كانت الدعوة التي وجهتها لي الشاعرة الهندية شارميسْتا موهانْتي صيحة من أقاصي الشعر. كلمة في رسالة، هي دعوة إلى الهند في نهاية العام 2017. كان لا بد لي أن أقتنع بأن الشعر يواصل نشيده الأبديّ في أرض طاغور، الذي قرأته وتعاطفت مع جلال شعره وأنا لا أزال شاباً، مغموراً بدهشة القصيدة. دعوة إلى نيودلهي للمشاركة في مهرجان شعري. هي أرض كثيراً ما فكرتُ في حضارتها وفي ملحمتيْها، مهَابهَاراتا ورامَايانا، المكتوبتين بالسنسكريتية وتمثلان جزءا من ميثولوجيا الهندوس، مثلما فكرت في سرعة انتقال الهند من عالم قديم إلى عالم حديث. 1 لست أدري ما الذي جعل تفكيري في طاغور والملحمتين، يتقاطع مع تفكيري في ابن بطوطة. غريبٌ أمري! كلما أقبلت على السفر إلى شرق الأرض، حضرتْ أمامي صور ابن بطوطة. ذلك ما حدث لي عندما سافرت أول مرة إلى عمّان، ثم إلى الصين. وها أنا هذه المرة وجهاً لوجه مع ابن بطوطة. أو، بالأحرى، مع ابن بطوطة وهو في السوق الداخل بطنجة يحمل جلابته الوزّانية فوق الكتف، وصندوقاً صغير الحجم في يده. ثم وهو، في لمح البصر، يقصد باب السلطان في دلهي، التي كان ابن بطوطة ينطقها دهلي، كما كانت تتسمَّى في عهده. كنت أفكر في دهلي وأنا أتوجه إلى دلهي. عندما سألت صديقي الهندي سونيلا موبايي*، لاحقاً، عن الفرق بين التسميتيْن أجابني بأنه يوجد بين اللهجات كما يوجد بين ما يسميه السجل الراقي والعادي. في الراقي يقال دهلي وفي العادي دلّي، التي لفظها الإنجليز دلهي، السارية حتى اليوم. كان عليّ أن أتوجه في البدء إلى قرطبة، لتقديم ديواني «كتاب الحب»، ثم أسافر من مدريد إلى دلهي. وعلى الوادي الكبير بقرطبة تخيلتُ ما أنا مقدم عليه في اليوم الموالي، راحلاً من ماض حضاري إسلامي، لم يبق منه سوى آثار، إلى عالم له حياته الإسلامية وسط ديانات نسميها بالوثنية. وبينهما لاحت لي صورة البيْروني وهو يواصل كتابة مؤلفه «تحقيق ما للهند». 2 مباشرة، فور النزول من الطائرة إلى فسحة ختم الجوازات في مطار نيودلهي، شاهدت حشوداً من أمم وشعوب شرقية لم يسبق لي أن شاهدت مثلها مجتمعة في مكان واحد، حشوداً تختلف في لون السحْنات، وأنماط اللباس، وأصناف اللغات التي تتقافز في الفضاء. تهيأ لي أن هذا مشهد من يوم الحشر، وتمنيتُ لو يطول وقت الوقوف في الطابور بانتظار ختم الجواز، حتى أركز أكثر في الرؤية. أممٌ وشعوبٌ شرقية، على باب دلهي، لا تكاد ترى غربيّين بينهم رغم أنهم مصطفّون. الهند قارة بشرية، تعرفت عليها وأنا صغير من خلال مانجالا بلباس الساري ترقص وتغني في الأفلام الهندية الاستعراضية. أو هي ملحمة تختفي خلف الكلمات الحديثة، التي غابت عنها كلمة الملحمة. في المركز الهندي الدولي كانت إقامتي. كان الوقت فجراً وأنا، من المطار إلى المركز، أشاهد بعينين تتحركان ببطء. أضواء الإنارة العمومية يدلّني على سلسلة البنايات الحديثة وعلى أنواع النباتات وأشكال توزيعها. أشجار باسقة وزهور يمكن