستعماري، فكان لا بدّ، ومن أجل الحفاظ على النزعة الاستشراقيّة الاستعماريّة، من اللّجوء إلى التضليل المعرفي، ولاسيّما في الزمن «النيوليبرالي» الحالي؛ حيث حلَّ «مفهوم التنمية البشريّة»، أو «الإنسانيّة» بعد انتهاء الحرب الباردة، بوصفه الترياق أو الطريق إلى «السعادة»، وذلك عوضاً عن مفهوم «التحضّر» في زمن الاستشراق القديم.
أمّا عن إدوارد سعيد، ولئن كان الكلام عنه الآن، هو خارج سياق هذا الحوار، إلّا أنّني أرى أنّه لا بدّ أن يكون حاضراً لكونه من أهمّ المفكّرين العرب الذين منحوا مفهوم الاستشراق حقّه من الدراسة والبحث وبيّنوا كيفيّة ترجمته سلطة الغرب ونزعته الإمبرياليّة.

السعادة بين روايتين
* تقولين في مبحث لك موضوعه الأدب والسعادة: لأنّ الأدب هو الوجه الآخر الأصدق للحياة، حيث نبني فيه، كتّاباً وقرّاءً، عوالِمَنا وأحلامَنا الخاصّة، فضلاً عن سعادتنا غير المشروطة، رحنا نشهد روايات عالميّة توازي في نقدها وعود اللّيبراليّة بالسعادة، بقدر ما انتقدت روايات عالَميّة أخرى مطلع القرن الثامن عشر الوعود الاستعماريّة بالسعادة.. فقابلت رواية «في انتظار البرابرة» للروائي الجنوب إفريقي جون ماكسويل كوتزي الصادرة في ثمانينيّات القرن الفائت، برواية «روبنسون كروزو» للبريطاني دانيال ديفو الصادرة في الربع الأوّل من القرن الثامن عشر.. ماذا وراء هذه المُقارَنة هنا؟ وهل تودّين القول إنّ القرون الثلاثة الفائتة لم تغيّر المُعادَلة؟
** هذا ما قصدته بالتحديد. إنّها المُعادَلة التي لم تتغيّر، وإن تغيّر لاعبوها وسياقاتها. قرون ثلاثة مضت ونحن لم نزل نسمع أنين مَن يُفترَض أنّه قويّ وسعيد؛ نسمع صوت رغبته بهناء حقيقي غير قائِم على تدمير الآخر. القاضي المدني في رواية كوتزي، الذي تدور أحداث الرواية على لسانه، ومن وجهة نظره، هو مسؤول، بحكم وظيفته، عن خدمة الإمبراطوريّة. غير أنّ تعاسته تكمن في دَوره كشاهد زور على أنظمة تثبت نفسها ووجودها، بحجّة تمدّنها، وباسم العدالة والحقّ والسعادة، من خلال إرهاب الآخر الأضعف وتدمير حياته الهانئة (حيث إنّ الإمبراطورية المتخيّلة في الرواية، إمبراطورية الرجل الأبيض، إذا ما جاز التعبير، تستولي بالقوّة على أماكن قبائل البرابرة «البدائيّين»، حتّى أصبحت تلك القبائل تعيش على تخوم أراضٍ وواحات كانت يوماً مُلكاً لها). وكأنّ الأشياء لا تتغيّر، ألم كوتزي يُشبه ألَم دانيال ديفو الذي صدرت روايته في العام 1719، ويتناظَر معه لكونه نابعاً من الشعور بالإثم حيال تسلّط القوي على الضعيف.
في المقابل، نلاحِظ أنّ مُصادرة أحلام الناس وحرّياتهم باسم السعادة كانت أساس خطاب رواية «1984» لجورج أورويل الصادرة في العام 1949، فيما رقابة الناس من خلال أجهزة التواصل الاجتماعي (وفضيحة تجسّس فيسبوك على مُستخدِميه خير دليل)، باسم السعادة أيضاً تَرجَمت ما تخيّله الأدب واستشرفه، حيث تصوّر الأميركي إيرا لوفين في روايته «سعادةٌ لا تُطاق» الصادرة في العام 1970 خضوع الناس لرقابة جهاز كمبيوتر ضخم.. ودائماً باسم السعادة.

