أبوظبي (الاتحاد)

بمناسبة يوم التسامح العالمي، وبالتزامن مع عام التسامح في دولة الإمارات، أكد مترجمو مشروع «كلمة» أهمية الترجمة في مد جسور التسامح والانفتاح على الآخر من خلال الاطلاع على أهم وأبرز الإصدارات العالمية، ومن ثم نقلها إلى القارئ العربي.
واتفقوا على أهمية الدور الريادي لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي ومشاريعها الحاضنة للثقافة والفكر، مشيدين بمشروع «كلمة» للترجمة الذي يقدّم الدعم الكامل لهم عبر النشر والترجمة عاماً بعد عام، متيحاً لهم فرص الإصدار والانتشار محلياً وعربياً وعالمياً.

مهمة عظيمة
تشير الدكتورة ابتسام الخضرا إلى ما حظيت به الترجمة من اهتمام تاريخي في حضارتنا العربية والإسلامية، والذي بلغ أوجه في العصر العباسي، وتتساءل:
فما بالنا اليوم؟ ألا يجدر بنا أن نعمل على إيصال قيمنا السامية إلى الآخرين، ونتعرف على ما عندهم من قيم؟ إنها مهمة عظيمة وشاقة، لكن مشروع «كلمة» يأتي ساعياً لسد هذه الثغرة، محاولاً استرجاع أمجاد «بيت الحكمة» وما جاء على منواله، ليكون مثالاً يحتذى به في نشر العلم والمعارف الإنسانية في عصرنا الحديث. وانطلاقُه من هذا البلد العربي الأصيل، فيه أبلغ دلالة على حضارة هذا الشعب. ويطيب لنا في الختام أن نشكر حكومة أبوظبي على رعايتها لهذه المبادرة العظيمة؛ آملين لهذا المشروع الازدهار والنجاح على الدوام.

الغريب يغدو صديقاً
أما بندر الحربي فيرى أن «الترجمة جعلت الإنسانَ يتعاطف مع الإنسان الآخر، بعد أن فهم أفكاره، ووجهة نظره، بل حتى عواطفه وردود فعله». ويضيف: قال الفيلسوف بول ريكور: (أن تترجم يعني الإقامة في لغة الغريب وإضافة هذا الغريب في صلب لغة المترجم)، أما اليوم فقد جعلت الترجمة من هذا الغريب صديقاً، وجعلتني، مثلاً، أتواصل مع مؤلفي الكتب التي ترجمتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل حتى مع مترجمي هذه الكتب إلى اللغات الأخرى. لقد أدرك القائمون على مشروع «كلمة» قوة الترجمة، ومنذ ما يزيد عن عقدٍ من الزمن، ترجم المشروع مئات الكتب المنتقاة بعناية من معارف إنسانية شتى، فعزز من خلال هذا المحتوى «الكوني» روح التسامح، حينما قرّب ذاك الغريب الفذّ للقارئ الآخر، ليكون صديقاً له، يتعلم من تجاربه، وينتفع بأفكاره.

محاورة مع الآخر
من جهته، يرى تحسين الخطيب أن الترجمة في حد ذاتها، محاورة مع «الآخر»؛ حيث إنها تسعى، ضمن مستوياتها المتعدّدة إلى نقل «صوت» الآخر (بصرف النظر عن اللغة التي يوجد فيها هذا «الآخر») و«توطينه»، بصوت المترجم، في اللغة المنقول إليها. ولذلك، تلعب الترجمة دورها، كـ (وسيط) تواصلٍ بين الشعوب والحضارات المختلفة، بصرف النظر عن الخلفيات الاجتماعية والثقافية، فنكون قادرين على فهم الآخر والتواصل معه في محاولة «عقلانيّة» للوصول إلى مفهوم مشترك، نتعايش بموجبه، بطمأنينة وسلام، في إنسانويّة جامعة، قادرة على نشر «ثقافة» التسامح.
ومن هنا، يتجلّى دور مشاريع الترجمة الرياديّة في العالم العربي، وفي مقدمتها مشروع (كلمة) للترجمة في أبوظبي الذي أنجز الدور الأبرز (الذي لا يزال مستمراً)؛ فنقل أكثر من ألف كتاب، في مختلف المعارف، عن نحو 18 لغة عالميّة. ولإيمانه العميق بأنّ الترجمة تعد جسراً بين الثقافات، فقد تفرّد مشروع كلمة، عن غيره من المشاريع الرياديّة، بانفتاحه اللامحدود على كل مبادرة، كمبادرة (جسور)، في 2010، على سبيل المثال، فاتحاً آفاق المعرفة على عوالم أرحب.

