نسرين درزي (أبوظبي)

زيارة قصر الحصن هذه الأيام ليست كسابقاتها بين الأحداث الضخمة التي استضافها ونظمت عند أرضه على مر السنين، فالصرح العريق على قدم بنيانه وسعة ساحاته يتوهج في أبهى حلة محتفياً بالشكل والمحتوى بـ «مهرجان الحصن» الذي يحمل اسمه ويثبته في ذاكرة الوطن ركناً أساسياً.
حراك مجتمعي لافت ومشهدية تراثية تحاكي في كل ركن فيها حقائق وجدانية عن تاريخ الوطن تماماً كما هو محفور في وجدان أبنائه وفي حرصهم على نقل أمانة الموروث ثروات فارهة وشعلات تضيئ كل الدروب لاستكمال المسيرة باتجاه أضخم الإنجازات وأكثرها تألقاً، من 12 إلى 19 ديسمبر الجاري في قلب أبوظبي النابض.

دكاكين سعفية
الوصول إلى باحة القصر المتكئ على 255 عاماً يكشف من كل الاتجاهات ملامح السوق الشعبي الممتد بدكاكينه السعفية على مساحة شاسعة في قلب الحدث.
ومن خلفية عمرانية آسرة حيث الواجهة الطينية البيضاء، تطل الأحياء العتيقة بكل تفاصيلها الساكنة بين الممرات وعلى الرمال وما شهدته من أثار خطوات لأعيان وأجداد وآباء رحلوا وبقيت عاداتها معلقة في إرادة شعب لا ينسى ماضيه. حراك مجتمعي على أبواب 2020 يعيدنا بالزمن عقوداً طويلة إلى الوراء غير غافل عن جزئية واحدة مارسها الأولون في يومياتهم وعباراتهم التي استخدموها في أمور البيع والشراء لأدوات ومواد تقليدية تعاقبت عليها الأجيال وحفظتها كما الجوهرة من الاندثار. محادثات أصيلة لإماراتيات وإماراتيين أتقنوا حقاً حرف القدماء ومسمياتهم فحضروا إلى المكان بكامل معداتهم تماماً كما كانت عليه قديماً ليعرضوها كما لو أن الزمن لم يمر عليها من قبل. ملابس شعبية بخيوط الجدات ومشغولات من الخوص وجرار لحفظ الماء وأوان معدنية بصبغة ملونة خاصة للطعام والشراب والضيافة. مهفة وصرود ومكبة وراديو خشبي وعصي مزركشة وأكسسوارات نسائية منقوشة برسوم تراثية وأدوات زينة مستوحاة من شجرة النخيل بجذعها وسعفها وثمارها.

روايات الباعة
على وقع عروض اليولة والعيالة المتنقلة في مهرجان الحصن بين المسرح الخارجي وعلى مقربة من الدكاكين الشعبية، تحضر أمام المتجول باتجاه الحي الشعبي، كل مشاهد الماضي الذي أكثر ما يتجلى في حضرة «الحصن» المنيع، أصوات المارة وحركة السوق وطريقة توزيع منصات البيع في إطلالات مباشرة على بعضها البعض، كلها مؤثرات إيجابية تزيد من فضول الزائر بخوض تجارب حسية أكثر لاقتراب من الماضي البعيد بالزمان والمكان، وهنا حكايات كثيرة يرويها الباعة والعارضون من حافظي التراث والعاملين على توريثه لأفراد المجتمع ومكوناته من سكان وزوار.
من داخل دكانها المشع بالسلال والذهب وأكسسوارات العروس والولادة، تحدثت عايشة مبارك سالم الجابري عن شغفها بالمشاركة في المهرجانات التراثية التي تظهر عراقة المشغولات المحلية.
وقالت إن تعاونها مع فعاليات «الحصن» يأتي من حرصها على إكمال مسيرة الأقدمين ولاسيما أننا نعيش في عصر نحتاج معه إلى العودة للأصالة بالمعنى الحرفي للكلمة، وقد اختارت الذهب لأنها منذ صغرها معجبة بالتصاميم التي تختارها الجدات لما فيها من خطوط وخيوط متشابكة. وهذا ما تعرضه في دكانها مرتكزة على المعادن الثمينة المطلية ذهباً والتي ترسم معظمها بنفسها كنوع من الهواية.
على بعد خطوات أخبرتنا سمية القبيسي من داخل محلها كيف تجمع في جعبتها كل أنواع الأقمشة ومطرزات التلي. وذكرت أن الثوب التقليدي الذي لطالما وجد في خزانة كل أم إماراتية، يعود هذه الأيام لينضم إلى مجموعة أثواب بنات الجيل الحالي اللاتي يتباهين به تماماً بمسمياته الأولية. وعددتها قائلة: «اللي ما له أول ما له ثاني»، لذلك تعرض أقمشة «البوتيلة» و«البوطيرة» و«البونفيفة» و«درب الموتر» و«بن سيعة» و«بو الللحيان» و«بو قليم» و«صالحني» و«رفرف».
بالحماس نفسه روت ميساء المزروعي قصتها مع العمل في مجال التراث وتعاونها الدائم مع «قصر الحصن» ضمن مسيرة الحفاظ على أدوات الأجداد والجدات ونقلها بأفضل صورة للنشء الجديد. واعتبرت أن الإصرار على التمسك بالتقاليد لا يعني العيش في الماضي وإنما يؤكد صور الاعتزاز به كقيمة وطنية تنقل للأجيال بكل محبة وحرص، وهذا ما تحاول فعله من خلال معروضاتها الشعبية ومن ضمنها الملابس التراثية وأنواع الدخون والعطور وكل ما يتعلق بها من أكسسوارات لا تزال تستعمل بالطريقة نفسها.

