إبراهيم الملا

انجذبت فنون السرد والشعر في الإمارات منذ بداياتها المبكرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نحو التوثيق الأدبي للتحولات الاجتماعية والسياسية الكبيرة، وكان الصوت الخارجي مهيمناً على نتاجات الشعراء وكتّاب القصة والرواية بالتوازي مع صوت الشعارات البرّاقة للمدّ القومي والحلم العروبي حينها، وطغت هذه الهيمنة على الصوت الداخلي للكاتب والشاعر، رغم أنه الصوت الأقرب للتأمل والتحليل والاشتغال على اللغة العالية والعميقة في آنٍ واحدٍ.
كان الهوى الأدبي العام ميّالاً في تلك الفترة لأيديولوجيا تتشارك خطوطها العريضة في ذهنية ثقافية جامعة، باعتبارها انتماءً لهوية جديدة خارجة من خرائب الاستعمار، وهي بذلك كانت تصنّف المتفرّد على أنه متمرّد، وكانت توصم التجارب المستقلة بالخروج عن السياق الجمعي والارتماء في حضن التغريب والانعزال.
ورغم حضور وتشكلّ هذه التصنيفات القاطعة والمانعة في الذهنية العربية وقتها، فإنها لم تكن بارزة ومتحققة في المناخ الثقافي الوليد بالإمارات، وفي منطقة الخليج عموماً، مقارنة بالحواضر الثقافية الكبرى آنذاك مثل بيروت ودمشق والقاهرة، لأسباب وعوامل كثيرة أهمها غياب التعليم النظامي، وقلّة عدد الكتاب وشعراء الفصحى، وانحسار الهمّ الثقافي في مقابل البحث عن بيئة وبنية مستقرة وسط بطء التحول الاجتماعي قبل قيام دولة الاتحاد وقبل ظهور ملامح النهضة الاقتصادية.
وتشكلّت البدايات الأولى والمبكرة للشعر في الإمارات، بداية الثلاثينيات من القرن الماضي على يد الشاعر أحمد بن سلطان بن سليّم المولود في أواخر القرن التاسع عشر، والذي تصفه المدونة الأرشيفية بأنه كان من متنوري عصره وكان متابعاً للأحداث العالمية والعربية، وعلى اتصال دائم بالأدباء والمثقفين من خلال الصحف والمجلات والتواصل المباشر مع المثقفين، وكانت إقامته بالهند فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي استمرت حتى الأربعينيات، سبباً في هذا التميز أو الحظوة الثقافية، حيث درس هناك وعمل مذيعاً بإذاعة عموم الهند.
ومع ظهور المطبعة في الإمارات، وتحديداً مطابع الرضوان في دبي عام 1958، ثم المطبعة العمانية في 1959 ظهرت أسماء شعرية جديدة، نذكر منهم الشعراء: مبارك الناخي، وخلفان بن مصبّح، وسالم بن علي العويس، ومبارك العقيلي، وسلطان بن علي العويس وغيرهم من الشعراء الذين مهدوا لنشوء حركة ثقافية نشطة وطموحة ازدهرت مع انتشار التعليم النظامي وتشكيل الوزارات ومؤسسات الدولة.
إن الإرهاصات الأولى للتجربة الشعرية المعاصرة في الإمارات شكلت أرضية أو منصة ذهنية ومعرفية مهمة وأصيلة ارتكزت عليها التجارب الشعرية اللاحقة والمكتوبة بالفصحى في فترة الستينيات وحتى قيام دولة الاتحاد وصولاً إلى الزمن الراهن، ورغم تمرد بعض الشعراء على القيود الخليلية من وزن وقافية في فترة السبعينيات فإن أغلبهم ظل وفياً على الأقل لقصيدة التفعيلة.
ومع اختفاء ورحيل معظم المشاركين في تأسيس النخبة الثقافية الأولى، وكان جلّهم من الشعراء المهتمين بالعامية والفصحى معاً، جاء الجيل التالي وهو أقرب لفن السرد منه إلى فن الشعر، حيث ظهرت أول رواية إماراتية مكتملة الأركان الفنية على يد راشد عبدالله النعيمي عام 1971 وهي رواية «شاهندة»، وظهرت أول مجموعة قصصية بعنوان «الخشبة» لمؤلفها عبدالله صقر المرّي عام 1974، تلتها مرحلة تسلم دفتها عدد كبير من كتّاب القصة والروائيين نذكر منهم: عبدالحميد أحمد، وعبدالرضا السجواني، وناصر جبران، وإبراهيم مبارك، ومريم جمعة فرج، وسلمى مطر سيف، وماجد بوشليبي وغيرهم.
وظهرت في هذا المناخ الثقافي الفائر والحالم أسماء شعرية كثيرة ارتبطت بالعمود والتفعيلة رغم محاولات التجديد والتجريب اللاحقة لبعضهم، ونذكر منهم: أحمد أمين المدني، والدكتور مانع سعيد العتيبة، وعارف الخاجة، وسلطان الحبتور، وهاشم الموسوي، ومحمد الشيباني، وعارف الشيخ، وإبراهيم محمد إبراهيم، وإبراهيم الهاشمي، وكريم معتوق، وعبدالله الهدية، وأحمد محمد عبيد.
وكانت الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي الفترة الذهبية لقصيدة النثر في الإمارات، فظهرت أسماء شعرية عديدة، وبرزت التجارب النسائية، ونذكر من الأسماء الأولى في هذا المشهد الفاتن والملتبس أيضاً: حبيب الصايغ وهالة معتوق وظبية خميس والعنود وحمدة خميس وسالم بوجمهور والراحل أحمد راشد ثاني وخالد البدور ونجوم الغانم ومحمد المزروعي وعادل خزام وخالد الراشد وعبدالعزيز جاسم وميسون صقر القاسمي وحارب الظاهري ومرعي الحليان وعائشة البوسميط والراحل علي العندل، ثم في الجيل التالي ظهرت أسماء أخرى كمسعود أمر الله وأحمد العسم وعبدالله عبدالوهاب وصالحة غابش والهنوف محمد وعبدالله السبب وخلود المعلا وسعد جمعة، ومن الجيل الثالث: هاشم المعلم وشيخة المطيري وهدى الزرعوني وأحمد عبيد المطروشي، وحسن النجار وهدى السعدي وجمال علي وطلال سالم غيرهم.
ثم ظهر الجيل الحالي أواسط التسعينيات وحتى الألفية الجديدة ومال أكثرهم للرواية بعد اضمحلال دور وتأثير الشعر والقصة القصيرة، وسيادة فن السرد ذي التفاصيل المشوّقة والجاذبة على مستوى الشكل والمضمون، وهو فن بات على العموم محكوماً براهنيته ومراوحته بين النضج والاختمار، وبين التجريب وتنويع الأدوات الإبداعية، وهي مع ذلك بحاجة لمواكبة نقدية جادة تفصل بين أحقيتها في الاستمرار أو الاكتفاء بما تم تقديمه، نظراً لأن الكثير من الأعمال الروائية الجديدة تفتقد روحية البحث، وثراء المخيلة والعمق اللغوي، ويناور معظمها في منطقة تعبيرية متشابهة وضحلة أيضاً، سعياً للشهرة والانتشار في وسائل التواصل الحديثة دون اهتمام بما هو أصيل وحقيقي واستثنائي في فن الرواية وفي الفنون السردية المجاورة لها.