أريد هنا أن أطرح رؤيتي الخاصة لما أسميه بالسيرة الذاتية الفلسفية، وذلك من خلال النقاط الأساسية التالية:
خصائص السرد في السيرة الذاتية الفلسفية:
ينبغي أن نميز بدايةً بين فن رواية السيرة الذاتية الفلسفية، وبين أشكال السرد الأخرى، مثل: البيوجرافي biography أو السير التاريخية historiography والمذكرات memoirs واليوميات diaries، إلخ؟ وبوجه عام يمكننا القول بأن فن السيرة الذاتية تتميز عن غيرها من هذه الأشكال، بما يلي:

- فن السيرة الذاتية الفلسفية فيه نوع من الحكي الروائي الذي يستعين بجماليات الأسلوب، وبالقدرة على التخييل في تصوير عالم زماني مكاني. ومع ذلك، فإن السيرة الذاتية هنا تختلف عن الرواية في أن العالم الذي تصوره هو عالم الذات، أو هو العالم كما تراه الذات الساردة، بينما هناك في الرواية عوالم ورؤى مختلفة للذوات التي ينسجها المؤلف في إطار عمله.
- يختلف فن السيرة الذاتية عن غيره من أشكال السرد المتعلقة بحياة المرء: فهذه الأشكال يمكن أن تكون مجرد سرد لأحداث تاريخية تتعلق بسيرة المرء، وهي- على أهميتها- قد تظل مجرد أحداث دالة على حقبة تاريخية مهمة تتعلق بسيرة المجتمع أو بسيرة المرء الذي يحيا فيه. أحداث يمكن سردها وتلخيصها في صورة مجردة.
- ليس البعد الذاتي هو ما ينبغي التعويل عليه- كما يفعل الكثيرون- عند الحديث عن السيرة الذاتية، لأن كل أنواع السرد- بما في ذلك الخطابات- تكون مرتبطة بصورة أو بأخرى بالذات. ولا شك أن الذات لها حضور خاص في السيرة الذاتية (وهو ما سوف نتناوله فيما بعد)، إلا أنه ليس العنصر الحاسم في تمييزها. فالعنصر الحاسم المميز للسير الذاتية هو ما يمكن وصفه بأنه فعل واعٍ لإعادة بناء ما يكون موضوعًا لتأمل الذات. هذا البعد المميز هو «التأمل الانعكاسي»، الذي يستحق وقفة خاصة.

التأمل الانعكاسي في فن رواية
السيرة الذاتية:
التأمل الانعكاسي Reflection هو سمة من بين السمات الأساسية المميزة لفن السيرة الذاتية الفلسفية، والتي تجعل هذا الفن معبرًّا بقوة عن روح الرؤية الفلسفية التي تتجلى في الفن والإدراك الجمالي.
إن التأمل الانعكاسي ينطوي- كما يقول ميرلوبونتي- على قدرة إيجاد معنى لما يعايشه المرء نفسه، أو يعايشه شخص آخر، من خلال تأمل المعنى أو الماهية كما تتجلي في- ومن خلال- الشيء الجزئي أو الحدث. والتأمل الانعكاسي يتحقق في صورة عيانية، من خلال فن رواية السيرة الذاتية الفلسفية. فكيف يحدث ذلك في السرد؟
إن موضوع فن السيرة الذاتية هو رواية المرء بنفسه لحياته الخاصة، ولكن حياة المرء لا أهمية لها، ما لم تكن تنطوي على قدر من الثراء والخصوبة. وعلى هذا، فإنه ليست كل وقائع حياة المرء تصلح لأن تكون موضوعًا للسرد، فالقليل منها هو ما يترك في أنفسنا أثراً عميقاً، وينطوي على دلالة مخضبة بالمعاني الضمنية. هذه الوقائع تخضع لفعل التأمل الانعكاسي من خلال إعادة تأسيس.
هذه الوقائع الشعورية أو التي تحدث في الوعي هي ما يستولي على انتباه القليل من كتاب السيرة الذاتية، الذين لا يخلطون بين السرد في فن السيرة الذاتية والسرد في غير ذلك من الكتابات الأدبية المتنوعة. فالسرد هنا لا يعنى بالوقائع في حد ذاتها، وإن كانت تتعلق بالراوي باعتبارها حدثت أيضًا في خبرته، وتعد جزءًا منها. حقًا إن هذه الوقائع قد تكون لها أهميتها من حيث دلالتها الاجتماعية أو التاريخية، ولكن هذه الدلالة ليست هي ما يشغل انتباه السارد في المقام الأول، بل ما يشغله هو ما وقع في خبرته الحميمة باعتباره شيئاً عاناه بنفسه، ويمكن للآخرين أن يعانوا الخبرة ذاتها من خلال وجودهم في العالم.
