قال محمد خميس بن عبود النقبي وكيل إحدى مدارس خورفكان وأحد الباحثين في التراث والتاريخ والآثار والتوثيق، ولديه وثائق ومخطوطات مهمة، إن الحياة في الماضي كانت تتميز بنكهة مختلفة، حيث كان نظام المعمار بسيطاً، إما من اللبنة المخلوطة بالحجر والطين والقش، وإما من خوص النخل وجريده أو سعفه، مشيراً إلى أن المكان كانت تنبعث منه فقط الروائح الطيبة خلال الشهر الكريم. وأضاف: لأن مدينة خورفكان كانت تنقسم إلى حارات، فإن كل حارة كانت تجتمع مع بعضها، وذلك بعد أذان المغرب من أجل الإفطار، في تجمعات عائلية تعد جسراً للتواصل الاجتماعي، ولم شمل الأسرة، بعيداً عن التصدعات التي أصابتها خلال الفترة الحالية، وغرق بعض أفرادها في أمواج العولمة، وتأثرهم بأجهزة التكنولوجيا، التي فرقت، بين أفراد الأسرة. (خورفكان)- قال محمد خميس النقبي إن الأطفال كانوا يخرجون عقب صلاة العصر للعب معاً، وبعد أن تنتهي الأمهات من إعداد الإفطار تنادي كل أم على ولدها أو ابنتها كي يذهب أوتذهب بأطباق الحلوى أو الثريد أو الأرز إلى الجيران، وعندما يحين أذان المغرب يأتي كل رجل بإفطاره ويفطر الرجال جماعة، ويتم أيضاً مد مائدة عند المسجد تفطر عندها مجموعة من الرجال، ويفطر معهم كل عابر سبيل والعمال البسطاء الذين أتوا من دول أخرى للعمل في المنطقة. وتفوح من مدينة خورفكان الساحرة، رائحة الماضي المحملة بالأحداث والشجاعة، خاصة أن التنقيبات التي أجريت، ثبتت أنها كانت مأهولة قبل أربعة آلاف سنة، حيث يقول النقبي إن خورفكان كانت مسرحاً للأحداث في الماضي، وبتقادم السنين اكتسب أهلها خبرة دفاعية، ولذلك كانوا من البواسل عندما طمع فيها البرتغاليون، بقيادة الفونسو دلبوكيرك، وقاوم الأهالي ذلك الغزو، وانهارت مقاومة البرتغاليين وألحقوا بهم خسائر كبيرة. خورفكان من المناطق التي هاجرت إليها القبائل وفي مقدمتها النقبيون وذلك منذ عدة قرون، وهم قبيلة كبيرة ممتدة من رأس الخيمة ومكانهم في خت والعريبي والفحلين، إلى من جاؤوا من دبا والحاير والولية والزبارة ومنهم من يوجد في حصي والنحوة وشيص ومنهم في دفتا وكلباء، وهناك نقبيون في سلطنة عمان، في مدينة صحار والخابورة والرستاق، وأيضاً من أولى القبائل التي سكنت في خورفكان قبيلة البلوش ثم الحماديين والحواسنة، وأيضاً يوجد في خورفكان من الشحوح والمناصير والنصور والسودان، وكلهم قبائل وليسوا أفراداً. تضافر الجهود ويكمل النقبي: هناك أفراد سبقوا تلك القبائل في استطيان أرض خورفكان، لكن تضافرت جهود الكل وسخروا الإمكانيات وانصهر الجميع في تكوين جيل أصبحوا كلهم أبناء خورفكان، وتخرج منها أبناء وبنات أصبحوا رموزاً وقيادات في مختلف الميادين، وأصبحت الدولة تفخر بهم، وكان مصدر رزق الأغلبية من البحر، سواء التجارة عبره أو الصيد أو الغوص من أجل اللؤلؤ، ولا يزال البحر أحد المظاهر الرئيسية في حياة أهل