رؤيتها عن قرب. ثم تحذيرات متكررة للمحافظة على نظافة المدينة. لكن ها هو المركز تحيط به الطبيعة من كل جانب وأرضيته من العشب. كأن سماءه صفوف من زهور، وأرضه دوائر من أشجار مزهرة. في الصباح سطعت الشمس بنقاء وانتعاش. مركز للأنشطة الثقافية الدولية المختلفة. والمقيمون فيه من الهند ومن بلاد متعددة. لا رائحة هنا لعالم الرأسمال. استرجعت أيام جواهر لال نهرو وحركة عدم الانحياز في الستينيات. ثم استقلال الهند سنة 1947 ومهاتما غاندي، هذا الزعيم المتفرد الذي غيّر في القرن العشرين الكفاح الوطني من أجل الاستقلال بطريقته السلمية. كانت الصور تهبّ علي من جهات المركز، والصمت يشملني برحمته. 3 لكنني جئت من أجل الشعر. قبل التوجه إلى الأمسية الأولى، التقيت في بهو المركز صديقي الشاعر الصيني بيي ضاو. سلّمنا على بعضنا كالعادة، وفرحنا بإعادة اللقاء من جديد، على أرض أخرى. ثم في قاعة متوسطة الحجم، مملوءة عن آخرها، وجوه هندية تتباين سحناتها. بادرت الشاعرة شارميستا، قبل الدخول إلى القاعة، بأن قدمت لي كلا من الشاعر جوي غوسوامي والشاعر أرفيند كريشنا ميهروترا. سلّمت على جوي غواسومي وكأنني أسلّم على قصبة من هواء. جلد فوق العظام. لحية سوداء تتدلى، لباس هندي ناصع البياض وطاقية. أخبرني من بعد أنه يتناول وجبة في الصباح، والشاي وحده في الغداء والمساء. أما أرفيد فقد كنت تعرفت من قبل على اسمه. هو أكبر سناً من جوي، لحيته بيضاء وابتسامته سعيدة باللقاء. راحول سُوني شاعر ومترجم شاب من الإنجليزية إلى الهندي، فيفيك مارايانانس، شاعر هندي شاب، حيوي، يتكلم الإنجليزية بسلاسة كأنما هي أنفاسه. ثم الأميركي جاريد ستارك، المترجمة الأميركية من الإسبانية إميلي سون، الأرجنتيني سيرجيو شيجفيك، الهنديان مانكاليش دابرال وآلن سيللي. قبل التوجه إلى الهند كنت أعرف ثلاثة شعراء هنود هم الشاعر كبير من دهلي، الشاعر طاغور من كالكوتا، وأخيراً الشاعر آرون تولاتكار من مومباي. لكنني الآن أقف إلى جانب شعراء هنود، جوي غوسوامي يكتب بالبنغالية، راحول يكتب بالهندي، وشارمستا، فيفيك مارايانانس، آلن سيللي يكتبون الشعر والنثر بالإنجليزية. وأثناء تقديم الشعراء المشاركين، طلبت مني شارمستا أن أفتتح القراءة، تكريماً لي وللعربية، التي تحضر لأول مرة في هذا المهرجان، وهو يحيي دورته العاشرة. 4 في غمرة الإنصات للقراءات، ثم ما تلاها من نقاشات مقتطعة على مائدة العشاء، لاحت لي الحروف الأولى من وعْد بحوار شعري. إحساس فاجأني على حين غرة وأنا أتأمل الكلمات المتبادلة عن تاريخ العلاقات الثقافية بين العرب والهنود، أو بين الثقافة الآسيوية والثقافة الفارسية والتركية والعربية. في صبيحة اليوم الثاني، التقى المشاركون حول دائرة مستديرة موضوعها الشعر والصمت. اخترقتني رعشة خالصة، وأنا أنصت إلى جاريد ستارك أو إيميلي سون، وهما يتناولان موضوعة الصمت في القصيدة. كان الحديث ينتقل من الشعر الأوروبي إلى الشعر الهندي. كان النقاش منفتحاً، وشاركت فيه إلى جانب الشعراء والكتّاب الحاضرين. عرضتُ وجهة نظري، بعد أن كان المتدخلان معاً قدّما نموذجين من قصيدتين لي عن الصمت. كان النقاش منصباً على الصمت في كتابة بول تسيلان، أو على صمت آرثر رامبو المبكر، وهو أحد المحاور المثيرة في النقاش. لكن كان إلى جانب ذلك علاقة الصمت بالكتابة ككل، ووضعية الصمت في زمن الضجيج. توالت الأمسيات الشعرية، مع تخصيص وقت موسع لقراءة كل شاعر، حتى ينصت الحاضرون إلى اللغة الشعرية، وموسيقاها، وعوالمها الخفية لدى كل شاعر. وقت طويل من القراءة، والحاضرون ينصتون باهتمام وتفاعل في قاعة تحس كما لو كانت كلها نجوم تلمع بضوئها الخفيف. هكذا كانت القراءات تنشئ حالة من النشوة واليقظة التي تسري في كامل الأعضاء. وفي الجلسة الحوارية الثانية، كان لنا موعد مع مسألة اللغة والعولمة. موضوع له شرعيته في لقاءات دولية، حيث إن التأثير السلبي للعولمة على حياة اللغات وعلى التواصل بينها أصبح يستأثر بالاهتمام. هو موضوع يثير القلق، ولم يعد الشعراء يخفون وجوههم وهم يسمعون أحداً يستنهض النفوس لنفطن جميعاً إلى ما يحدق الآن من مخاطر باللغات في العالم. وقد كان من الطبيعي أن أتناول وضعية العربية اليوم، في زمن العولمة وما أصبحت تعاني منه، وأشرح طبيعة التهديد الذي تمارسه عليها اللغات الأجنبية، ممثلة بالإنجليزية والفرنسية على الخصوص. 5 كان لهذه القراءات والنقاشات امتداداتها في جلساتنا طيلة النهار والمساء. وما أسميه الوعد بحوار شعري هو الالتفات إلى ما بين الشعر العربي وبقية ما أسميه الإمبراطوريات الشعرية الباذخة، اليونانية والفارسية والتركية والهندية والصينية واليابانية، من صلات لا تبين عند الوهلة الأولى. لكن الحوار بين أصحاب هذه الشعريات ممكن جداً، لأننا عشنا جميعاً تجربة الانتقال من أشكال وأغراض شعرية قديمة إلى أخرى غربية حديثة. وهذا الانتقال حمل معه تمزّقات تبدو ظاهرة على جسد القصائد التي نكتبها. وقد أعجبتُ بمبادرة الحوار الذي نشأ في السنوات الأخيرة بين الشعراء الصينيين والهنود، حيث إن اللقاءات تنعقد سنوياً بين الطرفين، ولها من الجدية ما يهيئها لتفتح آفاقاً أوسع في المستقبل. كنت أنصت إلى النقاشات وأتأمل الممكن وغير الممكن. أصدقائي من الأوروبيّين، الذين أخبرتهم بأنني مسافر إلى الهند، كانوا ينبهونني على الاحتراس من التلوث العالي في دلهي وعلى مشاهد الفقر التي سيكون من الصعب عليّ الصمود في وجهها. كنت أوافقهم على تنبيهاتهم. وكنت، في الوقت نفسه، أحس بأن هناك شيئاً سأتعلمه في هذا السفر، وسط عالم هندي يصعد اليوم بقوة في مجالات الاقتصاد والتصنيع والاختراع إلى صف ما يعرف بالدول المصنعة الجديدة. الوعد بحوار شعري هو ما أستبقيه. هذا ممكن. وبدأتْ بين الحاضرين وبيني لحظات من الحوار، يتداخل فيها الماضي مع الحاضر، الشعري مع الفكري والديني واللغوي. وفي كل مرة كنت أزداد يقيناً بأن الوعد صادق، وبأن ثمة ما يشجع على البحث عن نقطة الانطلاق الصحيحة. 6 الهند قارة بتعدد أقوامها، وتعدد لغاتهم ودياناتهم. وكان الشعر الهندي يتراءى لي سابقاً من خلال شعراء يكتبون بلغات بلغ ما هو رسمي منها (في الدستور)، اليوم، إحدى وعشرين لغة. مع ذلك وجدت أن اللغة الهندية هي الأكثر انتشاراً إلى جانب الإنجليزية، التي تتمتع بوضعية الامتياز. على أن ما لمست حضوره، بل قوة حضوره في أكثر من كتاب بالإنجليزية عن الشعر الهندي، هو الشعر الصوفي، المكتوب باللغة الأردية. إنه شعر التصوف الإسلامي، الذي يعتبر الشاعر أمير خسرو (1253 ـ 1325) أشهر ممثليه، والشاعر كبير (1440 ـ 1518) ليس في مقدمته فقط، بل في صدارة مشهد الشعر الهندي القديم ككل، يليه تاريخياً ميرزا غالب (أسد الله خان) (1797 ـ 1869). وفي العصر الحديث تغيّر الوضع، إذ ظهر الشاعر رويبندرونات طاغور (1861 ـ 1941) الذي كتب العديد من الدواوين والأعمال باللغة البنغالية، حصل على نوبل للآداب وكان صديقاً للكاتب الفرنسي أندريه جيد، ثم آرون كولتْكار (1932 ـ 2004) الذي كتب بالماراتية والإنجليزية ويعتبر شاعراً ما بعد حداثي، تتحدد مكانته بين أكبر شعراء العالم. من أعمال هؤلاء الشعراء ما عرفته بالفرنسية أو العربية، ومنها ما تعرفت عليه في ترجمته الإنجليزية. وهي التي تؤكد لي صحة ما أنا أفكر فيه بخصوص الوعد بحوار شعري. فعناصر وقضايا بناء القصيدة في القديم كانت متأثرة بالشعر العربي، إما مباشرة أو عن طريق الشعر الفارسي. ثم إن التحديث الشعري تعرضت فيه القيم القديمة للرجّ بعد الاصطدام بالشعر الغربي والآداب الغربية عموماً. كنت أتبادل الرأي بهذا الخصوص مع الشاعرة شرميستا أو مع الشاعر أرفيند كريشنا ميهروترا. هذه مسألة كنت انشغلت بها منذ نهاية الثمانينيات وآنذاك كتبتها، ولكن لا أحد حسب علمي التفت إليها. ثم لم يخطر لي على البال أن بإمكاني ذات يوم عرض ما أنا منشغل به على شعراء في هذه المنطقة الآسيوية. كنت خلال مشاركتي في لقاء تم بجامعة ستراسبورغ سنة 1989 بين شعراء عرب ويونانيين (بمبادرة من توفيق فهد، وإشراف بطرس الحلاق) قد وجدت في المداخلات والنقاش ما يشجع على الاستمرار في التأمل. وها أنا اليوم، وبعد لقاءات مع شعراء من تركيا والصين واليابان والهند، أضيف إلى القناعة أمل أن يتحقق حوار بين هذه الإمبراطوريات الشعرية الباذخة. 7 «وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حضرة دهلي، قاعدة بلاد الهند. وهي المدينة العظيمة الشأن، الضخمة، الجامعة بين الحسن والحصانة. وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير. وهي أعظم مدن الهند، بل مدن الإسلام كلها بالمشرق». هل استغرقت في الحلم وأنا أقرأ هذا الكلام الذي يفتتح به ابن بطوطة وصوله إلى الهند؟ قرأته قبل السفر، لأنني كنت أريد أن أرى شيئاً من دلهي القديمة. وبمجرد الوصول، ثم مباشرة بعد اللقاء الشعري، أصبحت متجوّلاً، أبحث عن دهلي، القديمة، وعن دلهي الجديدة في آن. كان أول ما استوقفني هو أن دلهي أصبحت، مع الاستعمار الإنجليزي، تتكون من منطقتين هما دلهي القديمة ودلهي الجديدة. دلهي تشبه جميع المدن القديمة في أكثر من بلد. خذ أيّ مدينة قديمة شئت وانظر إلى وضعيتها العمرانية في العصر الحديث. المركز الهندي الدولي يوجد في دلهي الجديدة. والانتقال منها إلى القديمة يتطلب قطع مسافات، أما وسائل النقل فمتوفرة. دلهي صورة مصغرة للهند. لكن من أين أبدأ؟ فضلت أن أبدأ بالمكتبات، لأنها المكان الذي أتعرف فيه على الحياة الثقافية في الهند وليس في المدينة وحدها. مكتبة في سوق خان، على بعد خطوات من المركز. مساحتها ضيقة، مزدحمة بالكتب الهندية والإنجليزية على السواء. هنا يمكن أن تقضي أكثر من يوم ولا تمل من الاطلاع على أصناف من الكتب. كان أول ما استوقفني هو الرفوف المخصصة للشعر. فيها عثرت على عشرات من الكتب لطاغور وعن طاغور، لدرجة أني ظننت أن كل كتب الشعر الموجودة مخصصة لطاغور، وهي تعكس المكانة التي يحظى بها بين أبناء الهند مهما كانت عقيدتهم. وتتوزع بينها كتب عن الشعر الصوفي، مثل شعر كبير وغالب، وأنتولوجيات. ثم هناك كتب فنية رفيعة عن المدن والآثار والطبيعة الهندية، وعن الديانات والطقوس وفنون الرقص والموسيقى. وفي الصدارة كتب سياسية عن رئيس الوزراء وعن الهند. عندما سألت عن الموسيقى، أرشدني المكتبي إلى محل خاص، على بعد خطوات. هناك عثرت على تحف هندية لكل من رافي شنكار وعلي أكبر خان، العازفين على السيتار، بانديت بانالال غوش، العازف على الناي، شادي كي شيهنيان، العازف على آلة النفخ الغيطة. 8 من مصادفة الإقامة في المركز الهندي الدولي أنه يحاذي مقبرة مغولية، حوّل الإنجليز أرضها إلى حديقة شاسعة. حديقة لودي، أو لودي غارْدن، كما هي تسميتها الإنجليزية. مقبرة تتكون من آثار إسلامية وهندوسية، منها قبور، أشهرها قبر محمد شاه إسكندر لودي وبالقرب منه مسجد. قضيت وقتاً طويلا في زيارة هذه المجموعة الأثرية، لأن الجمع بين المقابر والمسجد جعلني أحس وكأنني أنصت إلى نشيد جنائزي، أراد له المغول أن يدوم في شكل عمارة. أما الحجر الذي بني منه المسجد فهو مزين بنحت آيات من القرآن، أدهشتني فيها جمالية الخط التي بدا لي أنها شبيهة إلى حد بعيد بجمالية الخط المغربي، وخاصة في عهد المرينيين. العمارة والخطوط. قررت مواصلة استكشاف هذيْن الفنيْن. دلهي، بعدد سكانها الذي يبلغ ثمانية عشرة مليون نسمة، دولة قائمة الذات. تجتمع في مدينتها القديمة، التي كانت مقسمة إلى أربع مدن، أثارٌ إسلامية تحتل مساحات شاسعة، وموزعة على مناطق مختلفة. جمال الأضرحة والمساجد يجمع بين قوة البناء ورشاقة الزخارف والتزيين. أضرحة في كل مكان لتمجيد عتمات الموت. ضريح همايون شاه، مرتفع بقبته الرخامية البيضاء، بداخله ضوء خافت، وتحيط به حدائق من كل جانب. ضريح السلطان ألتمش، مربع صغير الحجم، ذكرتني زخارفه وخطوطه ولونا حجره بمسجد قرطبة. مزار الصوفي نظام الدين، فضاء شعبي، مفتوح ليل نهار. يقع في منطقة نظام الدين، التي تبدأ بالمطاعم ومحلات الألبسة والهدايا الخاصة بالزيارة، ثم تنفذ منها إلى سرداب طويل، ينام على أرضيته زوار فقراء ومرضى، ويفضي إلى ساحة يتوسطها ضريح الشيخ بقبّـته، وإلى جانبه ضريح الشاعر أمير خسرو. هنا مقابر متصوفة، من بينهم شعراء. ألواح من رخام محفور فوقها آيات قرآنية وأدعية وقصائد وقصائد وقص من يزور قبة نظام الدين ينصرف ليزور أمير خسرو. أضواء الشموع تعم المكان، فقهاء جالسون يتحدثون إلى متشوفين لمعرفة شيء ما. وفي كل سنة يقام ما يسمونه «عرس السلطان». ???يحضر القوالون ويجتمع المريدون ليشاركوا في الحضرة. المسجد الجامع في بداية سوق شاندني شوك بالمدينة القديمة. بناء متناظر العناصر، آيات قرآنية، حوض ماء الوضوء، والزائرون من مسلمين وسياح محليين وأجانب. 9 قال لي صديقي سونيلا: لا بد أن نزور تاج محل. نذهب نحن الثلاثة، ليا حبيبتي الأميركية وأنت وأنا. سنتفق مع مرشد سياحي ونذهب. وافقت ممتناً، لأن السفر إلى أجْرا يتطلب رفقة. تاج محل، ضريح، ينشر تقديس الحب على الأرض، كل أرض. اسم الحب هو تاج محل. تكاد أرضيته تشكل مساحة مدينة. مدخل أولي، تتوقف عنده السيارات، ثم يأخذ الزائرون حافلة محلية تنقلهم إلى حاجز شبابيك تذاكر الدخول، ومنها يتوجهون نحو الباب الكبير. فور الدخول تكون أمام عمارة تتوقف عليها عيناك من بعيد. مسافة طويلة من حدائق وصهاريج ماء ذات أرضية زرقاء، وفي النهاية منصة مربعة، من كل جانب مئذنة مرتفعة، والبناية المربعة كلها من الرخام الأبيض. باب واسعة وعالية، فوقها قبة كبرى ومن جانبيها قبتان صغيرتان. كان لنا أن نتحرك ببطء حتى نشاهد مقاطع من جمالية العمارة، التي تتشكل من الضريح الموجود في الوسط، ومن الجانب الأيسر مسجد، ثم من الأيمن بناية توازي بناية المسجد ولكنها ليست مسجداً، والحديقة بصهاريجها. عناصر العمارة ذات هندسة تقوم على التناظر. عندما اقتربنا أكثر اتضح لي أن فتحة الباب تزينها آية يس، بخط النسخ. داخل البناية الضخمة قاعة صغيرة الحجم، في وسطها قبر بالرخام للأميرة محل، يحاذيه من الجهة اليسرى قبر زوجها شاه جهان. وفي الأعلى نوافذ رخامية بثقوب ضيقة، يحافظ بها المكان على ضوئه الخافت. 10 هذا البلد الشاسع، ما الذي يوحّد أبناءه؟ شعوب تختلف عقائدها الدينية، بين هندوس وسيخ ومسلمين ومسيحيين وبوذيين ويهود وبهائيين، كما تختلف لغاتها الرسمية إلى أكثر من عشرين لغة. كان الشعراء والمثقفون الذين التقيتُهم يقدمون لي أجوبة سياسية. لكني عندما زرت مجموعة من أجمل وأكبر المآثر في دلهي ثم زرت تاج محل، كنت في كل مرة أجد عدداً كبيراً من الزائرين، من أعمار مختلفة، بألبسة مختلفة وسحنات مختلفة. تلاميذ المدارس يتسابقون ويتصايحون. أزواج شبان بلباس العرس، عائلات وجماعات من الأصدقاء. لست أدري ما الذي جعلني أفكر