التنوع والتبدل والتجريب المستمر هي الكلمة المفتاحية التي تأخذ المتلقي أو الناقد إلى عوالم محمد عبد اللطيف كانو، الفنان التشكيلي الإماراتي ورجل الأعمال المعروف بدعمه للثقافة والفنون. وفي سيرة الرجل الكثير من الدلالات التي يمكن قراءتها بين السطور. لا أعني السيرة التي تكتفي بتسجيل المعارض والمشروعات الفنية التي أقامها الفنان أو الأحداث التي شارك فيها كما درجت العادة، بل أعني السيرة الإنسانية والحياتية والمؤثرات الكبرى التي صاغت وجه الرجل ومنحته ما هو عليه من حب للثقافة وإيمان بدورهما في تحقيق التواصل بين البشر وجعل الحياة أبهى … وأكثر جمالاً... في هذا الحوار، أخذنا الفنان محمد عبد اللطيف كانو إلى دروبه الأولى، إلى الزمن الذي كان يركض فيه على مدارج الصبا، قلبه عامر بالأمل، وروحه وثابة إلى تحقيق الأماني والأحلام، الأحلام التي بدأت بحكاية صغيرة مع فتى يحب الرسم، ثم تعمقت بالدراسة والبحث والمعرفة لتصنع تلك العوالم المتنوعة والخبرات الواسعة التي بها تكبر الروح وتتحرر من ربقة المادي إلى عوالم الروح الثرة، خاصة حين يصبح المال سبباً للمعرفة والجمال. وطوفنا معه في مرآة الماضي والحاضر التي انعكست عليها جدلياته الفنية، رؤاه، مشروعاته، والعباءات السوداء والبالون الأحمر في استعاريته الباذخة للسخرية التي ينطوي عليها فيلم ليني ريفنستاهل “انتصار الإرادة”، الفيلم الدعائي للحزب النازي والمنجز في عام 1934 في نورمبرغ، لجهة تهميش الشخصية والجنس، وتحيته “الحمراء” للمخرج “ستيفن سبيلبرغ”، الذي صور فتاة صغيرة ذات رداء أحمر في فيلمه بالأسود والأبيض، لكي يمنح الأمل مساحته المقدسة. في رحلتنا معه، توقفنا قليلاً عند بعض الأفكار الغريبة، ربما السوريالية التي يستحقها عالم سوريالي، مثل عمله الموسوم بـ “السيجار الرشاش” الذي يجمع بمرح لا يخلو من خبث فني جميل بين عالمي السيجار والأسلحة، إذ كلاهما (السلاح أم 2 الذي استخدم ضمن ترسانة القوات المسلحة الأميركية منذ عام 1933، والسيجار “robust” المنتفخ والقصير الطول، والذي استهدف توفير تجربة مريحة للمدخنين)، لم يتغير وحافظ على ثباته رغم التطور الكبير في الصناعتين. لكننا لم نفقد المعنى في كل أعماله، فثمة فكرة يحرص على وجودها في كل عمل يقدمه، وثمة رموز تغادر دلالاتها ونسقها المفاهيمي إلى دلالات وأنساق جديدة، ففي عمله الموسوم بـ “استهلاك” كما في “شجرة المستهلك” كما في “الحقائب الفاخرة وملصقات السفر” كما في “إشارة الوقوف بحناء يد فاطمة” كما في “مسجد الشيخ زايد” وفي أعمال البورتريه وغيرها مما تضمنه معرضه الفني “فن وفن”، ثمة أيقونات ورموز وتجارب ومشروعات فنية تمثل، حسب قوله، تتويجاً لفلسفتي الفنية حتى الآن، وإن كنتُ قد استعرت بعض التقنيات المنهجية من وارهول ولختنشتاين مع روحية المرح من فن جيف كونز، فإنني بذلك أردت أن أسلط الضوء على منجز الفن المعاصر في العالم العربي، وأن أحفز الجمهور على الاطلاع والاستمتاع معاً. ? تتميز رحلتك الفنية بالتنوع، سواء لجهة التقنيات والأساليب أو لجهة الأفكار والمضامين، وبخلاف الفنانين الذين يحرصون على التخصص في تقنية معينة لكي ينجزوا شخصيتهم الفنية أو بصمتهم الشخصية تسعى أنت كل مرة إلى طرح جديد، لماذا؟ وهل لهذا علاقة بتكوينك الشخصي؟ ? التنوع سر الحياة الذي يمنحها الجمال، والسر الذي منه يتزود الفنان بالحياة والتجدد. في الفن كما في الحياة دأبت على البحث عن كل جديد. أنا دائم التغيير على كل حال حتى على صعيد حياتي الشخصية. أما عن التنوع الفني، فسببه الرغبة في المعرفة والتجريب مع المحافظة على وجود الفكرة في العمل الفني. بالنسبة إلي لا بد أن يكون في عملي فكرة، تتنوع الأساليب التي أنفذ بها أفكاري، تتبدل، تتطور، تجاري الحداثة الفنية، لكن الفكرة تظل موجودة في العمل. أعتقد أن العمل الفني يجب أن يحمل فكرة، دلالة، مفهوماً، رسالة أو خطاباً يتوجه به إلى المتلقي. الفكرة تمنح العمل الفني عمقه وأهميته. ربما أحاول قول الفكرة في أكثر من شكل. على كل حال، الإلهام يأتي في أي لحظة حاملاً فكرة اللوحة أو العمل الفني، لكن التدبر والنظر وإعادة التفكير هي التي تقرر شكل التنفيذ أو التقنية التي تصلح لتجسيد هذه الفكرة أكثر من غيرها. أما عن الشخصية الفنية أو البصمة الخاصة التي هي حلم كل مبدع، فهذه يمكن تحقيقها عبر الفكرة والفلسفة التي يتبناها الفنان وليس بالأسلوب وحده فقط، رغم أن الأسلوب يحقق ذلك بالطبع، بل ويصبح علامة على صاحبه، يعرف به. اقتران المال والفن ? في سياق التنوع أيضاً، ثمة ما يميز تجربتك عن تجارب الفنانين الآخرين، وهي نجاحك في عقد قران ناجح بين المال والفن، ما هي المغريات التي دفعتك إلى ذلك، خاصة أن بين المال والثقافة خصومة قديمة؟ ? لنعد قليلاً إلى التاريخ... في عصر الرينيسانس في أوروبا ركز بعض الأثرياء ورجال المال والأعمال على دعم الثقافة والفنون، فأسسوا مشروعات فنية وثقافية ومتاحف ومكتبات هي التي خلدت ذكرهم. لقد ذهبوا، لكن آثارهم الفنية والثقافية ظلت حاضرة في الذاكرة الجمعية للإنسانية أو حتى لمواطنيهم. إنها الحكمة القديمة الجديدة التي تقول إن المال زائل والفكر دائم. وثمة مثال آخر يأتي من الولايات المتحدة الأميركية، فقد سعى الرأسماليون الذين يملكون ثروات هائلة إلى استثمارها في المجال الثقافي، فاشتروا المتاحف الفنية من أوروبا ونقلوها إلى بلادهم ليثقفوا شعوبهم ويكرسوها دولة ذات حضارة وثقافة. ها هنا يتجلى الدور المهم والنبيل للمال. ما الذي يمكن أن يفعله المليونير أو الملياردير بمليارات الدولارات؟ حتماً لا بد من استثمارها في مجال ثقافي أو اجتماعي ولولا هذا الاستثمار لربما اندثر الكثير من الفن وتلك الأوابد والمتاحف التي تستقطب البشر من كل مكان. نحن في أبوظبي لدينا رؤية ثقافية متقدمة على صعيد الثقافة والفنون، والدولة تستثمر في البنية التحتية للفنون عبر إنشاء المتاحف والاهتمام بكل مناشط الحياة الثقافية والفنية، وعلينا بصفتنا رجال أعمال واجب وطني يتمثل في رعاية الثقافة والفنون والاستثمار في الحقل الثقافي. هذا جزء من الدور الذي ينبغي أن يقوم به المال من دون النظر إلى المكاسب المادية، فالمكاسب المعنوية والثقافية المتحققة تستحق. كما أن هذا جزء من دورنا المجتمعي الذي يجب علينا النهوض به ومن خلاله الإسهام في وضع حضارتنا العربية الإسلامية ضمن سلسلة ثقافات العالم. لدينا أساس متين وقوي وعلينا أن ننطلق منه ونبني عليه، ونطرحه بثقة وإيمان بأن