بالمصادقة على انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، ستتخلص موسكو تدريجياً من معظم العقبات التجارية التي تحمي صناعتها المحلية بحلول 2018. وعلى الرغم من أن ذلك ربما يمثل صدمة قوية، إلا أنه فرصة ذهبية في الوقت ذاته، حيث من المتوقع أن تفتح الأسواق العالمية أبوابها لتتيح الفرصة للمؤسسات الروسية بدخول حلبة المنافسة العالمية. ويعتمد الاقتصاد الروسي اليوم بدرجة كبيرة على الموارد المستخرجة من باطن الأرض. ومع ذلك، تملك البلاد نشاطات صناعية قوية بعيداً عن النفط والغاز والمعادن. وعلى سبيل المثال، تقوم شركة جوركي لصناعة المحركات “جاز”، التي أسست خلال 1929، بإنتاج الشاحنات والمركبات العسكرية والحافلات الصغيرة والسيارات. وبفشل الشركة التي تحولت إلى القطاع الخاص، في إحياء الموديلات الروسية الشهيرة، تحاول في الوقت الحالي استغلال موقفها القوي في سوق السيارات التجارية بالسعي وراء توفير منتجات مربحة، مثل سيارات الإسعاف والإنقاذ والشاحنات المتخصصة والحافلات. كما تقوم بتجميع سيارات “سكودا” وحافلات المرسيدس الصغيرة وموديلات أجنبية أخرى، والاستفادة من الانتعاش الذي تعيشه السوق الروسية المحلية. وعلى الرغم من خفض قوتها العاملة إلى النصف، ارتفع إنتاج الشركة الآن إلى الضعف مقارنة بعام 2009. وخلال 2010، لم تتجاوز نسبة الحافلات الصغيرة الصالحة للتصدير سوى 16%، لكنها بلغت 64% في الآونة الأخيرة. وعند التزام “جاز” بقوانين “منظمة التجارة العالمية” في حالة انضمام روسيا، على الشركة الاستعداد لمنافسة المركبات الصينية الرخيصة. ويبدو أن شركات السيارات الأجنبية تولي ثقتها في روسيا، حيث بدأت في إنشاء مصانع جديدة وترميم القديمة منها. ووافقت “رينو – نيسان”، بشراء حصة كبيرة في “أفتو فاز” التي ساءت سمعتها بإنتاج موديل “لادا”. وتلتها “شركات أخرى مثل “جنرال موتورز” و”فورد” و”فيات” وغيرها. وبانخفاض أسعار النفط والغاز خلال الأزمة المالية، بدأت روسيا في الدخول إلى دائرة الركود عندما بذلت الحكومة جهوداً مقدرة لاستعادة قاعدة البلاد الصناعية المتهالكة. ويرى الخبراء الاقتصاديون في روسيا، أنه من الممكن للبلاد الاعتماد على الواردات النفطية بدخولها مباشرة في اقتصاد يقوم على الخدمات، وعلى عمليات ما بعد الصناعة. ووعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً بعد إعادة تنصيبه، بإعداد نحو 25 مليون وظيفة تتميز بخبرات عالية، العدد الذي يساوي ثلث القوة العاملة في القطاع الآن. وعلى الرغم من فشل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القضاء على الفساد والبيروقراطية، إلا أن عزيمته صادقة في إحياء القطاع الصناعي في البلاد. ولاقت تجربة إنشاء “سكلكوفو” كمجمع للصناعات الإلكترونية خارج موسكو على غرار “سيلكون فالي” الأميركية، ترحيباً كبيراً. وتحولت نحو 600 مؤسسة صناعية منذ 2009 تضم نحو 900 ألف عامل، إلى وكالة إعادة هيكلة أطلق عليها اسم “التقنيات الروسية”. ونجحت الوكالة عموماً في تحقيق الأرباح، على الرغم من أن 40% منها تعاني بعض المشاكل المالية. ومن بين هذه المؤسسات، “الروسية لصناعة الهيلوكبتر” التي تعمل في تصدير هذا النوع من الطائرات. كما تضم “التقنيات الروسية” أيضاً، بعض المؤسسات الواعدة في مجالات مثل الإلكترونيات والمعدات البصرية وتصنيع المعادن، التي تقوم العديد منها بمزيج من الأعمال تجمع بين المدنية والعسكرية. وقررت الحكومة أن أفضل طريقة لإنعاش قطاع صناعة السيارات ينبغي أن تكون من خلال إطلاق يد الشركات الأجنبية وتشجيعها. وبالإضافة إلى بيع حصة في “أفتو فاز” لشركة “رينو – نيسان”، قامت الوكالة ببيع حصص كبيرة في اثنين من مصانع الإطارات للشركة الإيطالية “بيرلي” التي تسعى إلى تحويلهما إلى مصانع لتصدير الإطارات الشتوية إلى كندا ودول شمال أوروبا. وتستهل ثورة التجديد الصناعية في روسيا مشوارها بإطلاق طائرة “أم سي 21” في الفضاء بحلول 2015، في أمل لمنافسة عملاقي الطيران “بوينج” و”آيرباص”. وتبحث روسيا بالفعل عن تأمين طلبيات لطائرتها “سوبر جيت” الصغيرة، التي سقطت واحدة منها في إندونيسيا في مايو الماضي لخطأ وضح أنه غير فني. وكانت روسيا تقوم بتصدير الطائرات الحربية