بعد مرور ما يقارب العشر سنوات على انطلاق عجلة الفعل السينمائي في الإمارات، يحق للقارئ والمتابع لهذه الحركة الإبداعية الطموح والمتدفقة، أن يطرح بعض الأسئلة الملحّة في هذا التوقيت بالذات، لأنها أسئلة نابعة من هاجس اكتشاف شكل وملامح هذه السينما، وهي على أعتاب الاحتفال بيوبيلها البرونزي، احتفال قد يكون مصحوباً هو الآخر بالتحليل والتقييم والنبش في تفصيلات فنية وإحصائية ترصد إنجازات هذه السينما من حيث الكم والكيف، ومن حيث المحتوى الجمالي والحضور الإعلامي والفني في المهرجانات الداخلية والخارجية على السواء، وذلك حتى تكون التجربة بمجملها متماسكة وتعبّر عن هويتها الخاصة وسط هجمة العولمة البصرية الشاسعة والمربكة. فمن الفيلم الروائي القصير إلى الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي الطويل وأفلام التحريك، ومع مخرجين هواة ومحترفين وطلبة فإن خريطة السينما المحلية التي تشكلت مع ولادة مسابقة نوعية. هي مسابقة أفلام من الإمارات التي انطلقت العام 2001 في أبوظبي ـ وفي المجمع الثقافي تحديداً ـ تبدو وكأنها خريطة مشمولة بموزاييك بصري يقدم ملمحاً عاماً للسينما الإماراتية، وهو ملمح أو تكوين فني يضم في ثناياه العديد من الرؤى الإبداعية والجهود التقنية المتشكلة من الكتابة النوعية (السيناريو ـ أو النص المرئي) والأسلوب الإخراجي ومرادفات الشغل الإنتاجي كالتصوير والإضاءة والصوت والمكساج والمونتاج والسينوغرافيا، وغيرها من الإكسسوارات الملزمة في العمل السينمائي، والتي باتت تجذب وبقوة الكوادر المواطنة بعد فترة من الامتناع والحذر. صورة الذات والمكان إن الشرارات المكونة للوهج السينمائي كانت واضحة في التجارب القوية التي أثمرت عنها هذه المسابقة، فصناع الأفلام من الإماراتيين أعلنوا، ومنذ البداية، عن نواياهم الإبداعية الصريحة في تقديم ما هو مختلف ومتمرد في الوقت ذاته على الأنماط المسرحية والتلفزيونية السائدة في المشهد الثقافي المحلي، تمرد حمل معه بذرة التحدي ومقاومة الآراء المحبطة التي رأت أن هذه التجارب الأولى تضع بذورها الفنية في أرض مالحة وغير مستقرة. ولكن العشر سنوات الماضية أثبتت أن الحركة السينمائية الشابة والمتحمسة تحركت في الاتجاه المضاد لهذه الآراء المحبطة، لأنها استطاعت أن تخلخل المنظومة الفنية السائدة، وأن تلفت النظر إلى إمكانية خلق حالة سينمائية مدوية وكبيرة، كان من ثمارها ولادة مهرجانين مهمين في المنطقة، وهما مهرجانا أبوظبي ودبي السينمائيان الدوليان، بالإضافة إلى مهرجان الخليج السينمائي بدبي بطابعه الخاص والحميمي، وفي سياق مرادف يمكن نعت هذه الحركة المتوثبة وذات النكهة المحلية، بأنها حركة منتجة أيضاً وقادرة على تغيير المفهوم السائد حول سيطرة الاستهلاك الفني السلبي على ذوق وخيارات محبي السينما في الإمارات، وعندما نتحدث عن الإنتاج أو قوة الدفع الداخلية التي صنعت كل هذا البريق السينمائي في المكان، فإننا نتحدث أيضاً عن الرؤى المستقبلية لهذه الحركة، وكذلك عن العقبات السوسيولوجية (ذهنيات التحريم والرقابة والحذر الداخلي)، والصعوبات الإنتاجية ومخصصات التمويل، وعمليات ما بعد الإنتاج التي يمكن أن تقلل من اندفاع هذه الحركة نحو الطموح الكبير الذي يُخزّنه صُنّاعُها في داخلهم، ويصرّون ـ على الرغم من ذلك ـ على تفعيل هذا الطموح وتخصيبه بما هو أجمل وأكثر إشراقاً. في التحقيق التالي الذي جاء أشبه بالندوة المفتوحة اخترنا عينة من السينمائيين والمخرجين الإماراتيين وهم: خالد المحمود