أسئلة كثيرة يطرحها الواقع الراهن الذي انتهى إليه الفكر القومي العربي والتجربة القومية في العديد من الأقطار العربية، مما يستدعي البحث في تاريخية هذا الفكر ومضامينه وإشكالاته التي لم يزل يواجهها. وفي إطار الجدل الدائر حول هذه القضايا يأتي كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز “نقد الخطاب الديني” لتعميق الحوار وإغنائه. منذ البدء يكشف عنوان الكتاب عن الرؤية المنهجية التي ينطلق منها الدكتور عبد الإله بلقزيز في نقده للخطاب القومي، وذلك من خلال استخدام مصطلح الخطاب في العنوان بدلا عن مصطلح الفكر، الذي يعني منظومة المعارف القائمة على التماسك النظري والتأسيس المنهجي، في حين يمثل مفهوم الخطاب منظومة من الرسائل الأيديولوجية الموجهة لأداء أغراض اجتماعية، وتصنيف القول القومي ضمن منظومة الخطاب القومي الذي أنتجه نخبة من المثقفين العرب أصحاب الاتجاه القومي. من هنا ينطلق في نقده الموجه إلى هذا الخطاب بتجلياته ومستوياته المختلفة، معتبرا أن هذا الفكر يشكل سمة من السمات الملازمة للوعي الأيديولوجي، ومؤكدا أن معدل الزيف في الوعي الأيديولوجي يرتفع كلما كان أصحابه ممن ينتمون إلى ثقافة إيمانية، أو يشكل المعتقد الديني الحيز الأكبر منها، كما هو الحال في ثقافتنا الراهنة. شرعية الأيديولوجيا في مدخل الكتاب يناقش الباحث مسألة شرعية الأيديولوجيا حيث يرى أن الأيديولوجيا السياسية تمثل شكلا من أشكال الوعي الإنساني والتاريخي المشروع، إضافة إلى أن الأيديولوجيا هي أشدّ أيديولوجيا من السياسة نظرا لصلتها الوطيدة بالمصالح الاجتماعية، الأمر الذي يقوده إلى تعريف مفهوم الأيديولوجيا بأنه شكل من أشكال الوعي بالعالم وبالأشياء، فهي ليست معرفة كالعلم، لكنها تعتبر تمثلا للظواهر محكوما بقواعد غير قواعد الحقيقة أو الزيف، أو الصواب والخطأ، وهي لا يبحث فيها عن مقدار الحقيقة، وإنما عن مقدار ما تحمله من إمكان اجتماعي، وهي لا تستطيع ممارسة تأثيرها على الناس إلا عندما تتصف بالتماسك والقوة الإقناعية القادرتين على إحداث التأثير في الناس. ولما كانت الأيديولوجيا القومية تتمتع كغيرها من الأيدلوجيات الأخرى بشرعية تاريخية تتطلب التوقف عنده أمام حركة إنتاج الأفكار الكبرى داخل خطابها في العقود الأخيرة التي شهد هذا الخطاب فيها تراجعا في الدرس والنقاش، فإن آخر النصوص الكبرى التي تستحوذ على قيمة تنظيرية تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، ما يطرح سؤالاً مهماً على الباحث لتفسير معنى هذا التوقف بحالة الإشباع التي بلغها الخطاب القومي العربي والتي جعلته لا يحتاج إلى إضافة أو تطوير. وبدل الإجابة يسارع بلقزيز في التأكيد على مدى حاجة هذا الخطاب في الوقت الراهن إلى مقاربة المسائل الكثيرة التي باتت تطرح نفسها على هذا الخطاب لتكوين إجابات فكرية عن معضلاتها، ومن خلال هذا التأكيد يخلص إلى الإجابة بأن هذا التوقف في إنتاج الخطاب القومي يشكل دلالة على وجود أزمة تستبد بواقع الخطاب القومي وتستدعي البحث في جذورها. تاريخية الفكرة القومية قبل أن يناقش الباحث تاريخية فكرة القومية العربية يؤكد أن البحث في تاريخ للأمة العربية قبل قرن من الزمن ليس سوى محاولة لاختراع فكرة غير ممكنة الوجود، لأنها محاولة لتأكيد الأصالة التاريخية لهذه الفكرة، في حين أن فكرة الأصالة هي غير تاريخية. من هنا ينطلق النقاش عنده إلى تناول فكرة الأمة في معناها الحديث، حيث يرد على المقولات التي ترى أن الأمة العربية تشكلت في العهدين الأموي والعباسي، بأنه لا يكفي عهد حضاري كبير لتأسيس فكرة الأمة عليه، كما لا تكفي مواريث التاريخ واللغة والثقافة لافتراض وجود استمرارية تاريخية بين الأمس واليوم، وبناء فرضية عليها ذلك أن الاعتقاد بوجود تاريخي عريق للأمم ناجم عن خلط فادح بين