يرسم عمار علي حسن في روايته الثالثة “زهر الخريف”، الصادرة حديثا عن “الدار للنشر والتوزيع في القاهرة”، لوحة زاخرة بالتشكيل الجمالي، على مستوى اللغة والبناء، وحافلة بالمعاني الاجتماعية والقيم الإنسانية لبشر مجهدين يروضون الوقت في انتظار الغائب بعيدًا في الحرب، بعد أن كان ملء السمع والبصر في ذلك الزمن الفاصل بين هزيمة يونيو عام 1967 ونصر أكتوبر عام 1973. وتدور أحداث الرواية، التي تتخذ من شابين مصريين أحدهما مسلم والآخر مسيحي بطلين لها، في قرية عزلاء منسية ترقدة صامدة بين الزرع والنهر، بالقرب من مدينة المنيا وسط صعيد مصر، وتحارب بالرصاص والغناء اللصوص الطامعين في القوت والبهائم. في الليل، تختلط فرقعات البنادق الآلية مع صوت عذب وربابة شجية لشاعر يستدعي في نشوة مستعرة سيرة أبي زيد الهلالي ورفاقه العامرة بالبطولة والرجولة والنبل، فيشعل الحماس في النفوس المتألقة وسط الظلمة الشاملة. وهذه الروح الأصيلة والحزينة في آن، جعلت الرواية تحتفي بالموروث القصصي الشعبي إلى جانب العديد من ألوان الفلكلور مثل العديد والأمثال والتنجيم والحكمة الإنسانية الخالصة، التي اقتطفها المؤلف من مصادرها الأصلية ووظفها تباعا في نصه السردي المتدفق. بطلا الرواية هما عليّ عبد القادر إسماعيل وميخائيل ونيس سمعان، صديقان جمعهما حب المغامرة، وذكريات الطفولة، والخوف على ذويهما المتعبين، قادا أهاليهما في معارك حامية دفاعا عن قريتهما الوديعة المجهدة، ضد عصابات الليل. وحين وقفا على أبواب الشباب الغض، جاءتهما الفرصة للدفاع عن الوطن برمته، فذهبا سويا إلى حرب 73، عاد ميخائيل شهيدا، وضاع عليّ في الصحراء الواسعة لتبدأ رحلة البحث عنه، وتشتعل الأسئلة، ويظل أبطال الرواية حائرين في إيجاد إجابات تشفي الغليل وتريح النفوس التي يعتصرها الألم، ويلهثون ما وسعهم في سبيل فك هذا اللغز العصي، ويلهث معهم القارئ حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، التي حملت إجابة تنطوي على مفارقة، وتبرهن على أن “الدنيا” ضيقة رغم اتساعها، وأن ما نجري أحيانا وراءه دون فائدة قد يأتينا في لحظة عابرة من دون أدنى ترتيب. ومن الشخصيات اللافتة في الرواية وفاء حبيبة علي عبد القادر، التي لم يتزوجها سوى أسبوع واحد قبل تجنيده وذهابه إلى الحرب. كانت وفاء تطالع دوما من شرفتها الوسيعة انحناءات الشارع الذي ينتهي بجسر طويل مفتوح على المحطات التي يحل فيها الغرباء والعائدون، لعل حبيبها الغائب يهل مع أول إطلالة للنور، أو في سكرة الليل الراحل بلا هوادة. تغمض عينيها لتراه آتيا كالقدر، يشق الظلام بجسده الفارع وإلى جانبه صديقه الحميم، وشريكه في الكفاح ضد أولاد الليل، وحين تفتحهما لا تجد سوى الفراغ، فتنتظر في صبر جميل، والشيب يتسلل إلى رأسها كالسم الذي يقتل في هدوء وعلى مهل، ولا تجد أنيسة ومواسية سوى جورجيت حبيبة ميخائيل التي افتقدته إلى الأبد. ثم تأتي شخصية رفاعي الرجل البسيط الذي قادته قدماه حتى الصعيد الأوسط، ليبيع الخبز للفلاحين، ويروى لهم حكاية مدينة باسلة، بعد أن دمر الإسرائيليون بيته ومخبزه، ثم ترى الأحداث سخية رخية ليجد رفاعي نفسه في النهاية عائدا إلى مدينته وما حولها للبحث عن الشاب الضائع، الذي ربطته به علاقة إنسانية خاصة، تختلط بصدى صوت العيال الذين يزفونه كل صباح وهو يضحك ويوزع أرغفته، ويغني معهم: “يا رفاعي يا بتاع العيش .. خدنا معاك ودينا الجيش”. وتنطلق هذه الرواية من تجربة اجتماعية وإنسانية خالصة لتضيف إليه من خيال مؤلفها، الذي حاول أن يضع الأحداث في سياقها التاريخي الصحيح من خلال ربط تفاعلات شخصيات الرواية بما كان يجري وقتها في الواقع المعيش، وهو ما برهن في خاتمة المطاف على روح التسامح والتعاون التي كانت تسود بين المسلمين والمسيحيين في مصر، قبل الدخول في نفق الاحتقانات الطائفية التي بدأت في النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم. يذكر أن هذه هي الرواية الثالثة لمؤلفها عمار علي حسن، الذي سبق أن أصدر روايتين هما “حكاية شمردل” و”جدران المدى” إلى جانب مجموعتين قصصيتين هما “عرب العطيات” و”أحلام منسية”. كما أصدر المؤلف، الذي يحمل الدكتوراه في العلوم السياسية، العديد من الكتب والدراسات في مقدمتها “النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية” و”الفريضة الواجبة: الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين” و”التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر”.