ووليد الشحي ونواف الجناحي وعلي جمال، والذين ما زالوا يعملون بجهد وإخلاص لصياغة مناخ احترافي متطور في فضاءات السينما المحلية، وطرحنا عليهم بعض الأسئلة والهواجس التي سقناها في مقدمة التحقيق من أجل الاقتراب أكثر نحو أحلامهم ورؤاهم الفردية المتداخلة مع الشرط العام والقياسي لصناعة سينما محلية واثقة، تحمل رائحة الهوية والمكان، ولا تخلو في الوقت ذاته من طموح عالمي مشروع وقابل للتحقق. فرص التمويل ففي سؤال طرحناه حول راهن السينما الإماراتية بعد مرور ما يقارب العقد من عمرها ومن مسيرتها التي تشكلت وسط تضحيات وجهود بدت فردية في الأساس قبل أن تحوز بعد ذلك الاهتمام الرسمي والإعلامي الملحوظ حالياً، يرى المخرج الإماراتي الشاب خالد المحمود الذي حقق إنجازاً مهماً بمشاركته مؤخراً في مسابقة مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي من خلال فيلمه القصير “سبيل”، إن السينما الإماراتية “بدأت تميل أكثر نحو مفهوم الاحتراف خصوصاً فيما يتعلق بالنواحي الإنتاجية المتعلقة بالتقنية والتوزيع قبل وبعد تنفيذ الفيلم”، ويؤكد المحمود ملامح هذا التغير الاحترافي من خلال استقطاب المهرجانات الدولية الرصينة للأفلام الإماراتية، “لأنها مهرجانات لا تتنازل عن شرط الجودة الفنية والموضوعية العالية عند انتقائها للأفلام المستضافة أو الداخلة في مسابقاتها المختلفة”. وفي سياق معاكس يطرح المخرج وليد الشحي وجهة نظر ذاتية مغايرة حول راهن الحركة السينمائية في الإمارات، فهذا المخرج المتألق في خياراته وأسلوبه الفني والحائز جوائز مهمة وعديدة في مشاركاته المحلية والدولية يرى “أن الحماس الذي شهدته السنوات الأولى من عمر التجربة بدأ يخفت تدريجياً على الرغم من وجود مناخ سينمائي مشجع لصناع الأفلام، وعلى الرغم من توافر فرص التمويل التي كانت شبه غائبة في الماضي”، ويدلل الشحي على رأيه من خلال قلة الأعمال القوية والمتماسكة وندرتها مقارنة بالسنوات الفائتة التي شهدت زخماً إنتاجياً كبيراً على مستوى الكم والكيف، ويعزو الشحي سبب هذا الخفوت “إلى تضارب وتداخل مواعيد المهرجانات المحلية وغياب التعاون أو التنسيق فيما بينها”، وكذلك بسبب آخر غريب وصفه الشحي بأنه “سبب نفسي يعود إلى أن البدايات شهدت حالة من التحدي لدى السينمائي الإماراتي لإثبات موهبته وأحقيته في التعبير عن قدراته الفنية”، ولكنه ــ وكما قال الشحي ــ أصيب بنوع من البرود والكسل عندما تكرس اسمه في الساحة وعندما توسعت أمامه خيارات المشاركة في المهرجانات المختلفة. أما المخرج علي جمال الذي قدم تجارب محلية لافتة في أفلامه الروائية القصيرة فيعزو سبب قلة الإنتاج هذه إلى “اتجاه معظم السينمائيين الذين خرجوا من معطف مسابقة أفلام من الإمارات إلى التعاطي مع الفيلم الروائي الطويل بسبب الهالة الإعلامية الكبيرة وفرص المشاركة الأوسع التي تتاح لهذه النوعية من الأفلام”، وقال جمال: “إن الفيلم الطويل يتطلب التواصل مع جهات تمويلية عدة، كما أنه يتطلب زمناً أطول وجهداً أكبر من المخرج كي يقدم فيلماً ناضجاً ومتماسكاً ومملوءاً بالتفاصيل والهوامش وبالعمليات التقنية والإنتاجية المرهقة”، وأوضح جمال بأن المخرج، الذي كان ينتج عملين أو ثلاثة أعمال قصيرة في السنة، أصبح يستغرق سنتين أو ثلاثاً لإنتاج فيلم روائي طويل واحد، وقال إن هذه المعادلة الفنية المعكوسة أدت إلى تراجع عدد الأفلام المحلية في الفترة الحالية مقارنة بالسنوات السابقة. المخرج نواف الجناحي، الذي يعكف حالياً على تصوير فيلمه