* عِلم النفس، وهو عِلم حديث كما تعرفين: عرَّف السعادة بأنّها نِتاج الشعور برضا الفرد عن حياته، وجودة هذه الحياة، ما يعني أنّ السعادة مفهوم يظلّ يتحدَّد بحالة الفرد وطبيعته، وأنّه هو في الخلاصة من يقرّر سعادته من تعاسته، على الرّغم من سائر محدّدات الظروف الاقتصادية التي يعيش فيها هذا الفرد وتؤثّر فيه.. سلباً أو إيجاباً.. ما تعليقك؟
** ما من شكّ أنّ للبنيّة النفسيّة للفرد دوراً أساسيّاً في التأثير على رؤيته لذاته وللآخر، ولما يشعر به من اندفاع أو إحباط أو سعادة أو تعاسة أو قلق...إلخ. لكنّ المحدِّدات الاجتماعيّة تؤثِّر في منسوب السعادة، وإن كانت تتداخل مع الأفعال الفرديّة. فقد تستدعي حالة شخص ينتفي لديه الشعور بالسعادة التوقّف عند ملفّه الشخصي والعائلي الخاصّ لفهم حالته، لكنّ محاولة فَهم أسباب ارتفاع أو انخفاض معدّلات السعادة عند مجموعة من الأفراد تقتضي مُقاربة سوسيولوجيّة، وذلك بالتدرّج من الأسباب النفسيّة والنفس- اجتماعيّة إلى المحدِّدات الاجتماعيّة العامّة.

* «لا سعادة البتّة في ظلّ مصيرٍ حتميّ يظلّ ينتظرنا اسمه: الموت».. هذا ما يقوله الروائي والشاعر الألماني الكبير هرمان هيسه ويضيف: «لا تعلِّل نفسكَ، أخي في البشريّة، بوَهم اسمه السعادة، وانتظر مصيركَ بألمٍ ظاهر أو دفين.. لا فرق، فأنت ابن العطالة والاستسلام في نهاية المَطاف.. ولا خيار لك في ذلك كلّه».. بماذا تعلقين؟
** الشعراء والفلاسفة وسائر المثقّفين والفنّانين، عبّروا بطُرق مختلفة، من خلال نصوصهم ونِتاجاتهم الإبداعيّة، وكلٌّ بحسب رؤيته للحياة، عن مواقف مُغايرة تجاه الموت. فمنهم، شأن ديكارت، مَن اعتبر أنّنا قادرون على قهر الموت، لا في النّفس وحدها، بل في الجسم أيضاً، انطلاقاً من قناعة بأنّ أنفسنا تبقى بعد أجسادنا، من دون أن يكون اعتقاده هذا قائماً على تعاليم الدّين. وآخرون، وبخاصّة المؤمنين، يرون في الموت خلاصاً، استناداً إلى حديث الرسول (ص) الذي يقول فيه: «أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التفكّر ذكر الموت، فمَن أثقله الموت وجد قبره روضة من رياض الجنّة»؛ ذلك أنّ ذكر الموت مرتبط برضى الخالق، بما هو مصدر سعادة للمؤمِن في حياته، من خلال توقه إلى هذا الرضى، وفي موته حيث يلقى ربّه. وفي تعبيد طريق الصلاح والخلاص تكمن السعادة وينتفي الخوف من الآخرة، انسجاماً مع ما قاله رسول الله من أنّ «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وهنا تحضرني مقولة ابن حزم الأندلسي في مقدّمة كتابه «الأخلاق والسير في مُداواة النفوس»: «الحقيقة إنّما هي العمل للآخرة فقط، لأنّ كلّ أمل ظفرتَ به فعقباه حزن، إمّا بذهابه عنك، وإمّا بذهابك عنه، ولا بدّ من أحد هذين الشيئَين إلّا العمل للّه عزّ وجلّ، فعقباه كلّ حال سرور في عاجلٍ وآجلٍ..».
ولنا أن نتخيّل سعادة المتصوّفين الذين لا يرون الحياة الحقيقيّة إلّا في الحضرة الإلهيّة. لذا أقول إنّ علاقتنا بالموت والسعادة تخضع للكثير من المعايير، لعلّ أبرزها رؤيتنا للذّات وللعالَم والوجود.

