ضمن عروض الدورة السابعة من “مهرجان دبي لمسرح الشباب” المتواصلة على خشبة مسرح “ندوة الثقافة والعلوم” بدبي، قدم “مسرح الشباب والفنون” في دبي، مساء أمس الأول ، مسرحية “الوجه الآخر” تأليف عبد الله صالح، وإخراج حمد الحمادي، وتمثيل الفنانين بدور محمد، إبراهيم أستادي، خديجة محمد، ومسعود عيس المسعود. ويضعنا عمل “الوجه الآخر” أمام سطوة “سلطة الأبوة”، التي لا تعدم الوسيلة لفرض حضورها في المجتمعات الشرقية، حتى لو اقتصر التسلط على الابنة الوحيدة، كما هي الحال مع شاهين في مسرحية “الوجه الآخر” (يقوم بالدور الشاب مسعود عيسى المسعود)، حيث يهيمن على مسار حياة وحيدته أمل (تقوم بالدور بدور محمد)، هيمنة مطلقة، خصوصاً بعد غياب أو تغييب دور الأم التي لم يلحظ العرض حضورها، بأي شكل من الأشكال،لا بل بدت أمل (تقوم بالدور بدور محمد) وكأنها خلقت من ضلع شاهين الأيسر، كما هي سيرة حواء مع سيدنا آدم عليهما السلام . ولكن التشابه في “الوجه الآخر” يقتصر على الدلالة بالمعنى الشكلي للرمز فقط، ولا تقارب الجوهر أو المضمون في طبيعة الخلق وسيرورة الوجود كما أرادها الخالق، ذلك أن حواء كانت مكتملة الدلالات، لجهة الأنوثة بمعاني الخصب والأمومة والحضن الدافئ أو الملاذ الآمن، “ليسكن إليها وتسكن إليه”، كما في الهدي القرآني الكريم. أما أمل، بطلة”الوجه الآخر” فهي مسخ مشوه، ليست بأنثى، وليست بذكر، هكذا أرادها أبوها، حينما رسم شخصيتها على شاكلته، وفق رؤيته وفلسفته الخاصة للحياة، من خلال تجربته الشخصية، بانكساراتها وخيباتها، بنجاحاتها ومسراتها. فالحياة كما كان يلقنها “مال وسلطان وجاه”، أي القوة، ثم القوة، ثم القوة. ولتحقيق هذه الغايات، لابد من إغلاق بوابات القلب، والانفتاح على الدراسة والنجاح والوظيفة المرموقة، لأنها الدرب الوحيد للنجاة والسلامة برؤية شاهين الأب ابن واقعه الشرقي بامتياز. هكذا قالت تجربته بالحياة، وهكذا أرادها لابنته، ولذلك قطع الطريق على كل العرسان، الذين تقدموا لخطبتها. ولما اقترب منها أحمد (يقوم بالدور إبراهيم إستادي)، فبادلته الاستلطاف، وكانت تُمنيه بالخطبة، ولكن “بعد نهاية الدراسات العليا، وتأمين الوظيفة وتحقيق المكانة وشراء البيت الذي يليق و..” وسوى ذلك من الواوات المعطوفة على الدروع الواقية من غوائل الأيام، بمنظور الأب. المدير لا المديرة وعندما احتلت أمل مكانة المدير في إحدى الشركات المرموقة، بعد جهد وعناء طويلين، وتحصلت على القيمة والمقام، استجابة لإملاءات الأب، أو بالأصح، تحقيقاً لما عجز عن القيام به الأب شخصياً، لسد مركب النقص المخزون في روحه. كان شبابها قد مضى، ومضت معه أنوثتها، حتى صوتها بات غريباً عنها من كثرة الشخيط بموظفيها أو مرؤوسيها، تعبيراً عن الحواجز، التي أقامتها بين أمل “الأنثى” وبين أمل “المديرة” بتأثير غير مباشر من طغيان شخصية الأب، كي لاتكون مطمعا لأحد، حتى لو كان المحبوب أحمد، الذي تهيأ لها أنه يطلب الزواج من أمل المديرة وجاهها، وليس من أمل، الأنثى المحبوبة، ما جعله يلفظها من حياته للأبد. وربما كانت “المديرة” تمارس النزعات التسلطية على من أدنى منها، للتخفيف من وطأة الهيمنة الطويل الأمد، التي فرضتها “سلطة الأبوة” على شخصيتها، وفق قاعدة التشريح النفسي لسيكولوجية الطغيان، حيث الأعلى يقهر الأدنى، والأدنى يقهر الأدنى منه، وهكذا دواليك في منظومة الاستبداد. الصراع الداخلي