حضارتنا تمتلك من شروط القوة والعمق ما يؤهلها لتكون في مصاف الحضارات الأخرى وتتعامل معها بندية واحترام. المال مهم لأنه من دون المال لا يمكن أن نبني المتحف أو نقيم المعرض أو ننشئ المكتبة وغير ذلك مما يرتقي بالثقافة والفنون وعلاقة الإنسان بهما. أما عن العلاقة بين الفن والمال وأيهما يتغلب على الآخر في التجربة الثقافية، فالأمر يحتاج إلى تفصيل. بداية لا بد من القول إن المال ضروري للإنجاز الفني، خاصة في مجالات الرسم والمسرح والسينما التي تحتاج إلى المال لإنتاجها، بيد أن المال قد يفسد الفنان أو يغيره من حال إلى حال، ويبقى الرهان على مصداقية المبدع نفسه ومدى قدرته على التضحية بماله أو تسخيره في سبيل الفن إذا كان من الأغنياء.. لكن بشكل عام أنا راض عن تجربتي ولم أشعر في أي لحظة بالأسف أو الندم لأنني أنفق مالي في مجالات ثقافية. بل على العكس تماماً، لا أشعر بالسعادة إلا عندما تثمر بعض الجهود المتواضعة في إنجاح عمل إبداعي، أو أرى عملاً فنياً مبدعاً لفنان أو فنانة موهوبة يشق طريقه مثل زهرة جميلة في حديقة الإبداع الفني. إن الغبطة التي يمنحني الفن إياها أجمل متعة يمكن أن يحققها المال. مغامرة باتجاه الجمهور ? ما الذي يعنيه لك معرضك الأخير “فن وفن” ضمن تجربتك الفنية؟ ? “فن وفن” أكثر من مجرد معرض لأعمالي الفنية الحديثة. يمكنني القول إنه مغامرة باتجاه الجمهور لخلق فضاءات جديدة في العلاقة معه، وهذه بالمناسبة غاية أساسية من غاياتي الفنية، وأعتقد أنها مطلب وغاية كل فنان. في أعمالي أحاول إنجاز علاقتي الخاصة مع الجمهور متكئاً على روح المرح والدعابة التي أحاول بثها في العمل الفني. وكلمة السر في مثل هذا التوجه هي قناعتي بأن المرح من أفضل السبل التي بها يتمكن الفنان من الدخول إلى متلقيه ومحاورته إنسانياً وثقافياً ومن ثم تحفيز مخيلته لقراءة العمل وفق رؤى بصرية وفكرية مختلفة ومتنوعة وهذا ما يحقق الغاية الأسمى لي وهي إيصال أفكاري إلى الجمهور. ? ربما يعتقد المرء من خلال حديثك هذا أنك تنظر إلى الجمهور ككتلة صماء لا فروق بينها، في حين تتوجه أعمالك إلى الجمهور العربي والأجنبي، ماذا تقول؟ ? لا.. بالطبع لست أرمي إلى هكذا فكرة. لكنني في عملي أخاطب المشترك الإنساني لدى عامة الناس، في أي مكان وزمان، وفي مختلف الثقافات والحضارات. كلنا بشر، نحزن ونفرح ونغضب ونشترك في العواطف والمشاعر وربما ننجز من خلالها رؤانا الفكرية أو انطباعاتنا الثقافية حول ما يحيط بنا. أعتقد شخصياً أن الجمهور، وهو هنا بمعنى الإنسان بشكل عام، يفضل أن يتذكر التجارب المفرحة لا المحزنة، لكنني على الرغم من ذلك، أدعوهم أن لا يتوقفوا عند المعنى الواضح المباشر، بل إن يغوصوا معي في المفاهيم التي أستمد منها إلهامي في الأعمال الفنية التي أنجزها. هذا في المستوى العام، لكن من حيث التفاصيل، بالطبع ثمة اختلافات وتفارقات في الجمهور الذي يتكون من طيف واسع من الاهتمامات والرغبات والرؤى الفكرية التي لا يمكن التعامل معها بوصفها كتلة واحدة. وليس هناك ما أكثر دلالة على مثل هذه الفروقات من اختلاف التأويل والقراءات التي يقدمها كل شخص للعمل الفني. ثمة مثال واضح على ما أذهب إليه في معظم التجارب الفنية التي اشتغلت