خورفكان والإمارات أيضاً. وقال إن أجدادي قد سكنوا في الحارة الشرقية، التي تقع حاليا قرب ميناء خورفكان، وقام جد والدي واسمه علي بن عبود النقبي، ببناء ثلاثة مربعات «أبراج» على نفقته خلال سنوات حياته، واحد منها قرب مزرعته وتسمى مرزعة «الجد سكايوه»، ويقال إنه اسم لجنية تسكن المكان ويسمع صوتها من يدخل المزرعة مساءً، والبرج الثاني على مرتفع نخل البيضاء، والثالث يقع على البحر بالقرب من منزله. وأشار إلى أن والدته أخبرته بأن الجد كان يستضيف شيوخ القبائل، وهناك إحدى الآبار التي كانت موجودة ولا تزال، حفرها جده، طوي القندة، والقند هو نوع من أنواع السكر، وقد جاء أحد الأشخاص المهمين في زيارة وحين تذوق ماء تلك البئر قال: “تو هاي شروى القنده”، بنبرة تعجب وتعني هذا الماء مثل طعم السكر، هناك أيضا بئر أخرى قام بحفرها جده ولا تزال موجودة إلى اليوم يطلق عليها بئر الفؤاد من شدة برودتها، لأن من يشربها صيفا يشعر ببرودتها تعبر بجوار القلب، وكانت بئر أو طوي القندة لا تستخدم لمزرعة جده إنما هي سبيل لكل عابر ولأهالي المنطقة، وكان قد تقرر هدمها، لكنه قال: اذبحوني ولا تدفنوا تاريخا وأثرا مشهورا لدى أهالي خورفكان، وقد حصلت على تصريح عملت بموجبه على تأمينها بسور يحمي كل عابر في المنطقة. التجارة وأضاف: جد والدي علي بن عبود كان قد قسم أبناءه إلى فئات مهنية لحكمة لديه، فواحد منهم يسافر إلى حدود سلطنة عمان للتجارة، وأحدهم كان قد جعله يختص بصيد الضغوة، وآخر خصصه للعمل في الزراعة وكان يعمل تحت يديه مجموعة من البيادير وهم مزارعون يعملون بأجر، ومنهم من كان يسافر لكن بالبر إلى بقية الإمارات للتجارة، وكان جدي يملك الكثير من الإبل ولكل منها دور أيضا، أما محمد فهو جدي ووالد والدي فقد سلك مسلك والده، وسار على نهجه نفسه في تربية أبنائه ومنهم والدي، وقد نشأ والدي تاجراً يسافر على السفن التجارية ويصل حتى البصرة في العراق، ليبيع بعض المنتجات ويأتي بسلع من البصرة، وقد تزوج والدي في الثامنة عشرة أو ربما في العشرين، وكان مسكنهم في الشتاء في الحارة الغربية قرب البحر، أما في الصيف فينتقلون إلى قرب المزارع، حيث المياه الوفيرة والثمار اللذيذة والبرودة المناسبة. وأكمل النقبي: عندما ولدت كان يوم الجمعة في ربيع الأول عام 1965 تحت أكبر شجرة في خورفكان اسمها اللمبوة، وتقع قرب طوي القندة، كما كان يوجد قريبا منها عريش أو كما يقال كرين، وكان التعليم متوافرا في مدينة خورفكان وكان والدي محبا للتعليم، وقد قال لي لقد فاتني التعليم، فلا تجعله يفوتك، وحب والدي للتعليم ليس غريبا، فقد كان من أشهر الرواة وهو قصصي ويحفظ الأهازيج والشلات. وكان الجيران راشد الصم وسليمان بن راشد وسليمان بن محمد وراشد بن عبود، وهم أصحاب رأي يؤخذ به ولديهم الحكمة ولذلك يرجع إليهم الكثيرون للمشورة، وقد كبرت وسط تلك الحالة من