وعلى الرغم من تحقيق ما كان يرجوه الأب، وتصبو إليه “أمل المديرة” من المال والوجاهة، إلا أنها لم تستفق لأنوثتها، إلا بعد رحيله، حيث ترك فراغاً كبيراً بحياة المسخ الذي خلفه وراءه. ما جعله نهباً لصراع داخلي مرير، بين “أمل الأنثى”، التي حبسها طغيان “البطريركية الأبوية” منذ زمن بعيد، وبين “أمل المدير”، الذي آلت إليه. فالأنثى تبحث عن الحبيب أحمد، وتتوسل الاتصال به، والمدير الذي اعتاد التسلط يأبى متعللا بالقوة، لأن أحمد بلا مال أو جاه أو قوة، وبالتالي هو من يتوجب عليه العودة طالباً الغفران. ولكن النزاع حسم لصالح الأنثى، لأن “المسخ” لم يتمكن من الصمود طويلا بعد غياب النموذج الأعلى للتسلط، فتهاوى تحت ضربات الأنثى، التي خرجت من قمقم التسلط، مستعيدة بعض شبابها مع أحمد. فتناولت الهاتف، ولكنها فوجئت أنها لم تستعد صوتها بعد، حيث شخط لسانها بـ”ألو” المدير العريضة الزاعقة، حينها سارعت الأنثى إلى لجمها، لتنطلق الـ”ألو” الرقيقة، المنغمة برنين التوق الأنثوي الجذاب، ولكن من دون جواب، لأن الأوان قد فات ومات. العرض إن العرض من دون شك، بدا مكتمل الشروط أو المواصفات الفنية على كل المستويات. فالممثلون الأربعة، قاموا بأدوارهم كما يليق بممثلين محترفين، وتميز الجميع بالانسجام التام مع أدوارهم، على صعوبتها لجهة الاستبطان الداخلي لنزعات الاستبداد والتسلط، والمآلات الدرامية، التي انتهت إليها، سواء من حيث فداحة الشروخ والانكسارات الداخلية أو لجهة التمزق بين الواقع بمعطياته الذكورية الفجة في المجتمعات المغلقة، وبين طبيعة الفطرة السليمة، وما تقتضيه دواعي الطموحات والتطلعات الإنسانية ببعديها الأخلاقي أو الديني. كذلك بدا العرض مكملا بعضه بعضاً سواء على مستوى الإضاءة أو السينوغرافيا أو الإكسسوار. ولا يعيبه بالمطلق، كون الموضوع مطروقاً لمرات عدة في الماضي، ومنذ زمن بعيد، لأن استمراريته في الواقع العربي عموما، بشكل فظ وقبيح، ويؤذي الذات الإنسانية، هي التي تمنحه راهنيته ومشروعيته في المعالجة، والطرق المتواصل على رأسه مباشرة. وإنما يمكن أن يؤخذ على العرض أنه لا ينتمي إلى المسرح الشبابي البتة، سواء على مستوى الإخراج أو المعالجة، أو على مستوى فانتازيا التجريب والمغامرة، التي تميز الرؤية الشبابية غير المألوفة لدى الأجيال السابقة بالضرورة، حتى تكتسب صفتها أو مشروعيتها الشبابية. فلتات كوميدية مشهد “ألو” المدير الملجوم، تتلوه مباشرةً “ألو” الأنثى الطليقة، قدمته الممثلة بدور، بطريقة مشبعة بالكوميديا الأنيقة، المترعة بالرهافة الفذة ، إلى جانب لقطتين أخريين، لا يقلان شفافية وإضحاكاً ممتعاً وجذاباً، ما جعل الفنان الخليجي غانم السليطي، خلال ندوة تقييم العرض، بمشاركة المؤلف والمخرج، وإدارة الدكتور محمد يوسف، يتنبأ بولادة كوميديانة عبقرية، إذا توجهت بدور محمد إلى هذا الميدان، المتعطش خليجياً إلى الكوميديانات الحقيقيات، من نظير ما تنبئ به فلتات بدور الكوميدية المدهشة، حسب تعبيره. ويعتقد الفنان السليطي أن فلتات بدور الكوميدية، ربما جعلت العرض مقبولاً إلى حد ما، لأن الموضوع ليس بجديد، وإنما هو بقدم تجربته الشخصية، حيث قدم نظيره في أولى تجاربه المسرحية في السبعينيات الماضية. ومع ذلك ختم السليطي حديثه بالتمني على المخرج والممثلين، أن يقدموا المسرحية بالعامية في عروض جماهيرية، لأنهم يملكون حس وأداء النجوم، كفريق متكامل.