أشار السيد فليفل، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بمعهد البحوث الأفريقية في جامعة القاهرة، وعضو البرلمان المصري، وعضو البرلمان الأفريقي، إلى قناعته بأنه منذ ظهور النفط، باتت منطقة الخليج ومنطقة البحر الأحمر، أشبه بإقليم واحد من الناحية الاستراتيجية. والارتباط بين الإقليمين يعكس أهمية منطقة حوض النيل، التي ترتبط أيضاً بأمن البحر الأحمر. «فليفل» يُشبّه التداخل الاستراتيجي بين منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر وحوض نهر النيل والقرن الأفريقي بقوس استراتيجي تمتد أطرافه لتصل إلى منطقة الشام وشرق المتوسط وغرب وجنوب مصر، وعلى هذا النحو أصبح أمن نفط منطقة الخليج مرتبط بأمن قناة السويس. ويلفت «فليفل» الانتباه إلى قاعدة تاريخية تتمثل في أن إثيوبيا لطالما كانت تضغط على القوى الاستعمارية، وأيضاً على دول حوض النيل المجاورة لها من أجل الوصول إلى سواحل البحر الأحمر، وفي عام 1897 تمت مقايضة إثيوبيا بمنحها منطقة يطلق عليها «سلطنة العفر»، وحصلت إثيوبيا من بريطانيا على إقليم أوجادين الصومالي. إثيوبيا تدرك - حسب فليفل- أهمية التوازن في علاقاتها بين إيران ودول الخليج، فأديس أبابا تستفيد من الاستثمارات الزراعية الخليجية سواء كويتية أم سعودية أم إماراتية. وكان هناك استقطاب بين إثيوبيا والسودان وإيران واليمن إبان عبدالله صالح في مواجهة إرتيريا، ذلك أن الأخيرة كان لديها خلاف مع اليمن حول جزيرة «حنيش» تم حسمه بالتحكيم الدولي وإقرار ملكية اليمن لهذه الجزر.. ناهيك عن الصراع الإثيوبي الإرتيري والحرب التي نشبت بين البلدين خلال الفترة من 1998- 2000 والنزاع بينهما حول منطقة «بادمي» الذي تم حسمه بعد وساطة سعودية- إماراتية، بموجبها أبرم اتفاق سلام بين أسمرة وأديس أبابا، ولازالت إثيوبيا تسيطر على هذه المنطقة، لكن بعد اتفاق السلام ستنسحب منه.
وأكد «فليفل» أن الإمارات أدركت خطورة ما يجري في اليمن بعد انقلاب «الحوثيين» على الحكومة الشرعية، وما ترتب عليه من تهديد الانقلابيين لحركة الملاحة في باب المندب، وكان من الضروري الوصول لمواقع استراتيجية مطلة على خليج عدن أو قريبة من باب المندب في سواحل جيبوتي أو في موانئ صوماليلاند. وفي إطار ردها على تنامي العلاقات السودانية- الإيرانية، والإثيوبية- الإيرانية، ضغطت المملكة العربية السعودية على السودان كي ينهي علاقته بطهران، وبالفعل تم طرد دعاة نشر المذهب الشيعي من السودان، وتغير الوضع كثيراً بعدما ساهمت السودان مع التحالف العربي في مواجهة «الحوثيين» باليمن. وحسب «فليفل»، فإن السودان كانت اتفقت مع تركيا على تأهيل جزيرة «سواكن» وإعادة تأهيل الآثار المصرية فيها كي تصبح منطقة سياحية، وتم الرد على هذه المساعي التركية بتنظيم مناورات بحرية كبرى في يوليو2018 شاركت فيها البحرية المصرية والبحرية الأردنية وأيضاً قوات سعودية وإماراتية وأميركية، وشهدت المناورة زيارات للموانئ والتعرف على القدرات اللوجستية في التزود بالوقود والإمدادات، كما دشنت مصر هيئة بحرية جديدة تحمل اسم «أسطول الجنوب».
وكلها جهود من أجل جعل أمن البحر الأحمر يسير في اتجاه عربي وأفريقي، بعيداً عن تدخلات إقليمية، أو حتى دولية تضر بمصالح الدول المتشاطئة على البحر الأحمر.

