ما أن تحط قدميك في تايلاند حتى يجابهك الأخضر الشتوي في كل خطوة تخطوها، فمنذ مغادرتك المطار تجد الأشجار العملاقة المنتصبة على جانبي أي طريق تسلكه نحو المدينة· وعندما تصل إلى الفندق وتطل من نافذة غرفتك لن ترى شيئاً، فأغصان الأشجار الزاحفة أفقياً وعمودياً تأخذ كل زاوية من المشهد، فتسأل نفسك: ''هل أنا في غابة أم شارع''؟ وإذا نزلت إلى الشارع سيصافحك الأخضر المعبأ في جرار الفخار، لن تجد حافة نافذة أو بلكونة أو مدخل مطعم أو متجر أو فندق أو باب بيت صغير أو كبير إلا وهو مزدحم بشكل غريب بالأواني الفخارية من جميع الأحجام، التي زرعت فيها أجمل الشتلات المتلونة بكل أشكال الوريقات الغريبة والورد الفاتن الذي يبث عبقه في كل ناحية· عاشقو الورد تسأل نفسك بجد: لماذا يعشق هذا الشعب الشجر والورد إلى هذه الدرجة ما دامت بلاده فردوساً طبيعياً أخضر أصلا؟ تذكرت حالنا مع الورود والنباتات وشعرت بالأسى، فرغم أن بلداننا ذات مناخ حار وقاسٍ إلا أنه لا يوجد بيننا من يحفل بالخضرة بنصف أو ربع أو عشر ما يحدث هنا، وقفزت إلى ذهني تلك النبتة اليتيمة في شارع بيتي بالشارقة، تلك المسكينة التي جلبها صاحب الصالون سيئ الحظ لتجمل المكان، فتحولت بفضل زوار جاره صاحب ''السوبر ماركت'' إلى ما يشبه سلة القمامة، فبعضهم يلقي فيها لفافة النايلون الخاصة بعلبة التبغ، وبعضهم الآخر لم يتوان عن إطفاء أعقاب السجائر المشتعلة فيها دون حرج يذكر!· شجر في الشجر! أترك العاصمة بانكوك التي هالني استخدام أهلها لأوراق الأشجار الخضراء لعرض أطباق طعامهم ومشوياتهم إلى جنان ''بتايا'' و''بوكيت'' وجزرها الأخرى مثل ''هواهين''، فلا يصادفني سوى العشق الأخضر نفسه· ومنذ دخولي فندق ''كوسي بييتش'' في بتايا وعند المدخل الرئيسي له، شاهدت شيئا عجيبا حيث يزرع أهالي هذه الجزيرة التي يعشقها العرب الأشجار الصغيرة في جذوع الأشجار الضخمة، بأن يلصقوا ثمرة جوز الهند مجوفة في جذع الشجرة ثم يزرعون نبتة صغيرة في قلب ثمرة جوز الهند، وما هي إلا أسابيع حتى تورق النبتة الصغيرة وتتدلى أغصانها التي تتغذى جذورها على جذع الشجرة الأم إذا جاز التعبير!· حتى آخر حفنة رمل أبتعد عن مدخل الفندق وأتجه للمصعد للذهاب إلى غرفتي فيأسرني منظرا فريدا من نوعه، ثمة باقة ورد صغيرة في رمل منفضة السجائر الكبيرة قرب المصعد، أدخل المصعد فأشعر بنسمات عطرية تلفح رأسي، أرفع بصري في سقف المصعد فأجد كيسا من الورد المجفف وقد وضع أمام مروحة المصعد ليبث العطر لمستخدميه، ولا أكاد أصل للغرفة حتى أسارع لفتح الشرفة لأتأكد من أنهم وفروا لي غرفة تطل على البحر كما طلبت متغاضيا عن الفرق الكبير في السعر، فأفاجأ بأن منظر الشاطئ يمتلئ بالأشجار حتى آخر حفنة رمل وأول موجة بحر· أكثر من ذلك وجدت أن كل ''بلكونات'' الفنادق المجاورة قد وضعت فيها جرار النباتات الكبيرة وكذلك أسطح جميع المباني كانت عامرة بالأشجار الكبيرة وكأنك تقف على الرصيف، أما الأسطح المنخفضة فكانت تعج بالشتلات والصحون الفخارية الضخمة الخاصة بزنابق الماء وفوجئت ساعتها بقدوم امرأة ورجل على السطح المنخفض أمامي للعناية بالنباتات فسارعت إلى الكاميرا لالتقاط الصور· درس أبوظبي كل هذا العشق للأخضر في بلاد خضراء لا بد أن تكون فيه عبرة ودرس، فكرت كثيرا في الأمر فوجدت أن الدرس كان موجودا عندنا في أبوظبي أصلا! حيث تحولت الإمارات من صحراء إلى واحة خضراء، لكن مع التسارع العمراني الذي لم تشهد له دولة الإمارات خاصة ودول الخليج عامة مثيلا من قبل، لم يعد الأخضر الباقي يكفي كما يبدو·