* في ظلّ الصورة القاتمة التي يقدّمها هيرمان هيسه حول السعادة وربطها بحتميّة الموت، ها هو أفلاطون من جانب آخر، وقبل ذلك بقرون، يقول «إنّ السعادة لا تكتمل إلّا بانتقال الإنسان إلى العالَم الآخر».. ما تعليقك؟
** هذا ما حاولت قوله وما عنيته في جوابي عن سؤالكَ السابق. أفلاطون، وبعيداً عن المفهوم الدّيني الذي نتمثّله اليوم، حَسَم بفلسفته المثاليّة حول الكون والوجود مسألة الخوف من الموت وما يرافقه من قلق. فالموت لديه يُحرِّر النَّفس من الجسد، لكون النَّفس تملك صفة الخلود بعد الموت، وما الجسم في الحالة هذه إلّا عائق للنَّفس عن إدراك الحقائق الثابِتة، أي المُثل، وبلوغ المعرفة الحقّة، لا يتمّ إلّا حين تتحرّر النَّفس من الجسد. من هنا احتفائيّته بالموت.

* هل أنتِ مع الرأي القائل إنّ خريطة السعادة التي لم يمضِ على اعتمادها في بعض دول العالَم سوى سنوات قليلة، هي مرشَّحة لمزيدٍ من البلْورة والتطوّر.. وستصبح، استطراداً، أكثر موضوعيّة ودقةً في المستقبل، وخصوصاً إذا ما أسهَم المختصّون بعِلم الاجتماع وعِلم النفس بإثراء موضوعها، بحثاً ومُعالَجة علميّة؟
** هذا أكيد، إذ إنّ العلوم كافّة مآلها التحوّل والتطوّر، فكيف بالأحرى إذا كانت مسألة تطبيق المَناهج العِلميّة الوضعيّة على الظاهرة الإنسانيّة لا تزال إشكاليّة قائمة، وذلك على الرّغم من كلّ التطوّر الذي شهدته العلوم الإنسانيّة حتّى اليوم؟ فماذا نقول عن موضوع حسّاس مثل موضوع السعادة الذي يُعدّ وثيق الصلة بالإنسان، أي بهذا الكائن الغامض والمتغيّر والمتعدّد الأبعاد؟.

سعادة الأولين
يرى عالم النفس الألماني هانز آيزنك الذي كان يهوى الرسومات الكهفيّة الغابرة، ويدرسها بتأمل سيكولوجي، أن من كان، من القوم الأولين، يرسم الغزلان والطيور والأيائل والأسماك المتوسطة والصغيرة، هو من الذين تسللت السعادة إلى نفوسهم وعرفوا حياة هانئة رخيّة، في مقابل أن من كان يرسم وحوشاً كاسرة من تماسيح ونمور سريعة وأسود كبيرة وثيران برية وأفراس نهر، هو من أصحاب النفوس القلقة وغير السعيدة في حياتها.

سعادة الشاعر
يقول الشاعر الفينيقي ملياغر في قصيدة له:
«لا سعادة لي إلا في جانبك/ أيتها الحبيبة الغائبة وراء البحار/ سأنتظر قدومك إلى أرض صور العظيمة/ وكلّي أمل بهذا القدوم/ حيث سأرفع بيدي إكليل الغار/ وأضعه على رأسك الجميل/ وستشعّ أنوار عينيك بالسعادة أكثر/ عندما تمشين واثقة بين الجموع/ صوب الجبل العالي المشتاق/ حيث ستطلّين من هناك/ عليّ وعلى الجموع/ ثم تهبطين إلى صدري أنا فقط/ لأحضنك طويلاً.. طويلاً/ وتفوح منّي إثر ذلك/ سعادة تغمر الجميع».

من محفوظات العالم الفنلندي يوسي آرو
ترجمة أحمد فرحات