إنصاف إريتريا
ويرى «فليفل» أنه حدث نوع من تصفية الخلافات المصرية - السودانية، وبناء توافقات جديدة بين البلدين، خاصة ما يتعلق بدعم كل طرف منهما لقوى المعارضة المقيمة لدى الطرف الآخر، ومنع هذه القوى من ممارسة أنشطة معادية للاستقرار في كلا البلدين، كما أن احتواء إثيوبيا من خلال علاقات خليجية قوية، سيجعلها لا تهتم كثيراً بالتحالف مع السودان، خاصة بعد اتفاق السلام الإثيوبي- الإريتري.
وأكد «فليفل» أنه ليس صحيحاً ما يتم ترويجه من دعاية مضللة مفادها أن علاقات إريتريا بإسرائيل تطغى على علاقاتها بالدول العربية، ذلك لأن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أكثر رؤساء العالم زيارة للقاهرة، كما توجد جالية إرتيرية في مصر تتلقى تعليمها في الجامعات المصرية، وتنتشر جالية إرتيرية في السعودية والإمارات كقوى عاملة. والهدف من هذه الادعاءات تشويه إريتريا وتوتير علاقاتها مع الدول العربية. وضمن هذا الإطار، يقول د.أيمن شبانة، نائب مدير مركز حوض النيل بجامعة القاهرة، إن إريتريا تنفي وجود قاعدة عسكرية إسرائيلية على أراضيها انطلاقاً من أن هذا يتناقض مع اتهامات أخرى وجهت إليها تدور حول منحها تسهيلات عسكرية لإيران، كما أن إسرائيل ذاتها لديها تاريخ طويل من العداء للثورة الإريترية وبالتالي لن يكون بمقدور أسمرة أن تبرر للشعب الإريتري استضافة وجود عسكري إسرائيلي.
من وجهة نظر، «فليفل»، تدرك أسمرة أن أمنها مرتبط بالعلاقات الإيجابية مع السعودية ومصر. ولفت «فليفل» الانتباه إلى أن هناك رابطة قديمة بين مصر وحركة التحرر الوطني في إرتيريا التي طالبت بالانفصال عن إثيوبيا منذ أيام إدريس حامد عواتي في عام 1957، الذي يعد أول من بدأ مقاومة إثيوبيا بعدما اعتدت أديس أبابا على البرلمان الإرتيري.
الدور الإماراتي في اليمن يعكس إدراكاً لخطورة التواجد الإيراني من خلال «الحوثيين» في ميناء الحديدة وما يترتب عليه من تهديد الملاحة الدولية، كما أن مصر تلعب دوراً في سوريا داعماً لنظام بشار الأسد من أجل مواجهة استفحال الدور الإيراني، فالقاهرة تتوسط بين الحكومة وبعض فصائل المعارضة السورية كي لا تصبح إيران قوة إقليمية وحيدة داخل الساحة السورية، متحالفة مع النظام السوري، واستطاعت مصر تخفيف حدة الموقف الخليجي تجاه الوضع في سوريا، ما يفتح الباب أمام منافسة التدخل الإيراني في هذا البلد العربي الذي يعاني من عدم الاستقرار منذ 2011.
وبالنسبة لجيبوتي، مر استقلالها بتسويات معقدة، حيث كانت هناك مطالب لضمها إلى إثيوبيا والصومال، واستقلت عام 1977 بناء على توافق عربي- أفريقي وبضمانة فرنسية. وبخصوص القرصنة- يقول «فليفل»- إنها «أكذوبة كبرى» لأن ما جرى هو توظيف لبعض المغامرين الأجانب غير الصوماليين ضد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب ليكون ذلك مبرراً لتواجد أساطيل أجنبية في البحر الأحمر، ولم يقدم المجتمع الدولي دعماً للأسطول الصومالي الذي كان يقوده سعيد مارينا، فلم يحصل على الوقود اللازم ولا التموين الكافي لحماية السواحل الصومالية، والنتيجة أنه تمت استباحة السواحل الصومالية من خلال عمليات صيد غير قانونية للأسماك النادرة، وظهرت شركات أجنبية للتنقيب عن النفط والغاز، لاستباحة سواحل الصومال، الذي يتم تعطيل وحدة أراضيه، وبناء دولة مركزية فيه.
