الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

عذيجة بنت سيف.. رمز الحكمة والعطاء

عذيجة بنت سيف.. رمز الحكمة والعطاء
24 أكتوبر 2020 01:00

لكبيرة التونسي (أبوظبي)

ملأت بحضورها أكثر من نصف قرن من حياتنا الاجتماعية، فكانت شخصيتها كينبوع عطاء لم ينضب، ومصدر خصب لم يتسلل إليه الجفاف أبداً.. منذ أن أبصرت عذيجة بنت سيف بن محمد المشغوني النور على هذه الأرض في عام 1947 إلى أن أغمضت عينيها ملبية نداء ربّها في عام 2019، كانت مثال الصبر والحكمة والرزانة والعطاء، تربت في الفضاء الواسع لصحراء أبوظبي، ومنه اكتسبت قيم الخير والكرم والعطاء، نهضت بالمسؤوليات والواجبات التي ألقتها عليها دوافع وأسباب غلب عليها الجانب الإنساني أكثر مما سواه، ولئن كان الموت حقّاً، فإنّ البقاء من خلال الأعمال الجليلة هو من نصيب الكبار أمثال «عذيجة»، التي تركت بصماتها على الواقع الإماراتي وطبعت مآثرها في سِجلّ الذكر المجيد، ورغم أنها بلغت من العمر بعد السبعين اثنتين، لكنّها كانت في عزّ النضج والإقبال على الحياة، وكانت ما انفكت تعطي وتقدم وتهب، فهي التي علّمت الأقرباء والأصدقاء والأهل وجميع من مر في حياتها في قاعات مدرستها أنّ الحياة لا تقاس بالعمر ولا تحسب بالسنين، وإنّما هي لغة الحب والإنسانية التي تسود وتتغلب على ما سواها.

موزة البادي مدربة القيادة ومؤلفة كتب تستحضر مناقب والدتها، وجانبها الإنساني مؤكدة أنها نهلت من فيض قيمها ككل من عرفوها، موضحة أن والدتها كانت تهتم بالجانب الإنساني ورائدة العمل الخيري، «حين كنت أراها منهمكة في فعل الخير، ولا تشكو ألماً ولا تعباً ولا يوقفها قطار العمر، كنت أقول في نفسي: إنّ أمّي التي اعتقها الله في طفولتها من الموت، ووهبها العمر، تعمل وتدرك وتفهم معاني الحكمة حيث كانت تقول: إنّ هذا الجسد الذي نسكن فيه، ليس إلّا وسيلة نقل وهبنا إيّاه الله، كي نستطيع أن نحيا فوق هذه الأرض، وإنّنا إن أردنا التنقّل نحرّك القدمين، وإن أردنا أن نرى نفتح العينين وهكذا، فوالدتي السيدة عذيجة بنت سيف كانت كالريح في كدّها وتعبها وتفانيها، وكانت ترفض أن تكون مجرّد إنسان في جسد فحسب، لأنّها إن رضيت بذلك لكانت انكبّت على طلب ما لذّ وطاب، وصغرت معاني النفس فيها تدريجياً، وأصبحت غير مهتمة بتذوّق نكهة الحياة، وهذا ما لم تقم به.

الامتداد العائلي
تقول موزة البادي: البحث في ظروف المولد والنشأة والامتداد العائلي والبيئة المحيطة التي عاشت في وسطها والدتي المرحومة عذيجة بنت سيف، عبور لسبر أغوار عمق هذه الشخصية التي استودع الله فيها الكثير من السمات والمزايا الضافية والفريدة التي كانت لها بمثابة القاعدة الصلبة التي انطلقت منها بثبات، جدّي المرحوم سيف بن محمد هو والد والدتي المرحومة عذيجة بنت سيف، وينتمي عشائرياً إلى عائلة آل بو عميم من بني ياس، ووالده هو المرحوم محمد بن زعل بن محمد المشغوني، والذي أطلق عليه لقب «بويدّين» أي: أبو جدّين، إذ كان له جدّان ينتميان إلى عشيرة آل بوفلاح، فوالدته هي الشيخة سلامه بنت محمد بن سيف بن زايد الفلاحي، وجدّته لأبيه هي المرحومة الشيخة عفراء بنت شخبوط بن ذياب، وهي عمّة الشيخ زايد «الأول» بن خليفة الذي كان حاكماً لأبوظبي الفترة بين عامي 1855-1909، والمرحوم محمد بن زعل هو ابن خالة الشيوخ: سعيد، وهزّاع، وحمدان، وسلطان، بن زايد، وشمّاء بنت زايد، أبناء الشيخ زايد الأوّل، ووالدتهم هي المرحومة الشيخة مريم بنت محمد بن سيف بن زايد الفلاحي.

