القاهرة- د· احمد السيد: صومعة الكتبية واحدة من أشهر المآذن في عمارة المغرب الإسلامي، وتعد أبرز معالم مدينة مراكش -درة المدن الإسلامية في إفريقيا- وتكمل هذه الصومعة بارتفاعها الشاهق وهيئتها المهيبة، روعة البانوراما الطبيعية الخلابة لهذه المدينة التاريخية· فمراكش تبدو كواحة خضراء وسط محيط صحراوي يلفها بهدوء وسكينة، بينما تنتظم شوارعها الفسيحة بمنازلها التي يغلب على جدرانها الخارجية اللون البرتقالي، وقد عمرت بالأشجار الخضراء التي تزداد ألوانها بريقا تحت أشعة الشمس الغامرة، وخلف هذا المشهد الذي تختلط فيه الألوان الخضراء والبرتقالية سماء زرقاء صافية تزدان بهامات متباينة الارتفاع من الآثار التاريخية التي تحفل بها مراكش، فهي مدينة عامرة بمساجدها ومدارسها وروضاتها الأثرية، فضلا عن بعض أسوارها الحصينة· مدرسة للفن الجميل وجامع الكتبية بصومعته الشهيرة، أهم معالم مراكش التاريخية وأبعدها صيتا، وبلغت سمعته آفاق العصور الوسطى متوغلة إلى أعماق غرب إفريقيا، بينما ذاع صيته في العصور الحديثة كأثر فني بالغ الجمال، ويكاد أن يكون مدرسة للفن الجميل أو متحفا للابتكار المعماري، جمع كل عجيبة في ميادين البناء والزخرفة· وصومعة الكتبية لها نفس هيئة صوامع الغرب الإسلامي المتعامدة الأضلاع، ويصل ارتفاعها إلى حوالي 67,5 م، وهي مربع من البناء بداخله مربع أصغر منه، وقد أقيمت به عدة غرف متطابقة يربط بينها طريق صاعد يلف حول الغرف·· وتبدو المئذنة من الخارج على شكل بناء مربع له قاعدة طويلة يبلغ طول ضلعها حوالي 13 مترا، وهذه القاعدة مؤلفة من ستة طوابق كما يظهر من نوافذها المطلة على الحجرات المتطابقة· وقد شغل المعمار واجهات المئذنة الأربع بمجموعة من النوافذ المعقودة، بأنواع العقود ومن بينها المدبب والمستدير والمفصص وما اتخذ هيئة حدوة الحصان، وهذه النوافذ منسقة على هيئة تتماشى مع السلم أو المنحدر الداخلي الذي يصل إلى أعلى هذه المئذنة السامقة·· وإضافة إلى أغراض الإضاءة للغرف المتطابقة والمنحدر الصاعد لأعلى، فإن لهذه النوافذ وظيفة معمارية أخرى، هي تخفيف ثقل الأحجارعلى أساسات الصومعة الضخمة الأبعاد· وجدران قاعدة الصومعة تزدان بأفاريز متوالية من الزخارف المتنوعة، وكأن مزخرفها أراد أن يعرض فيها شتى أنواع الزخرفة الهندسية التي عرفها الفن الإسلامي في بلاد المغرب والأندلس·· وتنتهي القاعدة المتطاولة بشرافات مسننة كانت شائعة الاستخدام في نهايات جدران المساجد في العالم الإسلامي شرقا وغربا· ويتوسط سطح الصومعة العلوي جوسق المؤذن أو شرفة الأذان، ويبدو هذا الجوسق كبرج صغير له نفس الهيئة المعمارية الخارجية لقاعدة الصومعة، وكأنه صدى لإيقاع القاعدة أو ملخص مختصر لها·· ويفتح الجوسق على شرفة الأذان بنافذتين في كل جانب من جوانبه الأربعة، وكل نافذة لها هيئة أندلسية تذكرنا بعقود جامع قرطبة المدببة والمفصصة وأعلى هذه النوافذ زخرفة هندسية على هيئة معينات متلاصقة· وغطي جوسق المؤذن بقبة مضلعة من طراز ظل مرعيا منذ ظهوره بأعلى صومعة جامع القرويين في بداية القرن الثالث الهجري ''9 م''·· ويبدو