آسيا عبدالهادي ربما تكون من الأديبات القلائل اللاتي أبحرن في خفايا المجتمع الأميركي بحكم المعايشة، وخاصة الجالية العربية التي تعيش هناك، وصدمتهم مّما يسمى بالفجوة الثقافية بين مجتمعاتهم السابقة ومجتمعاتهم الجديدة التي تسبب لهم هموما لا يعايشونها في وطنهم الأم وبين أهليهم أو محيطهم الاجتماعي رغم رغد العيش. ففي روايتها “غرب المحيط” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وتضم 224 صفحة من القطع المتوسط، تستند آسيا عبدالهادي إلى المؤرخ الأميركي وينر أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، بقوله أن كريستوف كولومبس الذي اكتشف القارة الأميركية صادف بحارة عربا مسلمين في رحلاته لأمريكا، ويعتقد أن بعضهم رافقوه في رحلته الاستكشافية لما كانوا يتمتعون به من مهارة وخبرة في علم البحار والملاحة ومعرفة الجغرافيا. كما تستند إلى المؤرخ الأميركي باري نيل بقوله أن مجموعة من التجار العرب وصلت إلى الولايات المتحدة الحالية وتزاوجت مع قبائل الهنود الحمر، وأورد أسماء عربية لبعض القبائل مثل مكة ومنى وأحمد ومحمد والمرابطين، في حين يقول المستشرق الإنجليزي دو لاسي في كتابه “الفكر العربي ومكانه في تاريخ الغرب” أن المسلمين وصلوا أمريكا عام 1312. شخصيات واقعية ويستشف من قراءة الرواية أن شخصياتها حقيقية عايشتها الكاتبة تماما أو أنها كانت قريبة جدا من التفاصيل، فالوصف الدقيق لمشاعر انبهار عائلة عربية مهاجرة تهبط لأول مرة في مطار نيويورك “التفاحة الكبيرة” كما يطلقون عليها ليس متخيلا ولن يكون، فالصور البلاغية المستخدمة تدل على أن الروائية تصف ما تراه بعينها وتعبر عن مشاهداتها بصدق يفوق الخيال وربما تكون الرواية رحلة في الذات أو الأنا للكاتبة في ترحالها أو إقامتها بالولايات المتحدة. وبأسلوب أقرب ما يكون للسهل الممتنع تصف الكاتبة مشاعر “فائق أبو سند” الذي حصل على هجرة للولايات المتحدة لتعلو عنده درجة التذمر من واقع مجتمعه “كل شيء مزيف”، “ما في مستقبل”، “مش ممكن خليّ هالحكومة تنهب جيوب الفقراء وخليّ هالأغنياء يزيد غناهم وتكبر كروشهم أكثر”. وتروي الكاتبة حوارا بين مجموعة من الأصدقاء حاولوا إثناء “أبو سند” عن الهجرة لأمريكا مذكرينه ببعض التصرفات “البوس في الشوارع”، “الولد قد البيضة يتعبط بنت وقال يا سيدي بوي فرند وجيرل فرند”، لكنه يمضي في أحلام الهجرة “البلد غني والواحد يعمله قرشين مناح.. هل تذكرون صديقنا “مراد” الذي سافر وأرسل لأهله وبنى واشترى الأراضي والمحال التجارية وضمن مستقبل العائلة كاملة” دون أن يعرف كيف جمع الفلوس. مفاهيم وقوانين الرواية تجيب على سؤال ما زال يتردد: “لماذا أخفق العلماء العرب المقيمون بأمريكا والغرب رغم انجازاتهم الكثيرة في تغيير نظرة هؤلاء أو على الأقل التأثير عليها؟” وتتعجب كيف لحضارات كاذبة مختلفة لم تترك للبشرية سوى القهر والدسائس وسفك الدماء أن تفرض نفسها وسيطرتها في حين يدار الظهر لأمم صنعت المعجزات في عصور كان الغرب ما زال ينظر للمرأة على أنها سقط متاع تباع وتشترى كالدواب!. رحلة