لفترة طويلة من الوقت، إلا أن طائراتها المدنية قل ما تبارح الوطن ليتم بيعها خارج حدود الاتحاد السوفييتي سابقاً. وكجزء من خطة لتغيير هذا الوضع الراهن، تم دمج مجموعة من مصانع الطائرات ومراكز بحوثها في تكوين جديد أطلق عليه اسم “الشركة المتحدة للطائرات”. وبالإضافة إلى “سوبر جيت” و “أم سي 21”، دخلت روسيا في تفاوض مع الصين بشأن التعاون لإنتاج طائرة كبيرة. لكن هناك الكثير الذي ينبغي القيام به حتى تتمكن “أم سي 21” من منافسة نظيراتها من الدول الغربية. ويُذكر أن الشركات الروسية تُجيد تصميم الطائرات، إلا أنها تفتقر لخبرة صناعة الطائرات المدنية التي تتميز بمستويات سلامة وجودة تُمكنها من جذب شركات الطيران الأجنبية. كما تفتقر أيضاً إلى توفير خدمات ما بعد البيع وقطع الغيار. ومن أصعب هذه الأشياء، إمكانية توفير شبكة عالمية لخدمات ما بعد البيع، الشيء الذي تفعله “إيركوت” المنتجة لطائرة “أم سي 21”، من خلال شراكة مع مؤسسة “ألينيا” الإيطالية للطيران. وإطلاق هذه الطائرة الروسية في الفضاء هو شيء من العزة الوطنية ما يجعل “الشركة المتحدة للطائرات”، تعتمد على الدعم الحكومي في هذا المشروع. لكن لا تتمتع كل المؤسسات الصناعية بالدعم الحكومي، لا سيما وأن عدداً من أعضاء حكومة القلة يستثمرون أموالهم في قطاع الصناعة مثل إنتاج التوربينات والسيارات الكهربائية. وتوجد أيضاً بعض المؤسسات المستقلة الواعدة التي تقوم بتوريد المعدات للشركات الحكومية الروسية الكبيرة التي تبشر بمستقبل كبير. وتتضمن هذه، “أتش أم أس” و”أوزنا” لإنتاج الطلمبات وضواغط الهواء “كمبرسور” المستخدمة في قطاع النفط، وكذلك التي تقوم بصناعة عربات القطارات ومعداتها مثل “ترانسماش القابضة” و”ألتاي فاجون”. لكن ومع ذلك، تعتبر مثل هذه المؤسسات صغيرة جداً وغير قادرة على توزيع تكاليف بحوثها على قاعدة كبيرة من المبيعات، بالمقارنة مع منافساتها الغربية. كما أنه ليس في مقدور روسيا تحويل مثل هذه المؤسسات إلى عالمية كبيرة للتصدير دون الحصول على المهندسين والمديرين والعاملين الأكفاء الآخرين. وتعاني روسيا في الوقت الحالي هجرة كبيرة في الكفاءات، حيث تقدر دراسة صدرت مؤخراً عن “المنتدى الاقتصادي العالمي”، أن عدد المهاجرين الصغار من روسيا يفوق بكثير الوتيرة التي شهدتها البلاد في بداية الألفية الثانية. ويهاجر الكثيرون لعدم توافر الأمن في الولايات التي تقطنها عصابات المافيا خشية مصادرة ممتلكاتهم في أي وقت من الأوقات. ومن الممكن أن تساعد المؤسسات الصغيرة التي تتمتع بنمو عالٍ، في الإيفاء بالوعد الذي قطعه الرئيس بوتين بتوفير 25 مليون وظيفة، إلا أن نموها يعتمد على إصلاحات لم ينفذها حتى الآن. وبغياب هذه المؤسسات، ليس أمام البلاد سوى اللجوء إلى المؤسسات الأجنبية وفتح أبوابها لها، الشيء الذي تقوم به بعض حكومات المقاطعات ذات التفكير المتقدم. وتُجمِع الآراء المحلية على أن دخول روسيا في منظمة التجارة العالمية، سيقودها إلى طفرة استثمارية، إلا أن البعض يقول إن تحقيق ذلك غير ممكن ما لم تقوم روسيا بتحسين مناخها التجاري. ووعد بوتين كذلك بإنشاء هيئة لرد مظالم المستثمرين، الخطوة التي استدعتها المعاناة التي تعرضت لها “بي بي” البريطانية في ظل شراكتها الروسية. لكن وبإخفاقه في القيام بالإصلاحات، يشك الكثيرون في تنفيذ هذا الوعد الأخير أيضاً. ويرى البعض أن الفساد والقوانين المقيدة أقل ضرراً من عدم إمكانية الحصول على التمويلات اللازمة، على الرغم من ارتباط المشكلتين ببعضهما البعض، حيث يتردد المستثمرون في وضع أموالهم في روسيا خوفاً من سرقتها. ووفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، تُعد روسيا أكثر سوءاً من الصين والهند والبرازيل فيما يتعلق بتوافر وإمكانية الحصول على التمويل. ولا تعتبر حكومات دول “البريك” الأخرى أكثر نزاهة وعدلاً أيضاً، إلا أن دولها أقل افتراساً للمستثمرين من روسيا. كما أن اقتصاداتها تعتمد بصورة أكبر على مواهبها، وأقل على النفط والغاز. ومع أن إحياء القطاع الصناعي في روسيا يتطلب المزيد من الوقت، إلا أنه ليس من الحكمة إقصاء الخبراء الصناعيين من المساهمة في هذه العملية. نقلاً عن: «ذي إيكونوميست» ترجمة: حسونة الطيب