(القاهرة) - أسرتي تأخذ الحياة كلها بشكل جاد في كل صغيرة وكبيرة ونفتقد الدعابة وعلمونا أن ذلك من أصول التربية ولابد أن يكون هناك فرق بين الكبير والصغير وخطوط لا يجوز الاقتراب منها أو تخطيها، وإن كان هذا لا خلاف عليه لكنه جعل حياتنا قوالب جامدة ووضع حواجز بيننا منعت الاقتراب وأفقدتنا الدفء الأسري ولم نشعر به حتى أن وجد ونشأت على ذلك حتى عندما وصلت إلى دراستي الجامعية كنت أخشى الاختلاط مع الزملاء والزميلات خشية الخروج عن الأصول وحفاظاً على تقاليد العائلة مما جعلني أعيش في شبه عزلة لم أكن راضية عنها ولا أعرف كيف يمكن أن أخرج منها من دون أن أُخالف تلك الفرمانات. لقد نجوت - وكنت محظوظة - أن جدتي العجوز لم تشملني بقراراتها العليا وأوامرها العسكرية فقد اعتادت أن تجلس وهي تمسك بعصاها وتنظر من خلف نظارتها السميكة لتقرر أن فلاناً يتزوج فلانة، وفلانة لفلان، وهذه لذاك وهذا لتلك، وتصنع شبكة زيجات بين أبناء العمومة والأخوال والعمات رغم أن بعض هؤلاء لم يبلغ العاشرة من العمر ولا يعرف ماذا يعني الزواج ولا مسؤولياته وقد تم تنفيذ الكثير من هذه الأوامر ومن الأحفاد من ينتظر وصحيح أن كثيراً من تلك الزيجات خالية من المشاكل، ولكن لا أقول إنها ناجحة تماماً وإنما تسير في مركب الحياة الرتيبة وبعضهم لا يخفي تبرمه من إهدار حقه في الاختيار. نجوت ولكنني لم أكن أحسن حالاً والعكس، فقد جاءني من يطلب يدي وهو على شاكلة أسرتنا شاب في وظيفة مرموقة تفرض عليه الالتزام والوقار إلى حد التكلف والابتعاد عن أي كلام إلا الجاد وفي حدود المطلوب بما هو أقرب إلى التعامل الرسمي الشديد وان كنت أريد أن يكون زوجي بهذا الوقار لكنني لا أريده أن يكون مثل جنرالات الجيوش أو أفراد المراسم لذا استشعرت تخوفاً من افتقاد المودة والرحمة وربما التفاهم وكل من حولي يرون أنه عريس «لقطة» تتمناه أي فتاة إلا أنني لم أكن أرى ذلك صحيحاً وأخشى الفشل ولا أريد أن أعيش تحت ضغوط، فإما أن أتحمل ليقال إنني سعيدة وإما أن أرفض وحينها سأصبح مطلقة، فاستجمعت شجاعتي وأعلنت ملاحظاتي لخطيبي نفسه وعلمت أسرتي بذلك ولم تتم الخطبة من الأساس وإن نالني بعض التقريع والتوبيخ وأحياناً التهديد بأنني لن أتزوج أو على الأقل لن تأتيني تلك الفرصة مرة أخرى حتى زرعوا الخوف بداخلي وفكرت فعلاً في أن يكون كلامهم صحيحاً. بعد عدة أشهر تقدم لي شاب آخر، لكنه مختلف تماماً، فهو بشوش ضحوك يأخذ الحياة ببساطة وتلقائية لا يحمل همومها ولا يتوقف عند مشاكلها التي لا تنتهي يحول الأزمات إلى مزاح ولا يجعل الدنيا تتوقف أمام أي موقف صعب مهما كان ورأيت أنه من عالم آخر غير العالم الذي عرفته واعتدت عليه وخلال لقاءات التعارف شعرت بالفارق الكبير بين الكآبة التي كنت أغرق فيها أو كانوا يغمسونني فيها رغم أنفي والحياة البسيطة السهلة معه، فإن لديه قدرة على صنع النكتة ورسم البسمة