احتفاء بالاختلاف والتنوع
بدوره يرى حمد سنان الغيثي أن المجتمعات المنفتحة تتسم بتسامح مع الذات والآخر، وتحتفي بالاختلاف والتنوّع، وأن فعل الترجمة في حدّ ذاته مثالاً على التسامح والتعايش،
ويضيف: يمثّل مشروع (كلمة) استثناءً على هذا الصعيد؛ إذ اضطلع بدور وزخم غير مسبوقين في الثقافة العربية، فقد تجاوز مرحلة ترجمة آحاد وعشرات الكتب ليقوم بترجمة آلاف العناوين، ويؤدي دوراً غير مسبوق في بناء قاعدة عريضة من المترجمين العرب، وعلاقات وطيدة مع الناشرين العالميين ليترجم أفضل الكتب التي تنتجها دور النشر العالمية. فأصبح مثالاً على الثقافة العربية وما تحتضنه من رؤى تسامحية.

الأنا ــ الآخر: الحوار المتواصل
ويشير د.عبد الهادي سعدون إلى أن الترجمة محاولة الاقتراب لفهم نص الآخر وإدراك قدرته الإبداعية. لهذا تعد الترجمة الخط الموصل بين محصلتنا المحلية ومعرفتنا بالآخر بمحصلته الأخرى. أي الجسر الذي نتعرف على خطوات تشييده من أجل مده وتوسيعه لإدراك الرؤية الأخرى الموازية لرؤيتنا. من هنا يكمن الفرق بين المعرفة المقننة والمعرفة المنفتحة.ويضيف سعدون: مشروع (كلمة) في أبوظبي في أبسط حالاته يضيف قطعة جديدة لجسر التواصل مع الآخر عبر التفاهم والحوار ومد أسس التجارب المعرفية والثقافية والجمالية. أعتقد صادقاً أن كل ترجمة مفيدة وجديرة بالاطلاع ويجب الإشادة بجهد مترجميها، لأنها تعمل على الوصل لا القطع بين الأنا والآخر غير الغريب ولا البعيد عنا.
ويعتقد الدكتور عز الدين عناية أن هناك دوراً جليلاً ملقى على عاتق المترجِم في التقريب بين الحضارات، وبثّ روح التفاهم بين الشعوب، إذ لا يمكن الحديث عن حوار الحضارات، ولا عن تواصل الثقافات، ولا عن التسامح بين الشعوب في غياب الترجمة، مؤكداً تزايد الحاجة إلى الترجمة مع ازدياد انفتاح العالم بعضه على بعض، جرّاء مقتضيات العولمة، ويقول: ربما المترجِم الواقف بين ضفتين، من أكثر المدركِين عن قرب ما للإلمام بالمنتوج الثقافي والمعرفي والعلمي الآخر، من دور في ترسيخ التفاهم بين الشعوب.
إذ ينبني التسامح الحقّ على المعرفة، ولا شك أنّ هناك ارتباطاً عضوياً بين التسامح والانفتاح والترجمة.
ويضيف: لقد كان لـمشروع (كلمة) للترجمة خلال العشرية الماضية ولا يزال، الحضور البارز في الساحة الثقافية العربية والعالمية، حيث استطاع خلال مدة وجيزة أن يمدّ جسوراً متينة بين الثقافة العربية والثقافات العالمية، ما كان لها أن تتحقّق لولا الرؤية البعيدة والمثابرة للراعين للمشروع والساهرين عليه والعاملين فيه.
ويشدد جان دوست على أن الترجمة فعل ثقافي خلاق دأبت الشعوب على القيام به منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، ويقول: تبدو الشعوب الأخرى بثقافاتها وآدابها وعقائدها حصوناً منيعة لا يملك مفاتيح أبوابها سوى المترجمين. ولعلنا نتذكر طفرة الترجمة إلى العربية في العصر العباسي الأول التي تعرف من خلالها العرب على اليونان وعلومهم، فنشأت علاقة معرفية خفية بين الشعبين العربي واليوناني سادها روح التسامح. ثم دارت الأيام وترجم الأوروبيون معظم علوم اليونان المعربة سابقاً إلى اللاتينية، وأصبحوا حاملي شعلة المعرفة وبنوا على الأساس المعرفي نهضتهم الكبرى.
ولعل المثال الأكبر لأثر الترجمة في شيوع ثقافة التسامح وتقبل الآخر هو ما نلمسه لدى الشاعر الألماني غوته الذي يفيض ديوانه الجميل «الديوان الشرقي للشاعر الغربي» بروح المحبة والتسامح والانفتاح على الآخر. أما الدور الرائد لمشروع «كلمة» للترجمة فقد تجلى في ربط الثقافات المعاصرة بعضها ببعض وإقامة جسور صلبة قوامها الكلمات والكتب. لقد دفع هذا المشروع الجبار حركة الترجمة في العالم العربي دفعة قوية إلى الأمام وعرفتنا بثقافات قريبة وجدانياً وبعيدة جغرافياً مما كان له أجمل الأثر في شيوع ثقافة التسامح، سواء في المنطقة أو بين شعوب العالم.

