ثمة نوع من الرجال الذين يقتحمون الحياة بكل مباهجها ومسراتها الصغيرة حتى لو أدارت لهم ظهرها وتمنعت، لديهم من جسارة القلب والإرادة الشخصية المبهمة والغامضة، ما يجعلهم قادرين على الخوض عميقاً في الرغبات واقتحام غاباتها الملونة. كان الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني (1963 - 2012) واحداً من هؤلاء، لم يعش أحمد راشد ثاني تلك الطفولة السعيدة، أو العادية كي لا يُقال المرفّهة، كانت طفولة قاسية تركت انطباعاً مباشراً على شعره، ومَنْ يقرأ شعره، الآن، يدرك إلى أي حدّ هو ممتلئ بتفاصيل تلك الطفولة التي تجلّت صُوَراً لا تخلو من الإحساس بالألم: قليل الكلام «السلام عليك أيها البحر، أنا لست من هذه المدينة، أنا من قرية تعرفها حقّ المعرفة وابن سمّاك تعرفه طيورك حق المعرفة، وعلى الرمل الذي خلّفتْه أمواجك عثرْتُ على أغنيتي الأولى، وصِدْتُ أوّل نجمة في حياتي حين تعلّمتُ السباحة في مراياك». كان قليل الكلام عن ذلك، لكنه أحياناً، عندما كان يقول شيئاً ما عن مصادر شعره يجعل أي مُحاوِر له يدرك جيدا أي طفولة كانت تلك التي عاشها دون خَوْضٍ في تفاصيل لا طائل منها، أو عندما يتذكّر تفصيلًا ما من تفاصيلها فإنه يذكرها على «النكتة» أو المفارقة التي تجلب الضحك. ولأن أحمد راشد ثاني لم يكن بوسعه أن يكون سواه، فقد بات من النادر أن تجد شاعراً إماراتياً، أو حتى عربياً، يشبه أحمد راشد، إنْ في شعره، أو في التعبير عن حياته في الشعر وخارجه. لقد كان اقتحامياً وجريئاً على نحو لافت، كان يعيد النظر في مخطوطاته، ويعيد كتابة دواوين نشرها ليعيد نشرها ثانية. يمكن القول بثقة إن أي عمل شعري يحمل اسم احمد راشد ثاني ليس هو كما في طبعته الأولى. بعيداً عن ذلك وفي عزلته الخاصة، أي عندما يتصل الأمر بالشعر، لم يكن أحمد راشد ثاني، أثناء فعل الكتابة يتصل بأحد، بل ما إن يفرغ من هذا الفعل حتى يؤجج الدنيا صخباً واحتضاناً للغامض الواضح والمبكي المُفرح الذي اسمه الحياة. في تلك الأثناء لم يكن حكيماً أبداً إنما رائياً، ربما لمصير الشخص الذي هو أحمد، أحمد، في كتابة الشعر، كان حادّاً إلى حدّ التطرف، مع نفسه أولًا، لأن الأساس النظري هنا لم يكن كتابته هو للشعر بل ما يصبو إليه من كتابة للشعر. الأمر قاسٍ هنا وعصيّ على التفسير ربما بسبب التقاطعات الأكيدة بين العيش والشعر، والأحلام والخذلان، والرغبات والمخاوف، كلها في نسيج إنساني معقّد واحد ودقيق. كنا ندرك تماماً أن ثمة فرقاً بين ما يعيشه الشاعر وبين ما يتأمل فيه، لكنّ أحمد على غفلة من أصدقائه الذين جادلوه عميقاً في كتابة الشعر كان ينظر إلى الموت مبكراً، ليس كذلك فحسب، بل يحدّق مليّاً في المصير الذي سيكون بعد الموت: «أنا فشل الماء، وضياع القبور»، هذا التأمل لم يكن نزوة. أو «ينتابني شجن الشجرة». . كما لو أنه يقول: لا أحنّ إلى أي مكان أو أحد. مرجعيات ثقافية شعر أحمد راشد محمّل بمرجعيات ثقافية عربية وإسلامية قد يبدو من الصعب على مَنْ لا يدرك تلك الثقافة أن يؤوّل هذا الشعر وفقاً لأي معنى من معانيه الدالّة، خاصة فيما يتصل بالوجدان العميق للفرد ونشأته وتكوينه وظرفه الخاص، لكن أحمد بالمقابل كان يمتلك روحاً تحترق، وكان يودّ أن يقول كل شيء دفعة واحدة أو طلقة واحدة، حيث لا وقت لتلويحة وداع، حيث كلّ فكرة لم تعد تُطاق أبداً. لقد رحل أحمد راشد ثاني، في حين لم ينشر بعد الديوان الضخم الذي تركه وراءه: «ثلاثية الحانة»، الذي هو آخر ما كتب أحمد راشد، واستنسخ من المخطوط عدة نسخ قام بمنحها لعدد من أصدقائه الشعراء، ولا يعرف أحد من أفراد أسرته أين استقر المقام بالثلاثية حتى الآن. ولا أين ذهب أصلها المطبوع، على نحو غامض ويستدعي التساؤل بالفعل: أين ذهبت «ثلاثية الحانة»، إذ كان صاحبها يلحّ على أن يبقى العنوان كما هو دون المساس به من قبل أحد، بل لم يقبل أن يناقش العنوان حتى بل الشاعر. كان أحمد راشد ثاني مصغياً لآراء أصدقائه فيما يكتب، حتى لو كان ذلك بعد نشر الكتاب. ولد أحمد راشد ثاني في مدينة خورفكان بإمارة الشارقة عام 1962، وبدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينات. وقد خرج من مسقط رأسه لكي ينطلق في مشوار الحياة والإبداع فظل طيلة للسنوات على صلة بالشعر والمسرح والبحث من دون توقف، وفي الشعر تحديداً أصبح خياره في تجارب لاحقة خيار قصيدة النثر. وهو يمتلك رؤية نقدية لكل شيء حوله. بجانب تجاربه في الكتابة للمسرح. نشرت قصائد أحمد راشد ثاني في الصحف والمجلات العربية والمحلية وترجمت إلى الفرنسية والألمانية. وشارك في العديد من الاحتفاليات والمهرجانات الشعرية في الإمارات والعالم العربي. وقد رحل عن عمر يناهز الخمسين عاماً.