الروائي الطويل الثاني “ظل البحر”، بعد أن قدم سابقاً فيلم “الدائرة”، يرى أن “الحركة السينمائية في الإمارات تشهد حالة من الانتعاش على مستوى التمويل، وعلى مستوى اهتمام الجهات الرسمية الداعمة للسينمائيين المحليين، وكذلك على مستوى توافر الورش المتخصصة والمعاهد والأكاديميات والجامعات التي باتت تهتم بتدريس مساقات نظرية وتطبيقية متعلقة بفنون وتقنيات السينما”، وعن قلة الأعمال المقدمة مقارنة بالسنوات السابقة، أوضح الجناحي بأن قلة الأعمال تكون أحياناً في صالح الحركة السينمائية، والكم المنتج - حسب الجناحي - ليس هو المقياس الوحيد لتطور أي حركة فنية، وأشار إلى أن الوضع الحاصل حالياً هو وضع طبيعي في ظل النقلة الاحترافية التي شهدتها الساحة السينمائية مؤخراً، وكذلك في ظل تخوف المخرجين من تقديم أعمال متواضعة ولا تتوافر على المقاييس والشروط العامة والقياسية لإنتاج الأفلام سواء كانت هذه الأفلام قصيرة أو طويلة، وأكد الجناحي أن التمهل والمراجعة والنقد الذاتي هي عناصر مطلوبة من السينمائي حتى يطور تجربته ويقدم فيلماً مكثفاً وموحياً ومتخلصاً من حماسة البدايات واندفاعة التجارب الأولى. أزمة النص والتقنيات وفي سؤال حول بعض الأزمات، التي ما زالت ترافق السينما الإماراتية وتعرقل من طموحاتها، مثل أزمة النص وأزمة التقنية وإحجام صالات العرض العامة عن استقطاب الأفلام الإماراتية، وغيرها من الأزمات والعراقيل الفنية والموضوعية التي تحاصر الفعل السينمائي المحلي، يجيب خالد المحمود على النقطة المتعلقة بأزمة النص بقوله: “إن أزمة النص السينمائي هي أزمة تعانيها أغلب الفنون”، ويضيف: “إن الكتابة التخصصية التي تعتمد على موهبة الكاتب ووعيه الفني، هي كتابة نادرة على الدوام، كما أن الأعمال المميزة والمتوهجة هي أعمال نادرة، وسط الكم الكبير من الأعمال الهشة والضعيفة والمكرورة التي باتت تقلد بعضها بعضاً وتنتحل أعمال الآخرين بشكل مشوّه ومفتقد للأصالة”. من جهته تحدث المخرج علي جمال عن غياب الفيلم الإماراتي من صالات العرض المحلية، مشيراً إلى أن سبب هذا الغياب يعود إلى جشع ملاك هذه الصالات وعدم رغبتهم في اقتحام مغامرة تجارية غير محسوبة وغامضة، وهو سبب يوافقه عليه المخرج وليد الشحي، والذي أضاف أن الجهات الحكومية عليها أن تضغط على أصحاب هذه الصالات كي يتيحوا الفرصة للأفلام الإماراتية كي تتواصل مع جمهورها المحلي ومع الجنسيات الأخرى المقيمة في المكان، وتعليقاً على الموضوع نفسه أشار نواف الجناحي إلى ضرورة كسر احتكار موردي الأفلام في الإمارات وإتاحة الفرصة لشركات جديدة قادرة على خلق نوع من التنوع والقفز فوق رغبة الموردين وأصحاب دور العرض الساعين لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح بغض النظر عن أي اعتبارات ثقافية وجمالية يمكن للسينما أن تقدمها لشريحة واسعة الجمهور. وللخروج من هذه الإشكالية طالب علي جمال بتنازل المخرجين الإماراتيين عن أسلوبهم النخبوي وهواهم الفردي، وذلك من أجل خلق حالة فنية متوازنة يتداخل فيها الحس النخبوي مع الحس الجماهيري الذي يخاطب الشريحة الأكبر من المتفرجين، كما طالب جمال المهرجانات المحلية في دبي وأبوظبي بضرورة إشراك الأفلام الإماراتية في المسابقات الدولية المختلفة التي تحتضنها هذه المهرجانات، من أجل تشجيع السينمائيين والإماراتيين، ومن أجل تعرف ضيوف المهرجان على ملامح هذه التجربة السينمائية المحلية الطموح. وحول النقطة الخاصة بنقص التقنيات السينمائية القادرة على ترجمة رؤى