صبحي حديدي: محور يصل ويربط دون سيطرة أو هيمنة
ينظر الناقد والمترجم صبحي حديدي إلى الترجمة باعتبارها «الأبرز بين ما تملك الإنسانية من أدوات فهم العالم»، كما يرى الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، ويضيف حديدي: هذه، بالفعل، خلاصة بسيطة ولكنها حافلة بالدلالات حول تكامل النصوص على نحو عابر للأزمنة والأمكنة، حيث تلعب الترجمة دور الجسر الذي يصل بين لغة وأخرى لا لكي ينقل مفرداتها المعجمية وتراكيبها اللغوية فحسب، بل لكي يتيح للمضامين أن تتبادل التأثير والتأثر، وأن تثقّف تارة وتتثقف تارة أخرى.
لهذا فإنّ فعل الترجمة بوصفه استراتيجية مثاقفة، خاصة في عصرنا الراهن، بات أشدّ أهمية من أن يُرى بمنظار تلك التعريفات التقليدية التي أشاعتها الفلسفة الغربية، في عصر الأنوار أساساً، والتي تناولت تعقيدات الظاهرة من زاوية تقنية في المقام الأوّل، فناقشت مسائل مثل الأمانة للأصل أو التزيّد فيه، ومحاكاة الأسلوب أو الاجتهاد فيه. كذلك يصحّ التشديد على انحسار واسع النطاق لتلك النظرة المثالية التقليدية التي ترى في الترجمة، أو تأمل منها أن تكون، حواراً متكافئاً بين النصوص واللغات والثقافات؛ أو تحصر الترجمة في فنّ التفاوض حول معنى مشترك بين طرفين متقابلين على أصعدة لغوية محضة، دون إدراج التفاعلات الأعمق التي تمارسها مستويات التبادل المختلفة، في الثقافة والتاريخ والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع وما إلى ذلك.
وبهذا المعنى، فإنّ مشروع «كلمة» للترجمة، وعبر ترجمة وإصدار مئات المؤلفات، أسهم مباشرة في إرساء مشروع مكين يرتكز على التثاقف المتبادل وحوار الحضارات. ولقد أضاف، بذلك، لبنة أخرى في معمار جسر الترجمة الخالد الذي يصل ويربط، من دون أن يسيطر ويهيمن.

كاظم جهاد: تطبيق للإيمان بحقّ الاختلاف
ويؤكد كاظم جهاد أن الترجمة بحد ذاتها هي تطبيق حي لمعنى التسامح، ويوضح: تنطلق الترجمة في مِراسها نفسه، لا بل في فكرتها نفسها من نزعة إنسانيّة تعمل على تقريب المتباعد من الشّعوب والثقافات والأفكار والآداب. وباضطلاعها بمهمّة التقريب هذه، بكلّ ما تتضمّن عليه من صدق وأمانة واهتمام جماليّ فائق، تشكّل الترجمة تطبيقاً حيّاً للإيمان بالحقّ في الاختلاف، وتسعى إلى التعريف بالمختلِف تمهيداً لقبوله. لقد أطلق الفيلسوف فولتير في 1763 كتابه الشهير «رسالة في التّسامح»، يدعو فيه إلى العمل بالتّسامح باعتباره استعداداً لأن نسمح للآخَر باعتناق أفكار ومعتقدات قد تُناقض أفكارنا ومعتقداتنا، وذلك من أجل حماية الحياة المشتركة والتعايش السّلميّ بين الجميع. بهذا المعنى لا يعني التسامح، كما يفهمه البعض، أن يتراجع مَن يعمل به عن أفكاره، أو أن يقبل بأفكار الآخَر بحذافيرها، بل ينحصر في القبول بممارسة الآخَر لها في مجاله الخاصّ. هي ممارسة الانفتاح على ما في الآخَر من إنسانيّ وقابل للاقتسام، دون أن يعني ذلك الامّحاءَ فيه، لا ولا الذوبانَ في معتقداته.
الترجمة، من ناحيتها، تمرين مثاليّ لتعلّم التسامح وقبول الحقّ في الاختلاف. يبدأ ذلك بالمترجم نفسه، تقاومه اللّغة الأخرى بمفردات وتصوّرات لا يجد أوّلَ الأمر مقابلها في لغته، وتأتيه بأفكار قد تتناقض وما يؤمن هو أو قرّاؤه به. وبعمله هذا يجعل من ثقافته نفسها ثقافة متسامحة ومنفتحة، وينقل إلى قارئه بذرة التسامح هذه، يفيد منها في عمله، فالقارئ هو أيضاً، من خلال فعل القراءة، عاملٌ يقِظٌ منتِجٌ للدّلالات وطرفٌ رئيسٌ في عمليّة التواصل الفكريّ والأدبيّ.
هذه القناعة الرّاسخة في الحقّ في الاختلاف، وفي رفض مصادرة الاختلاف أو تذويبه، إنّما شكّلت مشروع «كلمة» للترجمة، وبفضلها أمكن العمل على هذه الوفرة الهائلة من الألسن والأنواع والأساليب والنّصوص. فالتسامح لا يعدو أن يكون شعاراً أجوفَ إن لم يتمخّض عن مراسٍ، وإذا لم يكن خالقاً لأنماطِ قولٍ هي في الأوان ذاته أنماطُ فِعل.