معنى حديث ومعنى تقليدي، وبين المفهوم الحديث للدولة والمفهوم التقليدي لها والقائم على روابط ثقافية ودينية في المقام الأول. في ضوء هذا التحديد لا يجد الباحث أي جوامع أو مشتركات بين لحظاته التاريخية وأجياله الفكرية المختلفة منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ويضيف بأنه ليس هناك خطاب قومي متجانس، بل يوجد خطابات متعددة انشغلت بالبحث في علاقة العروبة بالإسلام التي عمل الأفغاني على إقامة نوع من التوافق والتلازم فيما بينهما، ثم أخذ عنه ذلك محمد رشيد رضا على خلاف ساطع الحصري الذي اعتبر رابطة العروبة غير رابطة الإسلام وكذلك الحال بالنسبة إلى قسطنطين زريق. على نفس المستوى يبحث في عدد من القضايا التي اهتم الفكر القومي بالبحث فيها، وفي مقدمتها العلاقة بين الأمة والدولة التي لم يكن الرأي فيها واحدا أيضا، الأمر الذي يقوده إلى التأكيد على أن الظرفية التاريخية والسياسية قد لعبت دورها في صوغ الخطاب القومي وفي تكييفه على هذا النحو أو ذاك. يجمل بلقزيز المراحل التاريخية التي مرّ بها الفكر القومي بأربع مراحل تبدأ منذ بداية القرن العشرين عندما كانت الفكرة القومية تواجه تحديا خارجيا رئيسيا ولذلك يربط بين هذا الفكر والعامل الخارجي في اللحظة الأولى التي تميزت بالتركيز الشديد على الهوية، بينما كانت اللحظة الثانية تركز على إشكالية الوحدة متخللة في أحيان فكرة الاستقلال الوطني. أما اللحظة الثالثة فقد تميزت بميلاد إشكالية الأمن القومي، وكان من علامتها الاهتمام العميق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكانت اللحظة الرابعة تتميز بالميل المتعاظم نحو الانشغال بالإشكالية الديمقراطية. مراحل الفكر القومي ويعمد الباحث إلى تحقيب هذا الفكر وتحولاته، فيناقش أولا الإشكالية الأولى المتمثلة في العلاقة بين العروبة والإسلام، إذ يرى أن التمييز بين العروبة والإسلام في الوعي العربي لم يظهر إلا في العقد الثاني من القرن العشرين. كما يحدد الأسباب التي دفعت في هذا الاتجاه، وهو يصنفها بين أسباب خارجية وأسباب داخلية، أو أسباب ثقافية واجتماعية وسياسية، خاصة أن فكرة القومية ازدهرت في أوربا في القرن التاسع عشر من أجل إقامة الدولة القومية الحديثة. إن إشكاليات الخطاب القومي عنده تتمثل في أربع إشكاليات هي أولا إشكالية مفهوم الهوية ومفهوم العروبة، وإشكالية الديمقراطية التي شكلت معضلة بالنسبة للحركات القومية أدت إلى الإخفاق، ودفعت بتلك الحركات إلى تبرير تلك الإخفاقات بردها إلى العامل الخارجي، الأمر الذي يجعله يؤكد أن هذه الهزيمة ما كان لها أن تنجح لولا العامل الداخلي المتمثل بالممارسة السياسة والاجتماعية لتلك الحركات القومية. ولعل الأبرز في هذا البحث هو نقده لأطروحات رموز الخطاب القومي، كما في نقده النظري لمفهوم الوحدة العربية ومفهوم العروبة، إلى جانب نقد مفهوم الأمة عند ساطع الحصري، وقوانين الوحدة العربية في أطروحة نديم البيطار التي يرد عليها في خاتمة الكتاب بأن العرب يمكن لهم يعيشوا من دون وحدة تجمعهم في كيان واحد ودون أن يفقدوا عروبتهم، إذ عاشوا مراحل عديدة في كيانات منفصلة إلا أن العروبة والانتماء العربي ظل حاضرا في وجدان الشعوب العربية، في حين تبقى العروبة والإسلام ماهيتان ثقافيتان عميقتان لا تتأثران بأحوال السياسة. لكن الإشكالية الأكبر تبقى ماثلة كما يراها في عدم تشبع الخطاب القومي بالقيم الديمقراطية، وإن بدأ الخطاب القومي منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي عند هشام جعيط ومحمد عابد الجابري وبرهان غليون وعزمي بشارة... يلح على المحتوى الديمقراطي للمشروع الوحدوي العربي. الكتاب : نقد الخطاب القومي المؤلف: الدكتور عبد الإله بلقزيز الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية