يدر شهر رمضان الكريم خيراته على عشرات الآلاف من العائلات الجزائرية الفقيرة أو محدودة الدخل، حيث تغتنم فرصة هذا الشهر لممارسة مهن رمضانية شتى تكسبها مداخيل معتبرة لا تحققها طيلة أشهر السنة، بالنظر إلى زيادة الاستهلاك الشعبي في رمضان والإقبال الواسع على مجموعة من المنتجات الرمضانية، وفي مقدمتها خبز الدار المعروف محلياً بـ«المطلوع» و«الديول». تتعدد المهن الرمضانية في الجزائر، فمنها بيع الحلويات وفي مقدمتها «الزلابية» و«قلب اللوز» و«الصامصة» في محلات عديدة تغيِّر نشاطها كلما حل رمضان، أو على طاولات فوضوية ينصِّبها أصحابُها في الأماكن العامة وفي مداخل الأسواق الشعبية حيث تكثر الحركة، ومنها بيع «حشيش الشربة» والفواكه الصيفية والمشروبات وغيرها من السلع التي يكثر الإقبال عليها في رمضان لاسيما «المطلوع». الورش المنزلية «عميدة» المهن الرمضانية وأكثرها رواجاً على الإطلاق هي بيع «المطلوع» وأرغفة منزلية أخرى مشابهة تسمى «الكَسْرة» وكذا «الديول» الذي تحضره السيدات في البيوت. ويقبل الجزائريون في رمضان على استهلاك «المطلوع» أساساً ويعزفون في هذا الشهر عن تناول الخبز العصري الذي يحضر في المخابز، إلا في حدود ضيقة ويفضلون عليه «المطلوع» وبقية أنواع الأرغفة المنتَجة في البيوت، ويتم تناول هذا الرغيف مع «الشوربة» أو «الحريرة» ولا معنى لهذين الطبقين دونه. وانطلاقاً من إدراكهن لمكانة «المطلوع» لدى الجزائريين في رمضان، تقوم السيدات، وفي مقدمتهن الأرامل ومُعيلات الأسر، وكذلك من أبتليت بزوج مهمِل أو عاجز عن العمل، بتحويل بيوتهن إلى ورش أو ما يشبه المخابز التقليدية لإنتاج «المطلوع» ومختلف أرغفة «الكَسرة» طيلة رمضان. ومع أنهن يقمن في الواقع بتحضير هذه الأرغفة طيلة أيام السنة وبيعها في الأسواق حتى أنها تكاد تكون مورد رزقهن الوحيد، إلا أنهن يضاعفن إنتاجها في رمضان بشكل لافتٍ للانتباه لكثرة الإقبال الشعبي عليها. وتقوم السيدات بالبدء بتحضير هذه الأرغفة منذ الفجر لضمان مدخول جيد طيلة اليوم، ويتراوح عدد الأرغفة التي يتمكن من تحضيرها بين 120 إلى 200 رغيف «مطلوع» و»كَسْرة» طيلة اليوم، وهذا مقابل 20 إلى 25 رغيفاً فقط في باقي أيام السنة، بحسب سمير، 11 سنة، وهو أحد الأطفال الذين يبيعون «المطلوع» في سوق الرغاية (30 كم شرق العاصمة)، حيث يصطف هناك العشرات منهم لبيعه ابتداءً من فترة ما بعد الظهر تقريباً إلى غاية ما قبل الإفطار، وهو ما يمكّن أمهاتهم من جني أرباح كبيرة تصل إلى 5 آلاف دينار جزائري يومياً، أي 150 ألف دينار في شهر رمضان (نحو 2100 دولار أميركي)، وهو مبلغٌ كبير لملايين الموظفين محدودي الدخل. مشهد رمضاني في كل الأسواق الشعبية يتكرر المنظر نفسه، إذ يبدأ الأطفال في تسويق «المطلوع» على دفعات ويقف بعضهم تحت شمس حارقة إذا لم يجد مكاناً في الظل، وحينما تسألهم إذا ما كانوا صائمين أم لا بحكم صغر سنهم، حيث تتراوح