أما عن المجاملة فحدث ولا حرج فهو يعرف كيف يشعر من أمامه بأنه ملك متوج أو المرأة بأنها جميلة الجميلات ولا يحفظ فقط كلمات الغزل والمجاملة وإنما لديه منها معين لا ينضب فيأسر من أمامه ولم يكن الإعجاب به من جانبي وحدي وإنما من كثير من أقاربي. عرفت معه كيف أضحك بملء فمي وعرفت السعادة بعدما تخلصت من الكآبة الاصطناعية التي قيدوني فيها بلا داع، وانتظر قدومه على أحر من الجمر وفي كل اتصال هاتفي يبثني كلمات جديدة رقيقة لا أتوقعها ومع أنه بطبيعة عمله في السياحة يلتقي كل يوم تقريباً بعدد كبير من الفتيات والنساء من كل الجنسيات إلا أنه جعلني أشعر بأنني أجمل واحدة في الدنيا والفتاة يمكن أن تقاد من أذنها إذا جاز التعبير وأنا كنت كذلك بجانب أنني كنت مثل الظمآن الذي وجد الماء البارد في يوم شديد الحرارة فتعلقت به وكنت على استعداد للعيش معه في أي مكان وتحت أي ظروف لأنه يكفيني أن أكون بجواره. وبجانب خفة الظل فإن خطيبي يتمتع بملكة الحديث المنمق وحسن الترتيب ورصانة الأسلوب والكلمات ويجعل مستمعه يرهف السمع وهو يروي ولو موقفاً عادياً أو حكاية يومية أو موقفاً عاماً إلا أنه يصنع منه قصة مشوقة بأحداث ساخنة أو غريبة تتوق النفس لمعرفة النهاية أو كيف تم التصرف فيها ولا يفوته أن يحكي بطولاته التي لا تخلو أبداً من المبالغة الشديدة التي نعرف ونحكم عليها أنها من باب الدعابة فقط ولا يعقل أن يصدق أحد أنها حقيقية فهي جميعها مثل الأساطير الرومانية القديمة أو حكايات ألف ليلة وليلة وفي العصر الحديث مثل مواقف «أبو لمعة» المشهور بالتهويل، وكذلك مثل أفلام الكارتون للأطفال التي تحكي عن الرجل الوطواط والرجل الناري والرجل الخفاش وغيرهم من الشخصيات غير الواقعية. وبجانب ذلك، فإن خطيبي يتمتع بثقافة عالية فهو قارئ يستطيع أن يتحدث في الفن والموسيقى والسياسة والرياضة والاقتصاد مثل الخبراء في كل مجال، بل ويدلي بدلوه في كل منها كأنه متخصص من أهلها ويعارض وجهات النظر ويؤكد رؤيته ويدعمها بالبراهين، ومع ذلك يقبل الرأي الآخر ولا يتعصب في النقاش وهذه من أهم مميزاته لانه يسمع محدثه أولاً ثم يرد عليه بما لديه فأجدني أمام مفكر ولا أبالغ إذا قلت أمام خبير أو عالم وقد تعلمت منه الكثير وتأثرت بشخصيته وأصبحت أقلده في كثير من التصرفات واقتبس بعض تعبيراته وأقوم ببعض حركاته وكنت معجبة به شكلاً وموضوعاً. لقد سمعت كثيراً عن الخلافات التي تحدث بين أسرتي العروسين حول المهر والشبكة وقائمة المنقولات وغيرها إلا أنه كان كعادته مختلفاً متميزاً وأغلق الباب أمام أي خلاف وسد النوافذ في وجه أي شقاق، وقال بكلمات واضحة لي ولأبي ولأسرتي أنني أستحق أفضل ما في هذه الدنيا ولو أنني طلبت القمر أو لبن العصفور لضحى بحياته من أجل أن يأتيني به، وخاصة أن كل شيء في النهاية سيكون له وفي بيته، فكانت كلماته بلسماً جعل الجميع يسكتون ويرضون بما يفعله