لو كنتُ حفّار أوشامٍ على أجساد الشعراء، لرسمت على صدورهم صورة للشمس وهي مثقوبة بقلم امرأة حزينة تعرّضت للغدر في منتصف القصيدة. ولو كنت مؤرخاً لسيرة الأمل، لدوّنت في الصفحات الأولى كلمات من عبروا النهر مرتين ولم يكترثوا لحظة لارتفاع الموج أو دنوّ الفيضان. وعطفاً على تلك الحادثة، سأحبُّ لو أن نسل الشعراء مُجّد بسبب انتماء قصائدهم للضوء الصافي الذي يغسل الأرض في الصباح ويطهّر روحها من دنس المتنابذين والمتناطحين في حلبة اللاجدوى. وسوف أحبُّ أيضاً لو قادني الحرّاس لأمشي على الورق الأبيض بدلاً من الشوك، كي أعرف على الأقل من أنا من بينهم، وإلى أيّ جريرة ينساقُ دمي ويشتاق.
لو كنتُ حارساً للمدينة الفاضلة التي تحدث عنها الفلاسفة، لحملت المطرقة وهشمت بها الحصّالات وهزمت انتظار أصحابها لساعة الجاه التي لن تأتي، وللحظة المجد الهزيل. هؤلاء إنما ينتظرون ثمرة الصبر الطويل كي يعلنوا انتصارهم على الزمن بعضلات الشيخوخة، وبالعقل الذي تآكلت ذكرياته ودخل أولها في آخرها وصار فيها المعنى الذي ضد معناه هو الأصل، تماماً كما خطوات المشي على رمل الشواطئ، إذ يظنها صاحبها أثراً، وهي مجرد زبدٍ عند اعتلاء الموج.
كيف لرجلٍ لم يدخل البحر قط، أن ينفخ بالونة زرقاء ويهديها إلى طفلٍ يغرق؟ وكيف لامرأة لو نعدُّ أصابعها خمس مرات تصير نُطقاً على صمت البيانو، وسلّماً سلّماً تسقط أحزاننا تحت قدميها؟ وأنا، حتى لو زحفتُ الآن على إسفلت المشقّة أو تكوّرتُ في المنعطف الذي يعبره أبطال السينما والمُصفّق لهم، لن أكون حقيقياً إلا إذا لبست قناع الشفافية. ولن يسمح لي باعة التذاكر بعبور المتاهة، إلا إذا كان رأيي بين بين، وحكمتي حمّالة تفاسير، وصوتي تنحنح مغنٍ لم يؤذن له بالترنّم بعد.
لو كنت خيط طائرة ورقيّة وعضّني فمٌ حاقدٌ على الحرية، من سيداوي صرخة الريح في أجنحتي؟ سقطتُ، وكانت النار ترقصُ في المصابيح التي حملتها كي أكتشف سرّ الخروج من حفرة الماضي، وأظن رقصة هذه النار ستدومُ إلى الأبد.
لو أملك الميزان، لوضعتُ يمناي في ثقل الخطيئة معترفاً بانفلات خيوط العقل والنفس. وبالمقابل، لثبّتُّ يسراي بحثاً عن اعتدالٍ لم يستقم قط. كمن يسير على جسرٍ وظله يسير من تحته في نفق، وهيهات أن يصل أي منهما قبل الآخر ليشرب. وما من ماء هناك ولا ارتواء.