غير أن التأمل الانعكاسي في السيرة الذاتية الفلسفية لا يشبه شيئًا من تأملات ديكارت العقلانية الباردة التي تتصور أن الحقيقة فكرة مكتملة جاهزة يمكن بلوغها من خلال منهج عقلاني مصطنع، وإنما هي تشبه تأملات الوجوديين، لأنها وليدة التجربة المعيشة التي ينبغي أن ننصت إليها على الدوام باعتبارها تجربة متجددة تجدد الحياة ذاتها، وما علينا سوى أن نقتنص شيئًا من معناها كما يتجلى في سياقها الحي المعيش.
وربما أمكننا أن نتبين من هذا أهمية فن السيرة الذاتية بالنسبة إلى الفلسفة، وبالنسبة إلى إعادة النظر في أسلوب التفلسف ذاته. فالواقع أن الفلسفة في عصرنا الراهن تحتاج إلى أساليب أخرى، تستعين بها على إظهار رموزها وتشخيص دروبها، حتى إن جاء ذلك من وحي تلقائية التأمل. فمن هذا النبع الفياض تأتي كل النصوص السردية للأعمال العظيمة في فن رواية السيرة الذاتية. وربما ينبثق هذا النبع الفياض من وحي تأمل حدث أو موقف عابر ربما استدعى التأمل الذي يستحث مكنون الذاكرة، لتبحث عما يرتبط به ارتباطًا يجعله مقيماً في الوعي عندنا وعند غيرنا.
وبوسع القارئ أن يرجع إلى الكتابات التي تنتمي لفن رواية السيرة الذاتية الفلسفية، وهي الكتابات التي تنطوي على رؤى فلسفية، وإن كان ثقل العلاقة فيها يميل إلى السرد في فن الأدب والبلاغة أكثر مما يميل إلى السرد الفلسفي. ذلك أن الأدبي أو الجمالي هنا مفتون بالسعي الدائم للاستحواذ على معنى الظواهر والأشياء التي يلتقي بها في الخبرة.
وإذا كانت السيرة الذاتية هي رواية سيرة المرء لحياته الشخصية، فإن الحياة نفسها تظل هي الموضوع الأول والأخير للسيرة الذاتية، سواء أكانت حياتنا الخاصة أم حياة الآخرين. وهذا هو الموضوع الأساسي المهيمن في فن رواية السيرة الذاتية الفلسفية، بل في الفلسفة المعاصرة، خصوصًا الفلسفة الظاهراتية.

الذاتية البينية في فن رواية
السيرة الذاتية:
إن الملاحظات السابقة حول معنى التأمل الانعكاسي في فن السيرة الذاتية قد استدعت قضية الذات. ولعل أهم ما نلاحظه هنا هو أننا ينبغي أن نستبعد معنى «الفردية» من مفهومنا عن معنى «الذاتية». إن الذات هنا لها حضور خاص مختلف عن حضورها في كل أشكال السرد الأخرى. ذلك أن حضور الذات هنا يكون أكثر حميمية من حضورها في كل هذه الأشكال، ولكن الحميمية لا تعني هنا أن الذات تعبر عن ما هو شخصي محض، كما هو الحال في كتابة المذكرات الشخصية أو اليوميات على سبيل المثال. إن ما هو شخصي محض يخصني بالتأكيد، ولكنه قد لا يكون حميميًّا بالنسبة لتجربتي الحية المعيشة، بل قد يوجد على مسافة مني، كما لو كان وقائع مجردة قد حدثت في التجربة، أقوم بروايتها عن بعد أو من بعيد. وقد تكون الأحداث والمواقف التي ترويها الذات أو تتذكرها هنا على درجة من الأهمية، ولكنها لا تهم سوى قلة ممن يريدون معرفة أشياء اجتماعية أو سياسية..إلخ، أو يريدون التعرف على شيء من حياة الراوي إن كان يعد شخصية جماهيرية في عصره. نعم هناك أحداث ومواقف موضوعية، ولكنها معناها يظل مستنفدًا في الذات الشخصية ومتوقفًا عليها، ذات الراوي نفسها.