الجوسق مصوبا في الجو كأنه سهم مارق إلى الفضاء وهو يتوج صرحا معماريا لطالما أثار إعجاب الناظرين بضخامة البنيان وروعة الزخرفة حتى أن الأثري الفرنسي ''هنري تيراس'' أولع بهذه الصومعة ودرسها بشكل تفصيلي وقال إن نقوشها ونوافذها وزخارفها جديرة بأن تنشر في كتاب خاص· الراية البيضاء ويوجد أعلى خوذة قبة الجوسق سفود من حديد، وكان يستخدم قديماً في ''الراية البيضاء''، وهي علامة على دخول وقت الصلاة، فيراها سكان مراكش من البعد حتى ولو لم يصل إليهم صوت المؤذن، وكانت هذه الراية ترفع عند موعد الأذان ثم تخفض بعد إقامة الصلاة الجامعة· وجامع الكتبية من إنشاء الخليفة عبدالمؤمن بن علي بن تومرت الموحدي، أول خلفاء دولة الموحدين في حوالي عام 552هـ ''1157م''، وشيده ملاصقا الجهة الجنوبية لمسجد الكتبية القديم، وهو من إنشاء يوسف بن تاشفين المرابطي، ثم هجر وتهدم في عصر الموحدين، دون أن يجد له منقذا بسبب السياسة العامة للدولة الموحدية في القضاء على كل ذكر للمرابطين·· ويقال إن سبب بناء عبدالمؤمن بن علي لهذا الجامع، كان خروج المصحف الشريف المنسوب إلى الخليفة عثمان بن عفان ''رضي الله عنه'' من قرطبة بالأندلس إلى مراكش عاصمة دولة الموحدين ليحفظ بهذا الجامع· وجامع الكتبية فسيح مستطيل، ويتبع في تخطيطه المساجد الجامعة الأولى، ذات الصحن الأوسط المكشوف والظلات الأربع، وأهم الظلات هي ظلة القبلة التي تعتبر من أوسع بيوت الصلاة بالجوامع المغربية، وهي في الأصل كانت مؤلفة من تسعة أروقة، تسير عقودها عمودية على جدار القبلة وزيدت الآن إلى 17 رواقا، وتفصل هذه الأروقة عن بعضها بوائك مؤلفة من دعائم حجرية متنوعة المساقط، تحمل عقودا على هيئة حدوة الحصان مع تدبيب في أعلاها وانتفاخ في جانبيها، وهي نموذج للعقود التي شاع استخدامها في عمائر الموحدين بالمغرب والأندلس، ويمتاز الرواق الأوسط المؤدي إلى المحراب بكثافة زخارفه، وهو من آيات الفن الجميل وهو أكثر اتساعا من الأروقة الجانبية· وفوق رواق المحراب ست قباب صغيرة تشير إلى أهميته، بقدر ما توفر اضاءة اضافية للبقعة المؤدية إلى المحراب، أما الاسكوب الذي يوجد به المحراب، ففوق جداره خمس قباب تحقق هذين الغرضين، وجميع هذه القباب مزينة في داخلها بالمقرنصات والزخارف الجصية·· أما الظلة الخلفية فهي من تسعة أروقة عقودها عمودية على جدار القبلة، بينما اقتصرت الظلات الجانبية على أربعة أروقة فقط· وبوسط صحن جامع الكتبية المفروش بالرخام ''45 م في 18م '' فوارة ماء أو فسقية من الرخام الأبيض المرمري، حوضها على شكل وردة مفصصة وتصل إليها المياه عن طريق مواسير من الرصاص تحت أرض الصحن، وهي مصممة بحيث تضمن تجدد الماء اللازم للوضوء· وألحقت بجامع الكتبية ''سقاية'' أي سبل ماء، بغرض تزويد المارة باحتياجاتهم من مياه الشرب النقية، وتقع هذه السقاية في المساحة بين صومعة الجامع والمدخل الرئيسي بالواجهة الشمالية الشرقية للجامع، وإنشاء هذه السقاية خفف وطأة حر الصيف على رواد جامع الكتبية، الذي مازال إلى اليوم موضع عناية أهل المغرب، وقبلة زوار المدينة التاريخية·