«حِب» و«مغمرة»
من الجهة المقابلة للفريج الشعبي نفسه من داخل مهرجان الحصن، ذكرت فاطمة خلفان الهاملي أنها تتباهى بالشرح أمام الزوار كيف تصنع خلطات البخور وتمزجها بأكثر من نوع من العطور والمطيبات. وقالت إنها تعرض في دكانها الملتف بالدخون، كل ما يحتاجه البيت الإماراتي لتفوح منه رائحة الزمن الجميل. وهي ترتكز في خلطاتها على العود والبخور والعطور والمسك، وتفرق بين الأصناف العربية والفرنسية، كما تعلم الضيوف كيف يستخدمون المرشة القديمة لتعطير الملابس والمفارش والأسرة تماماً كما كان سائداً في المجتمعات المحلية الباقية على عاداتها منذ زمن بعيد.
عند ركن كاشف على أجمل إطلالات «الحصن» كان واضحاً اهتمام مريم مسرّي الهاملي بأدق مكونات الحياة سابقاً. ومن على شرفة بسيطة خارج دكانها كانت تتحرك بثقة عارضة كل منتجاتها اليودية من رزق عزبتها. وتحدثت كيف تصنع دهن البقر ودهن الغنم، وكذلك خلطات التمور المحشوة بالمكسرات والكعك والهيل. وذكرت أن أجمل ما لديها عدا عن أدوات السعف والخوص والتلي، «الحِب»، وهي جرة تراثية كان يحفظ فيها الماء بعد تبخيره ليبقى بارداً. وأشارت إلى قطعة نادرة تحافظ عليها منذ زمن بعيد، وهي «المغمرة» المشغولة من السعف، والتي كان التمر ينثر عليها لتجفيفه من الماء بعد غسله وقبل تحضيره للهرس. وقالت إن هذه العملية كانت تستغرق 3 أيام متتالية، وعندما يجهز التمر ويصبح ليناً يحفظ داخل «اليراب».
وبالوصول إلى الدكاكين التي يتكاثر عنها الرجال، ذكر عبدالله عبدو من «بيت الحرفيين» ضمن قصر الحصن، أن السوق الشعبي يجذب إليه الجمهور من مختلف الجنسيات ومختلف الأعمار. وقال إنه يعرض قطعاً متفردة تستحق المشاهدة، مثل نماذج مصغرة عن السيارات الكلاسيكية المعروضة في باحة المهرجان، وساعة يدوية بسلسال ذهبي، كالتي كان يحملها المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، ومجموعة نظارات شمسية سوداء كان موديلها سائداً ويكاد يكون الأوحد لفترات طويلة من الزمن القديم.
وأكثر من ذلك، فهو يعرض قطعاً متنوعة يستعملها الجيل الجديد مصنوعة من السدو والخوص، مثل حقائب اليد الصغيرة أو حافظات الـ Airpod وسواها.
ومن داخل دكان سالم الكعبي «بيت القصيد للحلوى»، تحدث عن شغفه بتحضير أصناف الحلوى الشعبية مع إضافات ونكهات عصرية. وذكر أنه يعرض أمام جمهور مهرجان الحصن حلوى «الروز» بالمكسرات، للدلالة على ضرورة المزج بين الأصالة والحداثة لكل ما هو عريق لتقريبه إلى الجيل الجديد. وأكد أنه من الأشخاص الذين يفاخرون بتاريخ الإمارات وموروثها الشعبي، إلا أنه مع فكرة دمج القديم بالجديد لتحقيق أكبر قدر من الانتشار بين الفئات العمرية كافة.

