لم يمر على حلول فصل الشتاء إلا أسبوعان. لكن التساقطات المطرية الغزيرة التي شهدتها بلدان عديدة والعواصف الثلجية التي ضربت الكثير من الدول، عطلت حركة السير البري والبحري والجوي وأجبرت المطارات على إلغاء رحلاتها والمحطات على توقيف قطاراتها، وكست أجواء مناطق يَندُر أن تنخفض درجات حراراتها ببرد غير مسبوق، فجعلت الناس يستشعرون وكأن الشتاء حل من أشهر عدة، أو أوشك على الرحيل، بينما هو في بدايته. فهل تؤشر التقلبات الجوية الأخيرة الى أن ما ينتظرنا من أيام شتوية هو أقسى وأعظم؟ يقول عُلماء المناخ وخبراء الأرصاد الجوية إن سبب برودة الطقس في وقت مبكر جداً في أميركا هو ظهور أنماط جوية شمال المحيط الأطلسي نتج عنه دفع تيارات هوائية من كندا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإنها ستبرح المدن الأميركية قريباً. لكن هذا الأمر يبقى في نهاية المطاف مجرد توقع قد يصيب كما قد يخطئ، إذ عُرف عن علماء المناخ سرعة تملصهم من توقعاتهم وافتراضاتهم وتخليهم عن رهاناتهم، وهم يعترفون أن الطبيعة وتقلباتها لا تزال تخذُلهم كثيراً وتصدُقهم قليلاً. كيفن ترينبورث هو عالم مناخ أميركي يعمل في المركز الوطني للبحوث الجوية بمقاطعة بولدر في ولاية كولورادو، وله ما يقول في هذا الصدد “ليس هناك على حد علمي سبب خاص جلي يُفسر برودة الطقس مبكراً أو يُؤكد استمرار الجو على نفس الوتيرة بقية أيام فصل الشتاء التي لم يمر منها إلا القليل، لكنني مع ذلك لا أستطيع القول إن ذلك لن يحدث”. برْد وبرَد حل إذن فصل الشتاء وأجزاء كثيرة من أميركا وأوربا مغطاة بالثلوج وأهلها مُدثرون بأكثر الملابس الشتوية سماكةً وأحوال منازلهم أشبه ما تكون بإقامات جبرية فرضها سُلطان الثلج ولسع البرْد والبرَد، وحل العام الجديد ولم تنته الجرافات في أميركا وأوربا من جرف أكوام الثلوج المتراكمة هناك وهناك. وقد أصدر المركز الوطني لخدمات التوقعات الجوية الأميركي الذي يُعنى بتحليل التغيرات الجوية للتنبؤ بحالات الجو في الأيام التالية القادمة بياناً رسمياً للتوقعات الجوية. ويفيد هذا البيان أن المؤثر الرئيس على حالة الجو التي سبقت فصل شتاء هذا العام وأكثرها رُجحاناً هو ظاهرة “النينيا”. لا نينيا وإل نينيو يقول بوب هينسون، عالم أرصاد جوية بالمركز الوطني للبحوث الجوية، إن السنوات التي تشهد هبوب “لا نينيا” قوية أو معتدلة بشكل عام تكون مقدمةً لأنماط جوية شتوية مميزة. فظاهرة “لا نينيا”التي يتجلى تأثيرها في برودة الجو هي عكس ظاهرة “إل نينيو”، وينتُج عنها انخفاض في درجات الحرارة إلى أقل من مستوى حرارة سطح البحر وتمتد على طول المنطقة الأستوائية من المحيط الهادي. وحسب مركز التوقعات الجوية، فإن ظاهرة “لا نينيا” لهذا العام قوية وقد تستمر إلى شهر أبريل أو مايو من العام الحالي. ويتوقع هذا المركز بأن تكون درجات الحرارة فوق المعدل في الولايات الجنوبية والوسطى، ودون المعدل في الولايات الغربية وأقصى الشمال. وتُرجح غالبية التقديرات والتوقعات أن تكون حالة الطقس فوق المتوسطة مع سقوط المزيد من الأمطار