ويدعو «فليفل» العالم العربي إلى الحديث عن عودة الصومال الموحد، خاصة في الاتحاد الأفريقي، لأن التدخل الأجنبي انتهى بإهانة الشعب الصومالي، ولابد من وقفة عربية لمنع تقسيم الصومال، وهذا يستوجب سياسات ذكية، فالشمال الصومالي منحاز لإثيوبيا ويحظى بتأييد بريطاني، ومن المهم احتضانه والاستثمار فيه ودعم أواصر تكامله مع إقليمي الجنوب والشرق الصوماليين. وينبغي أن يحظى أمن البحر الأحمر باهتمام على أجندة القمة العربية- الأفريقية المقبلة، المقرر انعقادها بالمملكة العربية السعودية في 2019.

إدارة موانئ وأمن غذائي
عن أهمية منطقة البحر الأحمر، لدول الخليج، خاصة الإمارات والسعودية، يرى الدكتور أيمن شبانة، نائب مدير مركز حوض النيل بجامعة القاهرة، أن اقتراب «الحوثيين» من مضيق باب المندب بعد تمكنهم من الانقلاب على الحكومة اليمنية الشرعية في 2014، عزز بالنسبة لهذه الدول، من الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، ودعا لضرورة التواجد سواء العسكري أو الاستثماري على شواطئه، علماً بأن 22 إلى 30 ألف سفينة تجارية تمر من خليج عدن كل عام، وبالنسبة للإمارات، يقول شبانة، تستعد لعصر ما بعد النفط، وتخطط لتنويع مصادر دخلها، والانتقال من الاقتصاد الريعي المعتمد على تصدير النفط إلى تنويع مصادر الدخل، وضمن هذا الإطار تأتي خبرة الإمارات في إدارة الموانئ، التي يمكن تفعيلها في الدول المطلة على البحر الأحمر، فالإمارات تدير 77 ميناء حول العالم، من بينها ميناء عدن خلال الفترة من 2008 إلى 2011، أول عقد عملاق للخدمات اللوجستية أبرمته «شركة دبي العالمية للموانئ» عام 2006 مع جيبوتي من أجل تطوير ميناء «دوراليه». الإمارات نجحت في الحصول على عقود إدارة وتطوير موانئ مهمة على البحر الأحمر مثل مينائي عصب ومصوع في إريتريا في 2015، وميناء بربرة في «صماليلاند» 2017، وتزداد أهمية هذا التوجه مع حدوث ثلاثة تطورات مهمة هي: توسعة قناة السويس، والإعلان عن جسر الملك سلمان بين مصر والسعودية، وإطلاق مشروع «نيوم» لإقامة منطقة اقتصادية عالمية بين مصر والسعودية والأردن.
إقليم البحر الأحمر يضم دولاً لديها علاقات تجارية واستثمارية قوية مع الإمارات التي أصبحت أكبر مستثمر بالسوق المصري بقيمة 6.2 مليار دولار، وحجم تجارة البلدين 1.5 مليار دولار، كما بلغت قيمة الاستثمارات الإماراتية في السعودية عام 2017 قرابة 4.1 مليار دولار، وبلغت المبادلات التجارية للبلدين 22.8 مليار دولار، وبالنسبة لدول القرن الأفريقي، فإن حجم تجارة الإمارات مع إثيوبيا وكينيا والصومال 5 مليارات درهم، ووصل حجم استثماراتها في الدول الثلاث 17 مليار درهم، وهذا كله يعني - حسب شبانة- أن استقرار البحر الأحمر والقرن الأفريقي يعد مصلحة اقتصادية وتجارية واستراتيجية للإمارات.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد المصالحة الإريترية- الإثيوبية التي تمت برعاية سعودية وإماراتية، سيزداد اعتماد إثيوبيا في صادراتها ووارداتها على ميناءي عصب ومصوع الإريتريين، وذلك بعدما كانت إثيوبيا تعتمد على جيبوتي في تسيير 90 في المئة من تجارتها استيراداً وتصديراً. علماً بأن لدى الإمارات علاقات دبلوماسية كاملة مع إثيوبيا التي يبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة، ولدى الإمارات سفارة في أديس أبابا منذ عام 2010. ومن المهم أيضاً للإمارات تقليل الاعتماد على مضيق هزمز في تصدير النفط، والاستثمار في الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به دول منطقة البحر الأحمر، من خلال التعاون الأمني معها. وهناك الأمن الغذائي الذي يمكن تعزيزه بالتعاون مع إثيوبيا سواء في زراعة مساحات واسعة داخل إثيوبيا من المحاصيل الاستراتيجية لصالح الاستهلاك المحلي الإماراتي، أو استيراد منتجات غذائية. الإمارات أصلاً ثاني أكبر بلد يستورد منتجات من إثيوبيا بعد السعودية، ولدى الإمارات استثمارات في منطقة القرن الأفريقي، أي ثاني أكبر استثمار في هذه المنطقة بعد السعودية، والإمارات هي ثاني أكبر مستورد للبن الإثيوبي بعد السعودية.