مبادرات إبداعية
بهذه الأجواء المجتمعية المتنوعة من داخل السوق الشعبي تشهد المساحات الخارجية لقصر الحصن خلال فترة المهرجان إحياء عناصر من التراث غير المادي لأبوظبي عبر تقديم عروض حية تشمل الحرف والمهارات التقليدية من خلال فعالية «التراث الحي». ويعرض الحرفيون مهاراتهم في صناعة عدد من الحرف القديمة التي تشمل صناعة السدو والغزل والحنة، ويتاح للزوار اختبار العطور والألوان والأنسجة التقليدية في السوق المقامة في الهواء الطلق ومن داخل الخيم البدوية. وتترافق هذه البرامج مع تنظيم جولات تعريفية وعروض أداء تقليدية، إلى جانب معرض «الرحول» للسيارات الكلاسيكية الذي يستكشف التغييرات التي طرأت على وسائل النقل على مر التاريخ. وتجمع فعاليات المهرجان ما بين التقاليد القديمة والمبادرات الإبداعية ووجهات النظر الفنية الملهمة وعروض الفنون الأدائية ومن ضمنها: السوق الشعبي،
والمتحف الحي الذي يعيد تقديم ملامح من الحياة اليومية لبعض الشخصيات التي عاشت بين أركان قصر الحصن في القرون الماضية وورش عمل حول الحرف اليدوية تتغنى في المهارات النسائية من مهارات غزل الصوف وبعض الأساليب الحرفية المبتكرة.

مجالس شعبية
منذ اليوم الأول لبدء فقرات مهرجان الحصن، كان اللافت تجمع الضيوف في حلقات رجالية ونسائية تؤكد أن الهدف من الزيارات المتتالية الاستمتاع بالموقع وقضاء وقت مفعم بالقيمة برفقة الأهل والأصدقاء. وما بين التجول بين أحياء السوق الشعبي ومعارض المجمع الثقافي والأعمال الإبداعية المنتشرة هنا وهناك، ومع انتظار مواقيت العروض المسرحية، فإن المحطة الأساسية التي ينتقل الضيوف منها وإليها هي تلك المجالس المفتوحة على الهواء الطلق. مجالس شعبية بامتياز تتوسط باحة القصر لتشكل ملتقى يجسد عادات تبادل الأطباق في أجمل صوره. تماماً كما كان يحدث في الماضي وحتى اليوم داخل عائلات كثيرة تحرص على قيم الأولين وأصالة سماتهم وصفاتهم. والجلسات التقليدية الموزعة بشكل دائري، ومنها على الأرض أو حول الطاولات، شهدت على مدار أيام المهرجان إقبالاً كبيراً من العائلات. واللافت تردد الأجانب إليها ممن كانوا فرحين بشراء المأكولات التراثية للاستمتاع بتجربتها وتناولها سوياً بحسب الأجواء الإماراتية.

فنون بصرية
يستضيف قصر الحصن باقة من معارض الفنون البصرية التي تستهوي أكثر من جيل في آن، وأكثرها تنوعاً معرض الفنانة الإماراتية نجاة مكي والفنانين الذين ألهمتهم بأعمالها ممن تأثروا بدورها الريادي في تطوير المشهد الفني في دولة الإمارات، ومن وحي المزج بين الحاضر والماضي، تخصص للأطفال ورش عمل عن العلوم والتكنولوجيا والقراءة والهندسة والفن والرياضيات من تقديم مكتبة أبوظبي للأطفال.