بأن هذه المآثر، وما تمثله من تاريخ وحضارة، هي التي توحّد أبناء الهند. لا شك أن زائري «حدائق لودي»، «القلعة الحمراء»، «منارة قطب»، «قبور هوميان» و»ضريح تاج محل» ليسوا جميعاً مسلمين. كثيرون من بينهم يعتنقون ديانات مختلفة. على أنهم يلتقون في هذه المآثر، يبتهجون بها، يرفعون أعينهم ليحدّقوا في جمالها. يلتفون حول بعضهم البعض ليلتقطوا صوراً تذكارية. هذه حضارتهم، هي لهُم جميعاً، وهم فيها يتوحّدون. ........................................... * سونيلا طالب هندي، تعرفت عليه خلال إلقاء محاضرتي في جامعة كولومبيا في نيويورك. وهو حصل مؤخراً على دكتوراه في موضوع جماعة كركوك تحت إشراف الشاعر والروائي سنان أنطون. ابن بطوطة.. الهندي وصل الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة (عاش ما بين 1307 و1377م) إلى الهند، في إطار جولته التي قادته إلى أقاصي آسيا والتي استمرت نحو 27 أو 30 عاماً. وعاد منها بحصيلة وافية من المعارف في الجوانب الاجتماعية، وعوالم النبات، والمزروعات والموت والدفن. وقضى ابن بطوطة في الهند تسع سنوات، قبل أن ينتقل إلى جزر المالديف وسريلانكا. وتذهب بعض الدراسات إلى أن ابن بطوطة اتخذ من الهند جنسية له، بحسب المحددات اللغوية والقانونية المعتمدة اليوم. فهو عندما وصل إلى حدود البلاد، سئل عن الغرض من زيارته إلى الهند، خصوصاً وإن السلطان محمد شاه «أمر أن لا يدخل أحد بلاد الهند إلا إن كان برسم الإقامة» فأجاب ابن بطوطة: بأنه فعلا يعتزم المقام في خدمة سيد البلاد! وبناء على ذلك منح الجنسية، أو حق الإقامة، بعقد وقعه القاضي والكتّاب العدول، بحضورهم. وفي غضون إقامته هناك طلب إليه السلطان، أن يرافق بعثة إلى الصين، ففعل، لكنه عاد بعدها إلى بلده الأصلي المغرب من دون المرور على بلده المكتسب الهند. القبر.. القصر يقع قصر (أو ضريح) تاج محل في أكرة بأوتار برادش بالهند. شيده الملك شاه جهان الإمبراطور المغولي (1630 ـ 1648) ليضم رفات زوجته أرجمند بانوبيغم، والتي تدلّه في عشقها. وكلمة تاج محل محرّفة عن الاسم الذي كانت تحمله الأميرة، وهو ممتاز محل. وضع تصميمه المهندس المعروف بالأستاذ عيسى شيرازي وأمان الله خان شيرازي. شيّد بالمرمر الأبيض المجلوب من جدهابور على مصطبة يغطى سطحها بالمرمر الأبيض، وأقيمت عند كل زاوية من زوايا المصطبة مئذنة متناسقة الأجزاء ارتفاعها 37 م. يحيط بكل منها ثلاث شرفات، وفي وسط المصطبة يرتفع الضريح في شكل رباعي، وتشغل الجزء الأوسط من البناية القبة الرئيسية، وقطرها 17 م. وارتفاعها 22.5 م. ولكل من واجهات البناية الأربع مدخل عال مغطى بعقد، وتحت القبة الكبرى التي تعلو وسط البناية ضريح الأميرة، وإلى جانبه ضريح زوجها، وكلاهما مزخرف بالنقوش الكتابية. ويعتبر تاج محل من قبل العديد من أرقى الأمثلة على العمارة المغولية، وهو أسلوب يجمع بين الطراز المعماري الفارسي والتركي والعثماني والهندي.