وبالنسبة للسعودية، فإنها تعزز علاقاتها مع الدول المطلة على البحر الأحمر، وضمن هذا الإطار، كان سفير جيبوتي في المملكة العربية السعودية قد أعلن في 2016 أن الرياض بصدد تدشين قاعدة عسكرية في جيبوتي، البلد الذي يعد أكثر دول إقليم البحر الأحمر استضافة للقواعد الأجنبية، فهناك قاعدة «ليمونييه» الفرنسية، التي استأجرتها الولايات المتحدة عام 2001 تمهيداً لتدشين قيادة أميركية بأفريقيا «أفريكوم»، وبدأت اليابان في تأسيس قاعدة هناك عام 2009، وهي الخطوة ذاتها التي أقدمت عليها الصين منذ عام 2015.

الإرهاب المحيط بخليج عدن
والخطر أن يتم ترك منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي ساحة مفتوحة لقوى إقليمية لايهمها استقرار المنطقة بقدر ما هي حريصة على بسط النفوذ وخلق تحالفات خارج مجالها الحيوي الطبيعي، وضمن هذا الإطار يقول «شبانة» إن أهمية البحر الأحمر والقرن الأفريقي تتضح في مساعي تركيا التي تعد أكبر داعم لإعادة الإعمار في الصومال، حيث دشنت قاعدة عسكرية في الصومال، ولديها سفارة هي الأكبر في هذا البلد الواقع في القرن الأفريقي والمطل على المحيط الهندي وخليج عدن، مساحة هذه السفارة بلغت47000 متر مربع، ومقرها مقديشيو، وذلك خلافاً لدول أخرى أقامت مقار دبلوماسية في دول مجاورة للصومال مثل كينيا وإثيوبيا لمباشرة مصالحها داخل الصومال. تركيا أيضاً مهتمة بالتواجد في جزيرة سواكن السودانية والواقعة على البحر الأحمر، التي تبعد 700 كيلو متر فقط عن السد العالي في مصر، وعلى بعد 335 كيلو متراً من جدة و350 كيلو متراً من حلايب كما أن قطر لديها استثمارات في ميناء بور سودان، وسبق للدوحة أن اتفقت مع إريتريا بشأن الاستثمار السياحي في جزيرة دهلك.

«ولاية القرن الأفريقي»
ومن المهم التركيز على الصومال، الذي يعاني من الاضطرابات منذ 26 عاماً، حيث صومايلاند في الشمال، كإقليم منفصل عن بقية الصومال منذ 1991، وهو مقابل من الناحية الجغرافية لخليج عدن، وفي الإقليم ميناء بربرة، وفي بونتلاند، (حكومة إقليمية تتمتع بحكم ذاتي) شمال شرق الصومال، وبها ميناء بوساسو، يوجد فصيل إرهابي منشق عن «حركة الشباب» يسمى فصيل «عبدالقادر مؤمن»، وسعى تنظيم «داعش» الإرهابي للتواجد في الإقليم والتحالف مع هذا الفصيل، أملاً في تشكيل ما يُسمى (ولاية القرن الأفريقي)، ناهيك عن حركة الشباب المتمركزة في مقديشو وقسمايو جنوب الصومال، أي أن خطر الإرهاب والميليشيات المسلحة بات محدقاً بخليج عدن سواء على السواحل الجنوبية لليمن حيث «الحوثيين» أو السواحل الشمالية الشرقية للصومال (داعش- الشباب)، هذا يستوجب احتواء الصومال والحرص على استقراره كي لا يتحول ساحة لتنظيمات إرهابية أو منصة لقوى إقليمية معادية.. وضمن هذا الإطار أكد د. وحيد عبدالمجيد، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أهمية وجود الصومال في الاجتماع الوزاري الخاص بالدول المطلة على البحر وخليج عدن، فذلك سيعجل بتعافي الدولة الصومالية، ويضمن لها وضوحاً في الرؤية السياسية، يمنع وقوعها في أخطاء، خاصة في ظل سباق تركي وأيضاً قطري على التواجد بهذا البلد.