والثلوج في المناطق الشمالية الغربية وجبال الروكي الشمالية والبحيرات العظمى ونهر أوهايو شرق الولايات المتحدة الأميركية. “هرمجدون” ثلجية أشار مركز التوقعات الجوية الأميركي أنه من غير الوارد أن تتكرر العاصفة الثلجية القوية التي ضربت واشنطن العاصمة خلال فصل الشتاء الحالي. وقد كانت تلك العاصفة التي ضربت واشنطن شهر فبراير من العام المنصرم من بين العواصف الثلجية الأعنف من نوعها في تاريخ أميركا، إذ تسببت فى اقتلاع الأشجار وانقطاع الكهرباء عن مئات الآلاف من السكان وإلحاق أضرار جسيمة بواشنطن والمدن المجاورة، كما جعلت الرئيس الأميركي باراك أوباما يطلق عليها “هرمجدون ثلجية”، وكأنها معركة ثلجية استُنفرت لها جيوش من قدامى مزيلي الثلوج وجارفيها وأجبرت الرئيس الأميركي على التنازل عن “الليموزين” في مواكبه والتنقل في سيارات رياضية. وأفاد المركز أيضاً أنه ستكون هناك تساقطات دون متوسطة في الولايات الجنوبية وستمتد إلى الأقاليم الأطلسية الوسطى التي تضم نيويورك ونيوجيرزي وبنسلفانيا. ومن جهة أخرى، قال خبراء من المركز ذاته إن الولايات الجنوبية الغربية ستشهد جفافاً قد يتواصل طيلة أيام فصل الشتاء وقد يزداد اشتداداً. فيضانات أسترالية خارج الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً في الدول المطلة على المحيط الهادئ، ستحمل ظاهرة “لا نينيا” تيارات هواء رطبة إلى أستراليا التي استقبلت العديدُ من مدنها العامَ الجديد وسط البرك والسيول والمنازل الغارقة بسبب الفيضانات التي تغمرها نتيجة التساقطات المطرية الغزيرة. أما بلدان غرب أميركا الجنوبية، مثل البيرو والإكوادور، فتُرجح التوقعات الجوية أن تشهد طقساً أكثر جفافاً في أيام الشتاء القادمة. وفيما يخص أوربا التي لا تقل فيها الأحوال الجوية سوءاً، فإن تأثير ظاهرة “لا نينيا” عليها قد يؤدي إلى حدوث المزيد من التقلبات والتغيرات التي يصعب التنبؤ بها، كما يقول كيفن ترينبورث. الاستثناء الأوروبي ما عدا تأثير ظاهرة “لا نينيا”، لم يثبُت لدى علماء المناخ وخبراء الأرصاد الجوية وجود عوامل أخرى أدت إلى قساوة الطقس في أميركا وأوروبا في الأسابيع القليلة الماضية. ويقول ترينبورث إن التغيرات الطبيعية الأخرى من قبيل ظاهرة التذبذات الجوية التي يُصطلح عليها “ظاهرة مادن وجوليان” والتي عادةً ما تحمل معها جواً معتدل الأمطار خلال شهر ديسمبر، تعقبُه أيام مريرة في شهر يناير، لن يتكرر حدوثها هذه السنة. ويقول مايك هالبرت، نائب مدير مركز التوقعات الجوية، إن هناك عوامل أخرى تؤثر على حالة طقس كل فصل شتاء، لكنها من النوع الذي يصعُبُ التنبؤ به مبكراً، إذ تُكشف فقط قبل أسبوع أو أسبوعين من وقوع التقلب الجوي أو التغير المناخي. ويضيف هالبرت إن هذا ينطبق تماماً على الولايات الشمالية الشرقية والأقاليم الأطلسية الوسطى، والتي تتأثر بظاهرة تذبذات شمال المحيط الأطلسي وتشمل تغيرات متقابلة على مستوى الضغط الجوي بالقرب من آيسلندا وجزر الآزور البرتغالية الواقعة في المحيط الأطلسي. عن “كريستيان ساينس مونيتور” ترجمة: هشام أحناش