أعمارُهم ما بين 9 إلى 13 سنة، يتعلثم الكثيرون ويردون بإجابات مترددة. وفي الأثناء، تخلد الأمهات إلى القيلولة لأخذ قسط من الراحة قبل أن يستأنفن نشاطهن، ولاسيما إذا لاحظن أن أطفالهن يعودون إلى البيوت مسرعين في كل مرة لإعادة ملء السلة بما يطيقون حمله من الأرغفة ونقلها مجددا إلى مداخل الأسواق. وبعد العصر يتوقفن عن تحضير وطهي «المطلوع» و»الكسرة» ويشرعن في تحضير مائدة الإفطار. وبالنظر إلى أرباحه الكبيرة، ظهرت في السنوات الأخيرة محلات متخصصة في صنع «المطلوع» وبيعه، وهي تحظى بدورها بإقبال كبير للزبائن، يقول أمحنّد بن تريكي «أفضل هذا النوع من المحلات لتوفّر عنصر النظافة، الأطفال الصغار في الأسواق لا يحرصون حتى على نظافة أيديهم، كما أن أيدي الزبائن تمتد إلى سلالهم لتتلمس عدة أرغفة قبل اختيار ما يريدون، هذا أمرٌ غير صحي، والمواطن الواعي هو الذي يقتني المطلوع من المحلات وليس من أرصفة الشوارع». إلا أن سعيد بولوارث له رأي مخالف إذ يفضل اقتناء «المطلوع» المطهي على الطاجين التقليدي في البيوت لأن له ذوقاً رفيعاً لا تجده في الخبز المنتَج في المحلات، والذي يعتبره «مطلوعاً مقلداً» وغير شهي فضلاً عن أنه غالي الثمن ويصل إلى 30 دينارا بينما مقابل 20 إلى 25 دينارا لخبز الدار. خبز خاص تقوم السيدات بتحضير سلعة رمضانية أخرى تلقى رواجاً كبيراً لدى المستهلكين لأنها تدخل في تحضير «البوراك» الذي يعدُّ إحدى أهمِّ أكلات الجزائريين في رمضان ولا غنى عنه في أية مائدة. ومن ثمة، فإن رواج «الدّْيُول»، وهو عبارة عن عدد كبير من أوراق العجائن الرقيقة والمتراصّة، مضمون، ما جعل الكثير من الأرامل والفقيرات عامة «يتخصصن» في تحضيره وإسناد مهمة بيعه لأطفالهن، علماً أنه لا يُباع سوى في رمضان فقط خلافاً للأرغفة، إلا أن هناك سيدات يقمن بالتعامل مباشرة مع أصحاب المحال التجارية لبيع «المطلوع» أو «الديول» لهم بكميات وفيرة على طريقة «البيع بالجملة» بحسب مسعود سراوي، تاجر بسوق «مارشي 12» بقلب الجزائر العاصمة، والذي يؤكد أنه يتعامل يومياً مع أكثر من 20 سيدة منتجة لـ»الديول»، وهناك سيدات يفضلن التعامل مع شبان بطالين ليقوموا ببيع سلعهن في مداخل الأسواق مقابل نسبة من الأرباح لهم، وتفضل الكثيرات منهن هاتين الطريقتين إذا كان أبناؤهن صغاراً غير مؤهلين حتى لاحتساب النقود، أو شفقة عليهم من قضاء ساعات طويلة واقفين في الأسواق تحت هذا الحرّ. وتقول بعض الروايات إن النساء اليهوديات اللواتي كنّ يقطن «القصبة» في عهد الاحتلال الفرنسي (كان هناك 120 ألف يهودي بالجزائر آنذاك) هن أول من أنتج «الدّْيول» ثم ورثته عنهن نساء «القصبة» بعد الاستقلال، وأصبح الآن منتشراً في مختلف أنحاء البلد، ويحظى بإقبال كبير في رمضان تحديداً، ولذا تغتنم الكثير من السيدات ولاسيما الفقيرات منهن، الفرصة لتحضير كميات كبيرة منه وبالتالي كسب الأرباح في هذا الشهر الكريم.