تحديات «قوس الأمن البحري» من قناة السويس إلى موانئ الخليج العربي
قالت ابتسام الكتبي، رئيسة مركز الإمارات للسياسات، وأستاذة العلوم السياسية: من المؤكد أن سلسلة الأزمات والصراعات التي اندلعت في السنوات الأخيرة وثَّقت عملية التأثُّر والتأثير المتبادَلينِ بين منظومة الأمن في الخليج العربي ومنظومة الأمن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، لاسيما مع تزايد حدة التهديدات الإيرانية والجماعات الميليشياوية التابعة لها في المنطقة.
ولدى الكُتبي قناعة بأن إدراك المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لأهمية وعمق وحيوية الترابط بين أمني هاتين الدائرتين الإقليميتين المتجاورتين كان بمثابة الدافع الرئيس وراء قيادة تحالف عربي واسع للتدخل في اليمن عبر عملية «عاصفة الحزم» فـ«إعادة الأمل» الهادفة لاستعادة الشرعية في هذا البلد.
وهذا الإدراك لمدى عمق التداخل بين أمن الدوائر الإقليمية المشار إليها، والذي تتشارك فيه أبوظبي مع كلٍّ من الرياض والقاهرة، تزايد في ضوء التنافس الملحوظ بين القوى الدولية على النفوذ والحصول على موطئ قدمٍ في المنطقة، وهو التنافس الذي ارتفعت وتيرته مؤخراً وعبَّر عن نفسه في التسابق المحموم على بناء قواعد عسكرية ونقاط ارتكاز استراتيجية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
وحسب الكتبي، فإن النشاطات الإرهابية التي طالت أمن الممرات المائية وتهديدات جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، فضلاً عن أنشطة القرصنة البحرية وتجارة البشر، قد أضافت أبعاداً أخرى عزَّزت من أهمية العلاقة بين أمن منظومتي الخليج العربي والبحر الأحمر، وأكَّدت حيوية الترابط بينهما، وأهمية القيام بخطوات وإجراءات إضافية لتعزيز الأمن الإقليمي والدولي وحماية ممرات الملاحة البحرية وضمان حرية التجارة وسلامتها عبر هذه المعابر المهمة.
ويتأسَّس النهج الذي تتَّبعه دولة الإمارات العربية المتحدة على إدراك واسع وعميق بخطورة تلك التهديدات وغيرها من تطورات ضارة على الأمن والسلم الدوليين، وأكدت الكتبي أن السياسة الإماراتية تعي أنه من الأهمية بمكان أن تصبح دول المنطقة جزءاً من أي ترتيبات ذات صلة بأمنها وسيادتها واستقرار مجتمعاتها ورخاء شعوبها، وأن تَستَبِق دائماً أيَّ تهديدات ممكنة بجهد أمني وسياسي ودبلوماسي مُنسَّق وبنَّاء مع الشركاء والحلفاء الدوليين، وبما ينعكس إيجاباً على استقرار المنطقة وأمن دولها.

