عندما أسترجع شريط حياتي التي كنـت أظـن، كما يظن معظم الناس، أنها ستكون عادية، لابد لي أن أتوقـف عند ثـلاث محطات مهمة، لعلّ إحداها، وهي مقتل صغيري "علي" ذي التسعة أعوام، على أيدي إرهابيين، هي التي تركت آلاماً عميقة لم تذهب آثارهـا في حياتي إلى الآن. أما المحطـة الأولـى فهي هويتي وعائلتي الخاصـة. فقد ولـدت في الشرق الأوسـط وعشـت فترة طويلـة من حياتي فيه أيضـاً. وقـد أنعـم علي سبحانه وتعالى فتزوجت ورزقني بأربعة أولاد: محمد وآية وعلي واديان. كانت السعادة تشرق من عيونهم جميعاً عندما نلتقي، وعندما يذهبون إلى المدرسة أو يلعبون في الأوقات الأخرى داخل البيت أو خارجه. إلا أن هذه الحياة العاديـة والجميلـة معاً، لم يكتب لها أن تستمر طويلاً، فجاءت تلك الفترة السوداء في عام 2007 لتغيّر مجرى حياتي وتنقلني إلى محطة هي بمثابة الجحيم على كل الأصعدة، أي المحطة الثانية وكان عنوانها الأساس مقتل ابني علي في عملية إرهابية لا علاقة لنا بها. أذكر كيف فقدت الوعي يومها عندما تلقيت خبر مقتله، وقد خرجت أركض وأصرخ في الشارع بلا وعي ولا إحساس. غرقت في هوة من اليأس العميق، ولم أعد أشعر بجسدي ولا بمن حولي يومها، كأنني دخلت في بقعة سوداء من الحزن والأسى الأبديين. بعد تلك الحادثة، فرضْتُ على أولادي البقاء بشكل دائم في غرفة النوم وعدم الخروج من البيت مطلقاً، لأني كنت أخاف خوفاً لا حدود له من احتمال تعرضهم للأذى أو القتل هم أيضاً كما قُتل علي. تحوّلتُ- ويا للغرابة- إلى إرهابي من نوع آخر يفرض على ؤلئك الصغار الأبرياء إرادته القاضية بسجنهم داخل غرفة النوم، أو على الأقل داخل جدران البيت وأسواره. نصحني بعض الأهل والأصدقاء أن أتعالج لأتخلص من آثار الصدمة النفسية، فصرت أزور مركزاً طبياً يحاولون فيه دفع الحياة مجدداً في هذا اليباس الذي اجتاحني. وكان أخصائي علم النفس ينصحني بأن اكتب رسالة أعنونها "في وداع علي"، لعلها تساعدني على استيعاب مقتله والتوصل إلى نوع من الإغلاق العاطفي حول ما حدث له. أمدّني الله تعالى في المرحلة الثالثة بقوة الصبر والسكينة. فللمظلومين والصابرين ثواب وأجر عظيمان عند الله، لعل علياً يشارك فيهما، وقد صرت أراه في جنة الخلد هناك ينتظرني ويعرف أنني لا محالة آتية إليه. والقرآن الكريم شرع السلام للناس أجمعين وحرّم القتل وأمر بنَشر السلام والمحبة والطمأنينة بين سائر الورى. فالأمر الذي لا أستوعبه هو كيف يمكن أن يُقتل أبرياء، مثل ابني، باسم القرآن أو بحجة تدعي الصدور عنه أو عن مقاصده؟ كيف يقوم الإرهابيون بتشويه اسم الإسلام على هذا النحو، بجرائمهم غير الإنسانية؟ أفلم يأت في قوله تعالى: "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"؟ واليوم، فإنني أحاول أن أخرج من آلام الماضي وتجربة الفقد القاسية، وأنا أتوكأ على ابني محمد الذي يدرس في سبيل أن يصبح مهندسـاً لامعاً، وآية التي تطمح لأن تصبح طبيبة أسنان ناجحة، وأديان التي تذهب إلى مدرستها يومياً على أمل أن تحقق هي أيضاً طموحاتها الجامعية والمهنية. إني أعيش خارج بلدي الأم، لكنه يعيش في كل زاوية من حياتي المهشمة، فترابه يضم صغيري علياً وآمل أن أعود إليه وقد جمعت شتاتي وتجاوزت مرارة الثكـل وألم القتـل، أي بشاعة ما حـل بـي شخصياً علـى أيدي الإرهـاب. بشرى محسن ضحية عملية إرهابية فقدت خلالها ولدها الأصغر ينشر بترتيب مع خدمة «كومون جراوند»