المهاجرين لأمريكا تبدأ بتغيير المفاهيم وفق الرواية فمن غير القانوني مثلا استخدام كلمة “عبيد” للزنوج وإلا يواجه مستعملها تهمة العنصرية وقد تقوده للسجن، وعليهم استخدام كلمة الملونين أو “الأفرو ـ أمريكان” لتبدأ الصدمة الأولى في البيت الصغير وقذارته “أين ينام الأولاد”، “عفاريت أمريكا وهنودها الحمر تتراقص أمامي الآن” تقول سهيلة باستهزاء وتذمر ونغمة ندم. الروائية تمزج في كتابتها بين الفصحى واللهجة المحكية مما أعطى القراءة طعما خاصا، فقد أعادت لنا مصطلحات لا تقال إلا عند الغضب “اغرب عن وجهي.. روح أعمل مثل جارك “العبد” أي الزنجي اللي أمامك قاعد بيدخن في الحديقة والمرة (أي المرأة) اللي ساكن معها بتشتغل وتتعب وبطعميه”. أول صدمة وتصف الروائية بأسلوب سردي متمكن ورفيع المستوى لحظة وصول الابن “مهند” برفقة صديقته الأمريكية السوداء للبيت التي وصفتها والدته “سهيلة” بصاحبة “البراطيم الكبيرة” أي الشفايف الغليظة، وكيف ناقشته ورفضت تبريره خصوصا أمام أخواته البنات لكنه أصر على اصطحابها باعتباره “أمريكي”، وهدد إذا لم تسمح لها بزيارتهم فسينتقل إلى بيتها.. ليحضر السؤال: لو أحضرت الابنة “مرام” صديقها للبيت كما يجري في المجتمع الأمريكي ماذا سيكون ردها؟. الرواية “غرب المحيط” تطرح قضية حساسة في مجتمع المهاجرين مفادها انه “يمكن أن تفعل ما تشاء في بلد لا أحد يعرفك فيه” وفلسفته بالحياة “إذا اشتغلت أكلت وإذا لم تشتغل لن تأكل” فالغربة وفق الرواية تسقط الكثير من الكبرياء والهيبة فسهيلة المدرسة المحترمة في بلدها وأجمل وأشيك بنات جنسها اضطرت للعمل “خدامة” تنظف البيوت والحدائق وكي الملابس وتعتني بأطفال العاملات. المبرر الذي قدمته الروائية قد يكون مقبولا وهو ما يجري على الألسنة في الغالب تحت يافطة الواقعية “حتى لا نمد أيدينا للناس” هذه هي الغربة وأيامها.. لا أريد أن ادفن رأسي بالرمال وأكذب.. نحن في ورطة ولا نملك المال للعودة للوطن” في إشارة واضحة للخطأ الذي وقعت فيه وهو الهجرة لبلد الأحلام لجمع الدولارات. وتكاد الخشية على الأولاد وخاصة الفتيات من الانخراط في مجتمع الفرص قضية القضايا بالنسبة للجاليات العربية في أمريكا، فعاداتنا وتقاليدنا لا تسمح بالاختلاط غير المسؤول كما يحدث في أمريكا، ولهذا أوردت الكاتبة حوارا بين “سهيلة” التي تكاد تكون بطلة الرواية وزملائها أثناء استضافتها لهم بمنزلها وهي بالمناسبة شخصية حقيقية كما يبدو حول العادات العربية التي تركز على الإخلاص المتبادل بين الزوجين وتحريم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، وان بناتها تألمن عندما وزعت عليهن الواقيات مع الكتب والدفاتر المدرسية.. العريس إذا وجد عروسه غير عذراء يعيدها لمنزل والدها وسط استغراب ودهشة الأمريكيين من هذه العادات. ومن الطريف أن تستغرب الأمريكيات كيف أدخلت الأرز في الكوسا! وأخرى استغربت إن كانت حبات الكبة تجمع عن الشجر! فهذه الأكلات مستغربة في بلاد الوجبات السريعة التي تتماشى مع طقوس حياتهم السريعة أيضا. انحياز للمرأة وفي بلاد الغربة تثور