«الحوثيون» وإرباك البحر الأحمر
أكد نجيب غلاب رئيس «منتدى الجزيرة العربية للدراسات»، ووكيل وزارة الإعلام اليمنية، أن أمن البحر الأحمر مرتبط بدول الخليج العربي وأيضاً بأمن مصر، لأن أهمية قناة السويس ستتلاشى إذا ارتبكت الملاحة في باب المندب، كما أن معظم تجارة الاتحاد الأوروبي ستتضرر استيراداً وتصديراً، لأنها تمر من البحر الأحمر. ويرى غلاب أن بريطانيا كقوة أوروبية كبرى- أدركت أهمية أمن البحر الأحمر، وهذا ظهر بوضوح عام 2016 عندما أرسلت قطعة بحرية إلى باب المندب لتأمين الملاحة عبر هذا المضيق الحيوي بالنسبة للتجارة الدولية. وأكد غلاب أننا عندما نتحدث عن أمن البحر الأحمر، لابد وأن نتعامل مع «قوس أمن بحري» ممتد من قناة السويس إلى بحر العرب ثم موانئ دول الخليج. «غلاب» أشار إلى الطموحات التركية في منطقة البحر الأحمر، التي تمثلت في مساعي أنقرة لتأجير جزيرة سواكن السودانية، والتحرك التركي صوب الصومال، وطموحاتها للوجود في الموانئ اليمنية من خلال وساطة قطرية، فالدوحة كانت تحاول لعب دور الوكيل لتمرير هذا التدخل، من خلال التركيز القطري على ملف تعز حيث ميناء المخا، ولصالح تركيا، وحاولت قطر التدخل عبر عناصر يمنية موالية لها، وكانت الدوحة تضغط على أطراف في الحكومة الشرعية لتتسلم هذا الملف، قبل فشل مساعيها وطردها من التحالف العربي الداعم للشرعية بعدما تأكد خروجها عن أهداف «عاصفة الحزم». وأشار غلاب إلى أن قطر دبّرت- قبل أشهر- تظاهرات في تعز، من أجل التشكيك في دور «التحالف العربي»، ضمن خطوة مرتبطة بطموحات الدوحة وأنقرة للوجود في اليمن ومن ثم البحر الأحمر.
وأكد غلاب وجود قناعة وتوافقات كاملة من الأوروبيين والأميركيين والعرب حول الحفاظ على أن الملاحة في البحر الأحمر، لكن بمجرد وصول «الحوثيين» في باب المندب، ارتبك أمن البحر الأحمر، وحاول «الحوثيون» نقل الحرب إلى باب المندب ومحاولة ابتزاز المجتمع الدولي، وهذا الأخير يحاول إخراج «الحوثيين» من الساحل بأقل التكاليف، حتى لا يتأثر أمن البحر الأحمر، ولدى المجتمع الدولي قناعة بأن خروج «الحوثيين» من الساحل اليمني كله مطلب دولي لضمان أمن البحر الأحمر، لأن وجود «الحوثيين» على الساحل اليمني معناه وجود إيران في هذه المنطقة الحيوية لأمن الملاحة الدولية.
ولفت غلاب الانتباه إلى أن الموانئ التي لا تزال تحت سيطرة «الحوثيين»، وهي «رأس عيسى» و«الصليف» و«اللّحيّة»، وتحرير هذه الموانئ ليس صعباً، فميناء «الصليف» يعد الأهم بالنسبة لاستيراد المواد الغذائية لليمنيين، علماً أن ميناء الحُديدة مختص باستيراد سلع كمالية مثل السيارات والأجهزة الكهربائية، أما ميناء «رأس عيسى»، فتم تدشينه لتصدير نفط منطقة مأرب. ويشير غلاب إلى الجزر اليمنية الكائنة على الساحل الغربي، مثل جزيرة «كمران» وجزيرة حنيش وجزيرة «ميدي» التي تم تحريرها بالكامل وهي قريبة من منطقة جيزان السعودية. والخوف من أن تتحول هذه الجزر في ظل الانقلاب «الحوثي» إلى منصات لتهريب السلاح والمخدرات سواء للقرن الأفريقي أو لمناطق أخرى، خاصة في ظل خبرات سابقة لتهريب السلاح من داخل اليمن عبر «مافيات» تقوم باستيراده ثم إعادة تصديره، حيث كانت هناك شبكة لتهريب السلاح من صعدة إلى جزيرة «ميدي» ثم إلى سواحل القرن الأفريقي وتم تفكيك هذه المافيات التي كانت تغذي الإرهاب في الصومال عبر السلاح المهرب من منطقة صعدة. وأشار «غلاب» إلى أن الأمم المتحدة أصدرت قراراً بمعاقبة تجار يمنيين ضالعين في عمليات تهريب سلاح قبل عام 2011، وكانت عمليات التهريب أكثر وضوحاً منذ عام 2004 أي مع بداية التمرد «الحوثي» على نظام عبدالله صالح.