وأساليب المخرج، تحدث المخرج خالد المحمود عن تجربته الشخصية التي جعلته يتنازل عن بعض خياراته الإخراجية بسبب عدم وعي جهات التمويل بظروف العمل في المكان، ووصف المحمود بعض هذه الجهات التمويلية بأنها تتبع أساليب مدرسية قديمة وكلاسيكية، كما أنها تضع بعض الشروط الإعجازية التي لا يمكن ترجمتها على أرض الواقع، وقال المحمود إن بعض الجهات تعاملت معه وكأنه مخرج قادم من هوليوود أو بوليوود وليس من الإمارات، والتي بدأ سينمائيوها للتو في تحسس طريق الاحتراف السينمائي!. أجيال جديدة من الإشكالات الأخرى المطروحة في الساحة السينمائية الإماراتية تبرز إشكالية البحث عن منافذ مستقبلية لهذه السينما، وضرورة خلق أجيال جديدة قادرة على تطوير هذه الحركة والأخذ بها إلى مناطق أكثر إبهاجاً وتميزاً، ويعلق المخرج خالد المحمود على هذا المحور قائلاً إن الجيل الحالي عبّر عن صوته في الساحة الفنية والإبداعية المحلية، ولم يكن يستند على أرضية متماسكة، ولم ينفتح على أفق واضح أو متبلور، أما الأجيال السينمائية المقبلة ـ كما قال المحمود ـ فإن فرصها أكبر وسبلها أوضح للدخول في معترك المغامرة السينمائية، وبالتالي فإن حظوظها أوفر في التعبير عن ملكاتها وإبداعاتها من خلال وسائط بصرية متقدمة. أما نواف الجناحي فعبّر عن تفاؤله بمستقبل السينما الإماراتية على يد الجيل المقبل، وقال إن الطلبة الذين يدرسون حالياً في كليات التقنية سوف يملكون عدة كافية من المتطلبات النظرية والتطبيقية القادرة على إعانتهم في مشوارهم السينمائي المقبل والمعبّد بالثقة والأمل. وأضاف الجناحي أن اقتحام عناصر مواطنة شابة لتخصصات سينمائية نادرة مثل التصوير والصوت والإضاءة والمونتاج والإنتاج والسينوغرافيا، هو توجه مبشر لخلق قاعدة قوية من الكوادر المحلية القادرة على تحمل عبء هذا الفن المتعب والممتع في آن. المخرج علي جمال يرى أن الحالة السينمائية المتقدة والمتواصلة التي ساهمت المهرجانات والمسابقات المختلفة في خلقها استطاعت أن تجذب الأجيال الشابة لهذا الحقل الإبداعي الذي يجمع في ثناياه أطياف الفنون الأخرى، ولكنه يستقل عنها في طرق المعالجة والتعبير، وأضاف جمال أن الجيل الجديد يبحث عن ما هو مختلف ومثير للفضول، وهو عنصر متوافر وحاضر بقوة في فن السينما الحاضن لمختلف الأنماط البصرية الحديثة والمعاصرة. بدوره قال المخرج وليد الشحي إن شروط السوق السينمائي تستدعي خلق جيل جديد يتجاوز الأخطاء والتراكمات التي صادفها الجيل السابق، وطالب الشحي الهيئات الأكاديمية بالتركيز على الجانب العملي والتطبيقي، والخروج من قوقعة الدراسة النظرية وتحويلها إلى مرتكز وأساس التعليم الفني المرتبط بالسينما، وطالب الشحي بتطوير أساليب التدريب والورش وضرورة إقحام الطلبة في مواقع التصوير التي يديرها مخرجون محترفون سواء في الداخل أو في الخارج، وضرورة إرسالهم إلى المهرجانات الدولية للتعرف إلى ملامح السينما العالمية من دون إهمال الخصوصية المحلية للقصص والمواضيع التي تحتاج هي الأخرى لنبشٍ وبحثٍ وإعادة إحياء، لأنها تمثل كنزاً كبيراً وغير مكتشف لسينمائيي الإمارات. وفي نهاية الحوار اتفق المخرجون الأربعة على ضرورة تفريغ السينمائيين في الإمارات من خلال قوانين وتشريعات وحلول مرنة وقابلة للتحقق، وذلك لتخليص هؤلاء السينمائيين من التشتت ومن أعباء الوظائف البعيدة عن المجال الذي عشقوه وأخلصوا له، لأنه عشق لن يظل متوهجاً على الدوام، وإخلاص لا يعد بنتائج متواصلة ومبهرة إذا استمر الوضع على ما هو عليه.