زواج
في البيئة الصحراوية التي اكتسبت فيها عذيجة صفات الحزم والجديّة والريادة في قومها ومحيطها العائلي والاجتماعي، باتت مطلبا لأبناء جيلها الراغبين بتكوين أسرة، يشار إليها بالبنان، فلم تكمل عذيجة بنت سيف العام السادس عشر من عمرها، إلا والزواج يطرق بابها، حيث أكدت ابنتها موزة البادي أنه ورغم تمسك والدها رحمه الله بها وعدم رغبته بزواجها لكونها لم تزل بنظره تلك الطفلة التي تلهو وتلعب إلى جانبه، وتضفي على العائلة أجواء المرح والسعادة، غير أن الواقع فرض نفسه بقوّة، وكان والدي المرحوم سعيد محمد البادي، وهو من رجالات الشيخ زايد آل نهيان، وحباه الله الصفات الحسنة المقبولة التي رضي بها والد عذيجة المرحوم سيف بن محمد المشغوني، فكان صاحب النصيب والحظوة فتزوّج صاحبة الحسب والنسب المفضالة والدتي عذيجة بنت سيف رحمها الله.

الاعتماد على الذات
كان الاعتماد على الذات هو أحد الجوانب الهامة التي اتصفت بها حياة عذيجة بنت سيف، وكانت والدتها حريصة على تعليم أبنائها وبناتها مثل هذه الخصال الحميدة، وعدم التراخي أو الكسل أو التواكل، كأن تقوم البنات بأعمال المنزل من إعداد المأكل والمشرب لباقي أفراد العائلة، وإكرام الضيف، ومد يد العون والمساعدة لمن يطلبها.
موزة البادي، أكدت أن ذلك النهج الحكيم من قبل جدّتها كانت له نتائجه التي أتت أكلها في المسيرة الإنسانية المظفّرة التي كانت عنوان حياة والدتها عذيجة.
وأضافت: «إنّ الحديث عن نشأة والدتي عذيجة يبقى حديثا منقوصا لا تكتمل أركانه ما لم تتم الإشارة إلى الدور الكبير الذي قامت به في هذا الجانب شقيقتها خالتي شمّا بنت سيف التي تولت رعايتها وتدبّر أمورها، إلى أن امتلكت رحمها الله الخبرة والدراية ونبل الخصال، وجميل الفعال، وطيب الشمائل، وما زالت ذاكرة خالتي السيدة شمّا ورغم مرور السنين، تستحضر مشاهد حيّة كانت بطلتها الطفلة عذيجة آنذاك بلا منازع، ونحن إذ نأتي على ذكر ما تيسر لنا منها فإنما للدلالة على أن ما فارقت السيدة عذيجة بنت سيف الدنيا عليه، وهي سيدة زاد عمرها على السبعين، كانت له قواعد راسخة منذ كانت طفلة، وهي التي كانت يد والدها اليمنى، حاكت بيت الشعر بيديها وكان عمرها لا يتعدى 13 عاما، وكانت بمثابة العمود الذي يتكئ عليه والدها، ومن غزير ذاكرة الخالة شمّا، نقف على مثال آخر حيث تقول، أنّ شقيقتها المرحومة عذيجة وكانت في عمر الثالثة عشر، قامت بإعداد بيت الشعر وصناعته على أفضل حال وأجمل هيئة، وأن الناس عندما شاهدوه لم يصدّقوا أن ذلك من إبداع صبية صغيرة السن، إلا أن والدها ومن خوفه عليها، ادّعى بأنه أحضر صناعا من اليمن وأنهم هم الذين قاموا ببناء بيت الشعر وليست عذيجة.