حتى وان كان أقل بكثير مما كانوا يريدون أو يطلبون، ودخلنا في مراحل إعداد عش الزوجية، فكنا نقوم بجولات على معارض الموبيليا وشركات الأجهزة الكهربائية والستائر والأرضيات والملابس وغيرها ولأوَّل مرة بعد أكثر من عام يتاح لنا الاقتراب بشكل أوسع لأننا على وشك الوصول إلى محطة الزواج. كان هذه الاقتراب بمثابة المجهر الذي بدأ يكشف لي عن حقائق أخرى في خطيبي أو الوجه الآخر لشخصيته والذي جعلني متأكدة من أنني في مشكلة حقيقية فأنا أتعامل مع مواقفه وبطولاته على أنها مجرد حكايات أو «أحاجي» أو نوع من خفة الدم، إلا أنني وجدته الآن يختلق حكايات وهمية من بنات أفكاره، وليست هذه المشكلة، وإنما المشكلة أنه يشركني فيها ويدعي أما إنها حدثت أمامي أو أنه يقحمني في أحداثها المزعومة والطامة الكبرى أنه يجعلني أشهد على صحتها وفي البداية كُنت أحاول أن أُجاريه، ولكن على مضض لأنني لا أريد أن يظهر على أنه كذَّاب أمام أسرتي أو صديقاتي وتعددت هذه المواقف فاضطررت لتنبيهه، لذلك حاولت أن الفت نظره إلى أن هذا من قبيل الكذب ولا يجب الخلط بين الجد والمزاح بهذا الشكل أو على الأقل إلا يجعلني شريكة فيه ولا يجبرني على الشهادة على مواقف وهمية أرى أنها شهادة زور. ليس هذا فقط، لكن ما يدريني أن تكون حياتنا الزوجية فيما بعد مبنية على هذه الأسس ونربي أبناءنا على الكذب بحجة أنه «أبيض» أو مزاح والآن فقط تذكرت كلمات صديقتي التي وصفت خطيبي بأنه مجرد «مهرج» ولا يرقى إلى تحمل المسؤولية وحينها اعتبرت أن كلامها من باب الغيرة والحسد لأنها لم تتم خطبتها وإني سبقتها وأيضاً لأنها لم تجد فيه عيباً فادعت أن خِفة الدم نقيصة، فعندما استعدت كلامها وجدت فيه رؤية صحيحة وأنني كنت مخطئة في الحكم عليها وأسأت الظن بها لدرجة أنني قررت بيني وبين نفسي أن أقاطعها لأنها لا تريد لي الخير. المخاوف تصل بي إلى أكثر من حد الرعب وأنا أراه يكذب ويصدق نفسه ولا يعترف بأنه يكذب وتحولت المميزات التي أعجبت به من أجلها إلى عيوب أخشاها خشيتي من الوحوش الضارية، وأحاول أن اقنع نفسي بأنني يمكن أن أغيره عندما نتزوج لكنني أرى بوادر فشل مؤكدة لأنه يرفض وجهة نظري وبنفس طريقته وأسلوبه، بل هو الذي يحاول أن يجعلني مثله ويستدرجني لأسير على دربه الذي أرفضه وفي نفس الوقت لا أريد أن أكون مثالاً لعدم إتمام الخطبة فالمرة الأولى رغم أنها لم تتم إلا أنها في عرفنا احتسبوها واحدة فاشلة. لم يبق إلا أسابيع معدودة نقوم خلالها بتجهيز مسكن الزوجية وكلما اقتربت الأيام يزداد قلقي وخوفي وتحولت فرحتي بليلة العمر والبيت المستقل وأحلام الزواج إلى كوابيس وهموم، وقد لاحظت أسرتي هذا التغير فلم أكتمهم حديثاً وعبرت عمّا يدور بداخلي وأخبرتهم به، فإذا بهم يؤكدون لي أنهم مثلي، بل أكثر خوفاً وأصبحنا جميعاً أمام الاختيار الصعب نرى أن الاستمرار محفوف بالمخاطر وفسخ الخطبة له توابعه.