وفي مقابل ذلك، فإن ما هو شخصي حميمي في السيرة الذاتية الفلسفية، يكون مقصودًا لكي تشارك فيه الذوات الأخرى، وهذا هو ما أقصده بطابع «الذاتية البينية» Intersubjectivity في رواية الذات لعالمها. ولذلك فإن موضوع السرد هنا يكون انتقائيًا، فهو ليس كل ما خطر على البال باعتباره أحداثًا تتداعى على الذاكرة، مهمها كانت أهميتها التاريخية أو الاجتماعية، وإنما هي موضوعات منتقاة عن قصد باعتبارها تعني الذوات الأخرى.
وربما تستدعي الملاحظات السابقة تأمل مسألة الذاكرة في فن رواية السيرة الذاتية، وهي المسألة التي كثيرًا ما نجدها متداولة في الكتابات الأدبية عن السيرة الذاتية:
إن عمل الذاكرة باعتباره ما نتذكره من أحداث ومواقف ليس هو مناط الأمر هنا، وإنما مناط الأمر يكمن في الوعي القصدي الذي يتمثل في إعادة بناء موضوع الذاكرة، من خلال عملية انتقائية له (بمعنى انتقاء ما يمكن أن يكون حميمًا بالنسبة لنا، مثلما هو حميمي بالنسبة للآخرين الذي وقع هذا الموضع في خبرتهم، أو يمكن أن يكون حميميًّا بالنسبة لهم وإن لم يجربوه، لأنه في النهاية مرتبط ارتباط وثيقًا بتجربة الحياة ذاتها)، غير أن هذا الانتقاء وحده لا يكون كافيًّا، إذ لا بد أن يخضع لعمليات من حذف التفاصيل التي قد لاتهم أحدًا، والتي لا تخدم فعل التأمل الانعكاسي لمعنى الموضوع ذاته الذي ننتقيه عبر عملية التذكر. كما أن المتبقي بعد عمليات الحذف والاستبعاد، يخضع بعد ذلك لعمليات من التصوير والتخييل الذي يمكن أن يضيف توصيفًا لتفاصيل وسمات أخرى لموضوع التذكر، ربما لا تكون قد حدثت بالفعل، وإنما حدثت فقط بفعل التمني، أو في مملكة الخيال الذي لم يتحقق بالفعل، وإنما يظل قابلاً باستمرار للتحقق (وربما تكون هذه العملية هي ما يجعل فن السيرة الذاتية الفلسفية يحمل صلة قرابة من أسلوب الحكي في الأعمال الروائية المتميزة).
وربما يستدعي تأمل دور الذاكرة هنا تأمل طابع الزمان هنا. ذلك أن الزمان هنا ليس هو مجرد الماضي الذي تستدعيه الذاكرة، أعني تلك اللحظة التي انقضت. فالحقيقة أن الماضي هنا يمثل لحظة حضور دائم، إنه الماضي الذي تم رفعه إلى حالة حضور، بل إلى حالة المستقبل الذي يتمثل في الإمكان الدائم. بل إن هذا الزمان نفسه يمكن أن يمثل موضوعًا لتأمل السارد هنا على نحو يتجسد فيه بوضوح هذا المعني الذي أقصده، ولكن من المهم هنا أن نلاحظ- كما لاحظ ريكور من قبل- أن السرد هنا يمكن أن يقدم لنا وصفًا للكيفية التي بها يقدم السرد نموذجًا للتفكير في الزمان الإنساني والمكان الإنساني، فالزمان لا يوجد إلا في مكان ما: منزل، شارع، مدينة، موضوع، أو غير ذلك.
إن الذاتية البينية في فن السيرة الذاتية الفلسفية، هي ما يمكن أن يُطلعنا بوضوح على معنى الحقيقة في الفن التي تختلف تمامًا عن الحقيقة الموضوعية التي تخلو من الذاتية، ونكون مطالبين جميعًا بالاتفاق عليها، والتي يمكن أن نصل إليها من خلال التفكير المنهجي. فالمنهج كما أبان لنا جادامر ليس هو السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة. والسارد هنا يريد أن يقدم تفسيرًا لمعنى خبرة معيشة يمكن أن يشارك فيه الآخرون، بل يمكن أن يتعلموا منه شيئًا جديدًا عن شيء من معنى حياتهم. ولهذا نرى أن البحث في فن رواية السيرة يمكن أن يشكل مدخلاً جديداً لدراسات مهمة في مجال البحث الفلسفي التقليدي في معنى الحقيقة والزمان، بل في فلسفة الحياة ذاتها.