الأسئلة الصعبة دون استئذان وخاصة عندما تقع المشاكل في مجتمع مخيف وفق الرواية “الله يلعن الغربة يا رجل.. أولادنا تسربوا من أيدينا.. عادات ما أنزل الله بها من سلطان.. نحن محشورون في زاوية.. والله ما أنا عارفة شو جابكم على هالبلاد”. ويلمس القارئ من بين سطور “غرب المحيط” ميل أو انحياز للمرأة ضد الرجل وتقديمها بصورة المنقذ، وهذا ما دأبت عليه عدة روائيات في الآونة الأخيرة كليلى الأطرش “البنت العربية ست النسوان” فسهيلة تتحمل مسؤولية الأسرة فهي التي حصلت دورة تدريبية للتعليم “الأولاد يكبرون ومتطلبات المعيشة تزيد وعمل الزوج “فائق” لا يكفي للقرود مونة”. ا لرواية تقتحم عالم الشباب العرب الذين ينهون دراستهم الجامعية ويريدون البقاء في أمريكا بزواج مصلحي أو صوري حسب الروائية من فتاة تحمل الجنسية ويطلقونها عقب حصولهم على مرادهم ويكون مصيرهم التسفير أو السجن إذا كشفت زوجاتهم السر. وتورد الرواية قصصا مذهلة لتفكك العائلات الأمريكية وكيف تنتقل الأمريكية من رجل لرجل والخيانة الزوجية المنتشرة هناك، وشباب عرب اضطروا للزواج من مدمنات على المخدرات، والحب بين شابين من طوائف دينية مختلفة، كما تطرح قضية الشرف في مجتمع لا يثير اهتماما لهذه القضية. “مرام” تخرج من الجامعة برفقة شاب أجنبي يتضاحكان ويسيران جنبا إلى جنب بانشراح “يا خوفي وقعت الفاس بالراس.. فضيحة.. جلطة أم سكتة قلبية”. السياسة حاضرة وتفرد الرواية صفحات عن طريقة زواج العربيات هناك حفاظا على العذرية والشرف والتمييز العنصري ضد العرب، حتى الزوجات الأمريكيات “تريد مني أن أحمل وألد وأخرب شكلي وجسمي من أجل هذا العربي”، وحكاية المليونير العربي الذي وفّر لزوجته كل أسباب الرغد والرفاهية وتركته فور خروج حبيبها عضو المافيا من السجن، والأثرياء الأمريكيين الذين يتبرعون بثرواتهم للكلاب والقطط. ولم تكن السياسة بعيدة عن حديث المجالس والسهرات والعزائم وفي هذا الشأن تتحدث الرواية عن شخصية سياسية أطلقت عليه “نعمان” الذي أصدر جريدة “العربي” لمقارعة الصهيونية وتصحيح الصورة “أمريكا أذلتنا ومسحت بنا الأرض”، “لماذا لا نكتب ونصرخ كما يفعل اليهود للتأثير على مواقفهم”، “يحصون علينا خطواتنا.. حتى مكالماتنا مراقبة”، وكتب مؤلف “الوجه القبيح للأيباك” التي تصنف بأنها أهم وأخطر منظمة صهيونية ويعود لها الفضل في كل ما يحصل للعرب من مآس والاستعداد الدائم لرفع بطاقة “معاداة السامية” لمعاقبة المعارضين لها وفق الرواية. وترصد الرواية بدقة متناهية كيفية تصرف الأمريكيين تجاه الغير وهم يشاهدون الطائرات تغير على مركز التجارة العالمي “الرعب يكسو الوجوه.. والصراخ والعويل يملآن الأسماع.. وردود أفعال العرب الذين اعتبروها بداية تدمير العراق،، من يجرؤ.. أرادوا تقليم أظافر أمريكا الطاغية المستبدة” حسب الرواية. باختصار يمكن القول أن الروائية آسيا عبدالهادي استطاعت الإبحار داخل مفاصل المهاجرين العرب في بلاد السمن والعسل وتوثيق حياتهم كما هي دون ماكياج أو رتوش بأسلوب سردي جميل وضعها على الخارطة الروائية العربية باقتدار.