النفوذ الإيراني.. موسم الانحسار
وإذا كانت «عاصفة الحزم»، و«إعادة الأمل» فرصة لتأكيد أهمية الضفة الأفريقية للبحر الأحمر وامتداداتها في القرن الأفريقي، فإن بعض دول هذه الضفة عدّلت بوصلة تحالفاتها على ضوء تطورات شهدتها المنطقة، على سبيل المثال قطعت السودان وإريتريا والصومال علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، بعد حرق القنصلية السعودية في مدينة «مشهد» الإيرانية مطلع يناير 2016، وذلك بعدما حصلت طهران في وقت سابق على تسهيلات لوجستية وأحياناً عسكرية في الدول الثلاث. وضمن هذا الإطار، ترى د. أميرة عبدالحليم، خبيرة الشؤون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن السودان كان أكبر حليف لإيران في البحر الأحمر وشرق أفريقيا عموماً، حيث كان لدى طهران 26 مركزاً ثقافياً في السودان، وكانت العلاقات بين البلدين تتطور من منظور أنهما يواجهان ما تصفه إيران بـ «الاستكبار الأميركي»، وتعرضتا لعقوبات أميركية. وحتى كينيا التي تربطها علاقات تجارية ضخمة مع إيران، سرعان ما تبين أن لدى طهران جواسيس في هذا البلد.
وتلفت د. أميرة الانتباه إلى أن إيران قد تحاول الولوج مرة أخرى إلى دول البحر الأحمر والقرن الأفريقي عبر بوابة التحالف القطري- التركي- الإيراني، خاصة أن لدى تركيا حضوراً في السودان عبر ميناء سواكن، وأيضاً في الصومال عبر قاعدتها العسكرية وسفارتها الضخمة في مقديشو، وكذلك قطر التي تحاول التأثير على الصومال، ولديها استثمارات في ميناء بور سودان. وفي ظل استمرار الأزمة اليمنية، فإن الحرس الثوري لم يقلل من وجوده في المنطقة، علماً بأن إيران سبق لها تدريب «الحوثيين» في إريتريا قبل وصول الإمارات إلى ميناء عصب، كما تنشط العلاقات الإيرانية مع جنوب أفريقيا، فهذا البلد لديه علاقات تاريخية مع طهران. ولابد من الاستعداد لاحتمالات عودة النفوذ الإيراني، من خلال المراكز الثقافية، التي يمكن أن تنشط مرة أخرى في هده البلدان. ولدى أميرة قناعة بأن دول الخليج، خاصة الإمارات والسعودية يتعين عليها إدراك البراجماتية الشديدة التي باتت دول البحر الأحمر والقرن الأفريقي تنتهجها في علاقاتها الدولية فالمدخل الاقتصادي هو الحاكم، وينبغي تعزيزه في إطار من الشراكة وليس الهيمنة لا التبعية، لأن هذه الدول تغير تحالفاتها بسرعة. وينبغي أيضاً التركيز على المنظور التنموي وهو ما نجحت فيه الصين، وتستطيع الإمارات والسعودية تطوير شراكات طويلة الأجل مع هذه الدول تتضمن قطاعات مجتمعية وتمس ملفات مهمة كالتعليم والصحة، ويستطيع البلدان نقل تجاربهما الناجحة في الطاقة النظيفة والخدمات الحكومية الذكية.