عليها، منها على سبيل المثال لا الحصر، مشروع “سماوات العاصمة” وهي صور فوتوغرافية خاصة بالعاصمة الإماراتية أبوظبي ضمنتُ كلّ صورة منها عنصراً طائراً، اختلفت حوله التفسيرات ونظر كل شخص إليه وفق خلفيته الفكرية والثقافية بل وعلاقته بالمدينة نفسها. في الواقع، تحاكي مجموعة الصور “سماوات العاصمة” الأعمال المبهرة للفنان الفرنسي سيدريك ديلسو، والتي تصوّر الشخصيات البشرية والكائنات والسفن الفضائية المستوحاة من البرنامج الشهير “حرب النجوم”، لكن قراءات الجمهور الذي شاهدها لم تتأطر بفكرة الفنان ديلسو وتنوعت بحسب اهتمامات المشاهدين للأعمال الفنية. عمل على عمل ? في المعرض تجربة محيرة، وهي تلك الأعمال التي استلهمتها من أعمال فنانين آخرين، والتي بدت كنوع من المحاكاة غير المبررة لتلك الأعمال، ما الذي تحاول قوله من خلال هذه الممارسة الفنية؟ ? في هذه التجربة كنت مدفوعاً برغبة التجريب إلى مداها الأقصى. متسائلاً وباحثاً عن سبيل ما لتحقيق التواصل مع الآخر.. للنظر إليه في صورته الثقافية وتحقيق فهم أفضل للعلاقة بيني وبينه. أتحدث هنا باعتباري فناناً من العالم العربي ومن هذه المنطقة أعني الخليج ومن دولة الإمارات العربية المتحدة يعيش في القرن العشرين ويحمل هموم البشرية ومأزقها الإنساني والحضاري، يرغب في أن يقدم ثقافته وحضارته وما لديه من موروث إلى الآخر/ الغربي، في سعي لتقديم الصورة الحقيقية التي تشوهها أحياناً مقولات نمطية تسم العربي بالإرهاب أو التخلف أو الجهل. هذه الأعمال تسعى إلى خلق جسر، صغير وبسيط، لتجسير الهوة بيننا والآخر، أو إن شئت بين الثقافتين العربية والغربية. وهي تعمل في المساحة المشتركة التي سبق الحديث عنها، أعني المساحة الفنية والثقافية التي أرى أنها واحدة من أهم سبل التواصل بين البشر. ربما لا يفهم الأوروبي الذي لا يقرأ العربية دلالة المعنى في لوحة خطية، لكنه سينظر إلى الحرف العربي كمعطى بصري وجمالي يتذوقه فنياً وقد يعجب به أو يندفع للسؤال عما يعنيه. ها هنا، مساحة مشتركة يلتقي فيها العربي والغربي أمام العمل، وهي في تقديري قابلة للتطوير والإغناء وتستحق العمل عليها. بالنسبة لي أرى أن لا شيء يمنع من أن يقوم فنان بإنجاز عمل فني جديد على عمل فني قديم لفنان آخر. أتمنى أن يأخذ أحدهم عملاً من أعمالي وينتج عملاً جديداً. الإبداع مفتوح ولا يتوقف أبداً، كما أن كل عمل فني يحمل في أحشائه بذوراً لأعمال فنية أخرى. لا أرى أي خطأ أو تجاوز أو خسارة في مثل هذه الممارسة الفنية بل العكس تماماً، يبدو لي أنها تضيف إلى الإبداع بشكل عام وتقربنا أكثر من بعضنا بشكل لا يخلو من المرح. البناء على أعمال الآخرين بالنسبة لي شيء جميل ومثير. سألني بعضهم: كيف تتعدى على أعمال الفنانين الآخرين؟ وأجبت: أنا لا أتعدى على أعمالهم بقدر ما أسعى إلى التقارب معهم وطرح احتمالات فنية وفكرية على أعمالهم. ? التجربة إذن لم تكن مجرد محاكاة لأعمال فنية لفنانين آخرين، ما الذي يبررها؟ ? إطلاقاً، بل كانت نوعاً من الإيغال في سؤال التجريب الفني والانفتاح على الدلالات الخفية والكامنة وراء فكرة الفن ذاتها، وفكرة التواصل عبر الفن التي تفتح لنا آفاقاً ثقافية هائلة. كما أنني في أعمالي كنت أبتعد إلى هذه الدرجة أو تلك عن الأعمال السابقة سابغاً عليها بعض مفردات البيئة المحلية الإماراتية أو العربية الإسلامية التي تكتسب في العمل بعداً إنسانياً عالمياً. في استخدامي للخطوط العريضة مثلاً كنت أسعى للانسجام والامتلاء الفني متأثراً بأعمال الفنان الراحل كيث هارينغ. ويمكن ملاحظة أن عملي الفني “الله” يستمد روحيته كتفاعل مباشر مع جماليات العمل المفاهيمي الرائد للفنان الأرجنتيني المولد لوسيو فونتانا (خمسينات القرن الماضي). لكن العمل الأبرز في هذه المجموعة ربما يكون “موجة دبي العظيمة” المستوحى من عمل الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي صاحب العمل الفني الشهير “الموجة الكبيرة في كاناغاوا” التي تصور موجة عارمة تجتاح مراكب الصيادين في جزيرة كاناغاوا اليابانية. أعتقد أن البحر الغاضب هو عنصر محوري في اللوحة، وأن الموجة العاتية في بحر اليابان هي الموجة نفسها في الخليج العربي قبالة شاطئ دبي، ولهذا استبدلت جبل فوجي في الخلفية بالمبنى العملاق “برج العرب”، كما استبدلت مراكب الصيادين اليابانية التقليدية بمراكب صيد اللؤلؤ في الخليج.. وبهذا منحت اللوحة معطى جديداً يأخذ المتلقي إلى حياة الإماراتيين في الماضي وإنجازهم المعاصر. من ناحية عقدت مزاوجة بين شكلين من أشكال الحياة الإماراتية (التراث والمعاصرة) هادفاً أن أحث المشاهد على السؤال عن دلالات هذا المزج أولاً ودلالات التغيير الذي أحدثته في اللوحة الأصلية ثانياً، وآفاق الحوار الفني والإنساني المقترح بيني والفنان ثالثاً.. وهي كلها أسئلة تجعل هذه الأعمال مشروعة وقابلة للإضافة باستمرار. سؤال الهوية ? إذا كانت فكرة الاشتغال على أعمال فنية سابقة تتأسس على رغبة الاكتشاف والتجريب والتواصل مع الآخر، فما هي مسوغات المشروع الخاص برسومات المشاهير وهم يرتدون الزي العربي والذي لفت انتباه الجمهور والإعلام بشكل خاص؟ ? الهوية، هذه هي الكلمة المفتاحية التي تفسر ذهابي إلى هذا اللون من العمل الفني. لطالما شغلت بمفهوم الهوية وعلاقته بالصراع أو التقارب بين البشر. ثمة هويات صغيرة وضيقة ومدعاة للتعصب وثمة هويات منفتحة تقبل الآخر برحابة. ولقد شكل التسامح العنصر الأبرز في صلب عقيدتنا الإسلامية وموروثنا الثقافي طوال قرون عدة، وهذا في تقديري ما ينبغي إبرازه في الراهن لكي نصنع حضورنا في عصر العولمة وما تحمله من تحديات، لا سيما أن العمل البصري يمتلك قدرة كبيرة على التأثير في المتلقي، كما أن إيقاع العصر السريع وطريقة الحياة الغربية لا تتيح للآخرين الكثير من الوقت للقراءة والتأمل والبحث في ما لدينا من معرفة، ما يفرض علينا أن نقدمها لهم بأفضل الطرق وأيسرها. وآمل أن نتيقن جميعاً من أن مأزق الإنسانية المعاصرة هو مشكلة مشتركة لجميع بني البشر، وأن ما يجمعنا هو أكثر ما يفرقنا بالتأكيد. هذه المعاني بدأت تتبدى أثناء عملي على بورتريه “الزعيم ماو” للفنان أندي وارهول، وهو أساس عملي “أرى ماو” الذي يظهر الوجه الأصلي للزعيم ماو، ولكن مع غطاء الرأس العربي الخليجي الخاص بالرجال، ومن هذا العمل تطورت فكرة إنجاز مجموعة من البورتريهات صغيرة الحجم (بحجم البطاقات البريدية)، لمجموعة من الشخصيات التاريخية والمعاصرة، طارحة سؤال الهوية، والتحديات التي تواجهها. ? وهل تتوقع أن يقرأوا تجربتك على النحو الذي تتحدث عنه؟ ? أتمنى ذلك، أتمنى أن يكون هناك رد فعل إيجابي بحيث يتحقق المغزى من وراء الأعمال: أن نقترب أكثر من بعضنا البعض. في النهاية نحن كلنا بشر والمظاهر الشكلية الخاصة باللباس أو طريقة الحياة لا ينبغي أن تفرقنا. الإنسان هو الإنسان سواء ارتدى الغترة والعقال أو القبعة وإنسانيتنا لا تحددها أشكالنا ولا ملابسنا. ما أريد قوله هو أنني بدأت في مكان وانتهيت في مكان آخر بعيد وجديد تماماً في هذه التجربة. بدأت باحثاً عن معنى يمكنني قوله من خلال محاكاة عمل فني شهير للفنان آندي وارهول وانتهيت إلى دوائر متسعة ينداح فيها السؤال واحداً تلو الآخر.. وكأن كل عمل يخلق أسئلته وتحدياته والطرق التي يستجيب بها الجمهور لفكرته. ? هل جاء اهتمامك بفن الخط العربي أو “الحروفية” في السياق ذاته؟ ? ها هنا يتبدى الدور المهم للخط العربي “الكاليغرافي” بوصفه واحداً من المداميك الكبرى للفن العربي الإسلامي. بالنسبة إليّ يمثل الخط العربي جزءاً مهماً ورئيسياً من مشهد الفن التشكيلي وتطوره، لأن الحروفية تعتبر بمثابة جسر بين تقاليدنا الثقافية بشقيها الجمالي الفني والمكتوب الحروفي، رغم أن تاريخنا الثقافي يتشكل أساساً من الموروث الشفاهي لشعب ارتبط تاريخياً بظروف حياته في بيئة صحراوية قاسية، لم تكن لتؤدي إلى ازدهار الحرف المكتوب. لكن بعد الإسلام، وبفضل كتابة القرآن، غادرت الذاكرة موقعها الشفهي لتدخل في مساحة المكتوب، ومع تدوين الحديث واتساع رقعة الإسلام اتسعت حمولات اللغة العربية ووظيفتها الدلالية التي يستدعيها أي عمل فني حروفي معاصر. في عملي “ما شاء الله” تمنيت أن أستطيع تجسيد تلك الدهشة الفاغمة أمام الجمال التي تنطوي عليها العبارة فنياً، وأن أضمّن كلّ ذلك في شكل مربّع، ما جعلني أبني كلّ حرف بذاته، واستلزمني ذلك أن أنجز أكثر من نسخة من هذا العمل، إلى أن شعرت بالرضا الفني عن العمل كما في شكله الحالي، مع إضافة الكود “الرمز” الموجود عليه، بخاصية تعيين التاريخ عمودياً وأفقياً، وتوسعة الطاقة الاستيعابية للوحدة المكانية، كما استخدمت تقنية طباعية خاصة “Lenticular”، بما يسمح بإبراز صورتين معاً في العمل الواحد، ومن زوايا متعددة، كما أن الحجم الكبير بتظليل الأشكال بما يدفع الرائي في الصورة لأن يرى الصور متداخلة، فلا يستطيع النظر إلى واحدة بمعزل عن الأخرى. وكذلك في “يا الله” الذي يجمع مفردات بسيطة الشكل عميقة المضمون، في محاولة استكشاف للطبقات والأبعاد والدلالات، هنا، حاولت أن أستكشف الدلالة العميقة لحرف النداء “يا” في تأكيد المغزى التجريدي البصري للكلمة الأصغر حجماً “الله”. أما العمل الفني “نور على نور” فيأتي ضمن مجموعة أعمال ركزت فيها على مفهوم “الإسقاط الضوئي”، بحيث يكون إيماء الضوء مصدراً لجذب تركيز الرائي في العمل الفني، وفي هذا العمل، وضعت الكلمات الثلاث قريبة من بعضها قدر الإمكان، وامتنعت عن استخدام الطاقة الكاملة للّون، وتوفير الطاقة اللونية الكامنة في الأبيض والتي تمثل اللون الأنسب إلى جانب الأسود. وهكذا في جميع أعمالي ثمة خطاب بصري وفكري يأخذني إلى عوالم جديدة، بها تكبر الروح وتتسع.