بصراحة... ما اروم أحلّ، إلا وودي أطير، أحياناً تشعر أنت المحب للأسفار أن المدن تضيق عليك، وتبغي مدناً، جزراً وحتى قرى وادعة لكي تشعر بالعافية وقيمة الأشياء، حالك حال المتقاعدين، تجد الواحد منهم إن جلس شهراً عدّ أيامه «حكره» وودّه بشيء جديد ومختلف، ومرات يتمنى أن تكون وجهته مدينة بعينها، وثمة أمنيات تخطر على البال بعد ما صارت أموره اليومية مقتصرة على تفقد المجلس مرتين في النهار، وإشعال وإطفاء «الليتات»، وانتقاد طبخ الشغالات، والتأكد من أن المكيف المركزي دخل في بياته الشتوي مبكراً، و«هزاب الدريول»، والمراوحة بين الجلوس في الليوان أو مقابلة درّوازة البيت العودة حتى أذان المغرب، والمرور أكثر من مرة على شجرتي «الهمبّاه واللوميّه» اللتين ما عاد يلاحظ نموهما بشكل واضح، ووده من الضيق لو أن أحداً من الأولاد يغلط «شويه، علشان يفتن عليه»، والحرمة «يتعلث» بأي شيء علشان يتضارب معها، ويزعل وتزعل، ويكون سفره مبرراً.
لكن غير تلك الأشياء، هناك أشياء جميلة يحلم بها المتقاعدون من محبي الأسفار، وتراودهم حتى نهاراً مثل أحلام اليقظة، منها أمنيات بعيدة مسافرة، لا أدري عنهم جميعاً، لكني بصراحة كواحد منهم، الودّ ودّي رؤية الخريف في باريس، والاستمتاع بهسيس أوراق الشجر المصفَرّ المتساقط، مع تلك النسمة الباردة التي يقشعر منها الجلد، بعدها.. اتركني هناك مع فنجان قهوة على رصيف مقهى أستقبل الآتي، وأودع الغادي، كمتعة للمتأمل المتصوف، غير أن أول شيء سأفعله إن وصلت باريس، سأذهب مباشرة إلى مطعم «انتروكوت» في آخر شارع الشانزليزيه، لتناول تلك الوجبة الوحيدة والبسيطة التي يقدمها، ذات النُكهة الخاصة به، والتي لا توجد في أي مكان آخر، بعدها أريد سماع صوت «اوكورديون» في زقاق خال مع بحة صوت «إديث بياف» وجو ماطر أو بكاء «ساكسفون» في آخر زرقة الليل في الحي اللآتيني، مثلما أود أن أصحو على مهل، وتناول ذلك الفطور السويسري المحترم جداً في ذلك المنزل الخشبي بكسل على أطراف إحدى قراها الثلجية، بحيث لا يقف أحد على رأسك، ولا شيء يسد عليك النظر لتلك الفتاة الريفية السمينة بقدر، وهي تختال في ثوبها الكتاني المورد، الريح تقول لها: أنت جميلة، وهي تعرف أنها جميلة، ولا تريد أن تعترف: أنها جميلة!
لا أتمنى مثل ظهيرة مدينة إيطالية، لا تهم إن كانت شمالاً أو جنوباً، المهم أن يكون ذاك البحر اللآزوردي، وذلك الضجيج الإيطالي الذي لا يتوقف، وتلك الضحكات والثرثرات لبحّارة «جنوه» المرحين على الدوام، وربما كان معظمهم مُعدّاً لمشاريع ممثلين لن يستمروا طويلاً في «بلاتوهات سيني سيتي»، أولئك وحدهم يمكنهم في لحظة تحويل ذلك المطعم العائلي على شاكلة باحة صغيرة بالقرب من كنيسة قديمة، وكأنها عزيمة جماعية أقامها مختار القرية، يا الله.. ما أطيب إيطاليا، وأكلها وفرحها الذي لا يمكن أن تخبئه على أحد.
أما تلك المساءات الدافئة بحمى «عمر الخيام»، وأشعاره، و«الفردوسي» وحكمه، و«سعدي الشيرازي» وندى كلماته، صوفيات «ابن العربي»، وتجليات مولانا «الرومي»، فهي أمنيات كثير من المدن، وكثير من الأصدقاء، وكثير من الوجد والحب، وتعب القدم، وعشق المسافات التي تفرحنا، وليتها لا تنتهي إلا لتبدأ.. وغداً نكمل.