قضيت أسبوعاً في تامبا مر خفيفاً لطيفاً وكأنه يوم وحان وقت الرحيل، وقفت أمام الخليج، البحر مضطرب، والسماء مكفهرة تنذر بطقس سيئ، وأمامك سفر طويل، ثمة نسمات باردة رجوتها أن تصفي عقلي المشوش، وثمة هاجس يشدك إلى المكوث في هذه المدينة التي تعلق بها قلبك المضطرب. الفتاة اللاتينية الحسناء لا تزال تداعب مخيلتك، بعد أن وقعت في غرام من طرف واحد كغرامك بهذه المدينة التي أحببتها من طرف واحد أيضاً. الاتجاهات مفتوحة وليس لديك هدف أو بوصلة، تطلعت نحو الجنوب فخفق فؤادك نحو هافانا التي قد تغري بالتوغل جنوباً في مدن أميركا اللاتينية، لاستعادة مغامرة مجنونة قمت بها قبل سنوات، غير أنك شعرت بأن الغرب يناديك، وبأن هناك هدفا لابد من تحقيقه وإكماله، هدف مصيري لطالما راودك وحلمت به، هدف الدوران حول الأرض. فجأة تجد نفسك تستعيد ذلك الشغف بذلك الحلم القديم المتجدد، لقد بدأ كل شيء بطريقة عفوية، ودون استعداد أو خطط مدروسة، في البداية كانت الفكرة بحثا عن الذات التي ضيعتها في خضم البحث عن حب ضائع سرعان ما جعلك تشعر بكراهية لنفس حولتك إلى عابر سبيل متشرد متسكع، ما لبثت أن صرت تعيش حالة ترحال سرمدي دون توقف، ربما كان نوعا من عقوبة للذات، سرعان ما تطورت لتصبح حالة مطاردة وهروب، مطاردة من أشباح الماضي وهروب إلى المجهول. لو كان الاستقرار مباحاً لما تركت هذه المدينة، ولما تركت تلك الحسناء، ولما استجمعت كل شجاعتك لتفوز بقلبها، غير أن قلبك لطالما تعلق بمدن كثيرة، النساء تجعلنا نتعلق بالمدن، إنهن كالمرافئ التي ترسو فيها قلوبنا، لكن قلبك كتب عليه أن يبقى هائماً حائراً إلى الأبد يبحث عن مرساه الذي حتماً لن يجده إلا في الوطن. تقرر إكمال المسير نحو الغرب، عابراً مدناً وولايات أميركية، تكمل دائماً إلى الأمام دون خريطة طريق. تودع حارس الفندق ذلك المهاجر اللبناني ذا السبعين عاماً، والذي ألهمك بروحه المفعمة بالحيوية والشباب والمغامرة والعشق وبقصصه التي لا تنتهي والتي تبدأ في لبنان ومنطقة الخليج، ولا تنتهي في أوروبا ولا في أميركا، فتبحث عن عذر بعد ساعتين للخلاص بعد أن تشعر بنقص في الأكسجين؛ فتتثائب ويغزو النعاس عينيك فتنظر إلى الساعة فتجدها قد تجاوزت الثانية صباحاً. في صباح اليوم التالي تترك المدينة الناعسة وهي غارقة في النوم هانئة بليلتها الماضية، الفجر ندي مشبع برطوبة باردة لها رائحة كرائحة الأشجار والبحر ومياه حوض السباحة القريب من مدخل الفندق الذي ينبعث منه البخار. rahaluae@gmail.com