الحكمة والعمل والمحبة والوفاء بين الأهالي، وكنت أساعد والدي في كل شيء حتى في أيام المدرسة، وكانت بدايتي مع التعليم في مدرسة ابن ماجد المشتركة، ثم مدرسة المهلب ابن أبي صفرة، ثم مدرسة الخليل ابن أحمد الفراهيدي، وكانت هناك وسائل للنقل، ولكن عندما لا تتوافر كنت أركب مع أصدقائي على حامل الحفارة أو الشيول، فيحملنا مسافة كيلومترين تقريبا. وقال: كنا نخرج بعد صلاة الفجر إلى المدرسة وفي الطريق نجد الناس يخرجون أيضا، فنترافق ونتحدث مع بعضنا حتى نصل إلى المدرسة، وتعد تلك فترة مبهجة عند الصباح، حتى وإن كان البرد شديدا أو في الصيف، وفي مواسم الأمطار، كانت تعترضنا الأودية التي تأتي سريعة فتعبر الطريق، وكان المطر من شدته قد يقطع طريقا بين منطقتين ويبقى غامرا المكان، لمدة يومين لا يتواصل خلال تلك الفترة أهالي المنطقة. ماء المطر وتابع النقبي: غدير الماء الناتج عن المطر ربما يكون فيه تعطيل وضرر للكبار، لكن بالنسبة للأطفال كان خوض تلك المياه متعة لا تعادلها أية متعة اليوم، وكنا نكرر ذلك بشكل يومي حتى تجف المياه، ومن أصدقائي الذين شاركوني اللهو علي علوان وشقيقه عبدالله وراشد الضعيف ومحمد الكابوري، وأيضا خميس وراشد بوغازيين وسالم الجروان وعبدالله سالم المطوع، ولا أنسى من أصبح فناناً وهو علي الشالوبي وخميس الفحل وخميس بوضيمة. وأشار إلى أن الأمطار التي كانت تسقط على خورفكان قديما، كانت غزيرة لدرجة أن الأهالي كانوا يقولون إنهم يشعرون بالرعب والخوف من الغرق، لأن مدينة خورفكان في بقعة منخفضة، وكأنها حفرة عميقة، ولذلك حتى الأمطار التي تسيل من الجبال تتلاقى مع تلك الآتية من الأدوية من كل صوب، حتى إنهم كانوا يقيمون الأذان ويدعون الله أن يوقف عنهم المطر، وأن ضواحي أو مزارع خورفكان كان يطلق على الواحدة ضاحية، لكن تلك المزارع كانت تقام بطريقة تبرز من خلالها الهندسة والعمارة، حيث يقام حولها سور من حجارة الجبل المرصوصة بشكل منسق، ويتم توفير مكان لحصاد الغلة الخاصة بكل موسم، مثل البصل والحبوب وكانت بيوت أهل خورفكان القديمة دائما ما تتوافر بالقرب منها حظائر لمواشيهم، حتى الغزلان والطيور والدواجن. وبين أن تلك الطريقة في العمارة كانت تحميهم من الحيوانات المفترسة مثل الثعالب والذئاب والنمور، وحتى من الكلاب غير المستأنسة، وكانت لديهم طرق شعبية في إعداد المصائد، لكن كل ذلك جعل من حياتهم حياة مستقرة وآمنه، كما اهتم الأهالي بزراعة النخل، واستخدموا الثور والدلاء في عملية الري على اليازرة، ومن أحلى أنواع الرطب القشوش. إضاءة قال محمد خميس بن عبود النقبي: تابعت حياتي الدراسية حتى تخرجت في جامعة الإمارات، وأصبحت معلماً ولا أزال أعمل في مجال التعليم، وتمر علينا أجيال ويصبح لبعضهم شأن كبير، لكن يبقى المعلم على حاله، وحسب قوله: أنا معلم أنا سلم ولقد عبر الناس من فوقي وبقيت أنا سلماً.