«ازدحام عسكري»
الوجود العسكري لقوى دولية كبرى وإقليمية في مياه البحر الأحمر، خاصة عند مدخله الجنوبي، يعكس الأهمية المتزايدة لهذا الشريان الملاحي، فهناك ما يمكن تسميته «ازدحاماً عسكرياً» قبالة سواحل جيبوتي، حيث توجد قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وصينية وإيطالية وبعثة أوروبية لمكافحة القرصنة، وهناك اتفاق على قاعدة سعودية. فبعدما دشنت الولايات المتحدة «فرقة العمل المشتركة في القرن الأفريقي منذ عام 2002، والتي تم إدماجها عام 2008 في«القيادة الأميركية لأفريقيا»، تحول معسكر «ليمونير»، الذي كان مقراً سابقاً للجيش الفرنسي في جيبوتي إلى قاعدة عسكرية دائمة للولايات المتحدة في القارة السمراء، مقابل 38 مليون دولار سنوياً. جيبوتي أيضاً منذ 2010 هي مقر بعثة بحرية مشتركة للاتحاد الأوروبي لمكافحة القرصنة ضمن ما يعرف بعملية «أطلانطا»، التي تشارك فيها قوات من ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا واليونان وهولندا وبريطانيا والسويد. وتم إطلاق بعثة أوروبية جديدة في 2012، ما يبعث على الدهشة أن اليابان في 2010 دشنت في جيبوتي أول قاعدة عسكرية لها في الخارج منذ عام 1945 في إطار مكافحة القرصنة، وهناك أيضاً دشنت الصين في أغسطس 2017 أولى قواعدها العسكرية داخل أفريقيا. مفارقة أن تكون القاعدة الأميركية في جيبوتي ليست بعيدة عن نظيرتها الصينية، وكأن واشنطن وبكين تنقلان سباقهما من بحر الصين الجنوبي إلى الشرق الأوسط، لكن الصين تريد تأمين خطة «طريق واحد حزام واحد»، ولديها مشروعات ضخمة لربط سواحل السودان بوسط أفريقيا وربما المحيط الأطلسي عبر خطوط سكك حديدية. الصورة تتضح تفاصيلها بعد الاتفاق الروسي على قاعدة عسكرية في إريتريا، والحضور العسكري التركي في الصومال، وفي ميناء سواكن السوداني والاستثمارات القطرية في ميناء بورسودان. وتنامي الأهمية الاستراتيجية لإقليم «صوماليلاند» في ظل عمليات «التحالف العربي» ضد الانقلاب الحوثي في اليمن، فالإقليم مواجه جغرافياً لخليج عدن، ومن ثم تتعاظم بالنسبة للإمارات أهمية ميناء بربرة في صوماليلاند وميناء «بوساسو» في إقليم «بونت لاند» الصومالي. مشكلة الازدحام العسكري أنه يتم على أراض دول لديها خصومات تاريخية عميقة، وأن وجود قواعد لقوى كبرى يسهم في تدريب جيوش الدول المضيفة وتسليحها، ما قد يشعل فتيل التوتر في حال اندلاع مواجهات مسلحة بين دول الإقليم. وربما تزداد فرصة احتكاك القوى الكبرى في المنطقة، خاصة أنها منتشرة على مسافات متقاربة جداً.

إحياء مفهوم «أفرابيا»
الباحث والمفكر الكيني الراحل الدكتور علي مزروعي، اقترح مفهوم «أفرابيا» أي الارتباط بين القرن الأفريقي وشرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، فالمكونات الثلاثة تشكل تكتلاً إقليمياً واحداً، حيث هناك ارتباط جغرافي وتجاري يجمعها، واستقرار أي مكون ينعكس على بقية المكونات والعكس صحيح.
ويرى د.حمدي عبدالرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعتي زايد والقاهرة، أنه لدى المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر رؤية مشتركة تجاه البحر الأحمر تتمثل في منع الصراعات ومكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب والتصدي للجماعات الجهادية العنيفة، وهناك معطيات يقول «عبدالرحمن» إنها تطرح أهمية الارتباط بين أمن الخليج والقرن الأفريقي والبحر الأحمر، فأولاً هناك الأزمة الخليجية المتمثلة في خروج قطر على الإجماع الخليجي وانتهاج سياسات معادية، ومحاولات التواجد الإيراني في البحر الأحمر، والتزاحم الدولي قبالة سواحل جيبوتي، والفوضى المستمرة في الصومال، وظهور حركة «شباب المجاهدين» وتحولها إلى جماعة إرهابية، ومخاطر تشظي الصومال إلى ميليشيات وأمراء حرب، لدرجة أنه بات في بعض الأوقات مكباً للنفايات النووية.

 إقرأ أيضاً.. رؤية عربية لأمن «أفرابيا»: ثلاثية الخليج والبحر والقرن (2-2)