تعليم الأبناء
أصرت عذيجة على تعليم أبنائها وقاومت أكثر من أجل تعليم البنات، وتقول ابنتها: «أدركت أمّي أننا نحن الأبناء نواجه تحدياً لم يعهد له الآباء مثيلاً، وأننا إن لم ننحى منحى العلم، فإنّ وجودنا على الأرض وفي الحياة سيّان وعدمه، وقبل ذلك كانت أمّي تؤكد في مضامين أحاديثها أن تعليم الإناث من شأنه أن يقودها إلى تحقيق النجاح في حياتها العائلية مع زوجها وأبنائها الذين يتطلب تعليمهم وعيا وثقافة واسعة تتحلى بها الأم، والتي تقوم بالدرجة الأولى بتربية الأبناء والاهتمام بتعليمهم، وأيضًا الإشراف على تنظيم البيت، وكما آمنت عذيجة بنت سيف بأنّ تعليم المرأة يفتح المجال أمامها للاختيار في حياتها، كما أنّه يشكل حصانة لها لما يضيف لها من نور في طريقها لتعرف أمورها حق المعرفة.

نجاة من الموت
تقول موزة البادي: ولدت أُمّي المرحومة عذيجة بنت سيف بن محمد المشغوني عام 1947، في منطقة العشوش، الواقعة بالقرب من منطقة سويحان وهي إحدى مناطق دولة الإمارات العربية المتحدة، وعاشت طفلة في كنف والديها رحمهما الله «جدّي المرحوم سيف، وجدّتي المرحومة حمدة» كانت أمّي هي الابنة الصغرى للمرحومين سيف وحمدة، وأطلق عليها والدها المرحوم سيف هذا الاسم لسببين هما: الاعتقاد الجازم بأنّ الله سبحانه وتعالى أعتقها من الموت وكتب لها عمراً ووهبها الحياة، خاصة وأنّ والديها رزقا بها عقب وفاة سبعة من البنين والبنات، نتيجة إجهاض الحمل في نهاية الشهر السابع وعدم اكتماله، ولربما ذلك يعود بعد مشيئة الله إلى تردّي أحوال الحياة وقساوتها في تلك الآونة، تيمناً باسم إحدى عمّاتها «عذيجة بنت محمد المشغوني» التي قيل أنها اتّصفت بالحكمة والعقلانية والصبر.

التعليم
في تلك الفترة الزمنية التي شهدت مولد عذيجة، لم يكن نمط التعليم المدرسي شاع بعد، وما أن بلغت السنوات الأولى من عمرها حتى بدأت بتعلّم القرآن الكريم قراءة وحفظا، إلى أن تمكنت من إتمام حفظ مجموعة من الأجزاء، وكان ذلك القدر كافيا لأن تنطلق منه بقوة وثبات نحو حياة ناجحة ومتميزة بكافة المقاييس.
وتقول موزة البادي: تلقت أمّي المرحومة عذيجة بنت سيف رعاية كريمة من لدن والدها ووالدتها، وعاشت في ظلّهما حياة البداوة وما تكتنفه من قساوة تحتاج إلى المزيد من الصبر والتحمّل وقوّة العزيمة، وهو ما مكّنها  أن تصبح سيدة ساست قومها بالحكمة ورجاحة الرأي ولبصيرة.

المسؤولية
تنوّعت أدوار عذيجة وتعددت وزادت مسؤوليتها بعد وفاة زوجها وهي ابنة 27 عاما، وعاشت بعده قرابة خمسة وأربعين عاما، أنجزت ما لا يمكن للكثيرين فعله، حسب ما قالت ابنتها موزة البادي:«كانت الأمّ والمعلمة والمربية التي علمتنا وعلّمت كل من حولها أنّ الأخلاق هي مقياس التفاضل بين الناس، وأنّ لا فرق بين غني وفقير أو بين أبيض أو أسود إلّا بمقدار الالتزام بهذا المعيار وأنّ التعامل مع الناس يجب أن يقوم على أساس إنسانيته دون اعتبار لمحددات اللون أو العرق أو الجنس، فكانت تلك من المبادئ الراسخة في مسيرة أمّي، كانت المرشدة والمعلمة والقائدة والموجهة والناصحة الأمينة، التي غرست فينا حب الناس والخير، ورسّخت في أعماقنا روح الفداء والتضحية وصقلت عقولنا على حب الوطن والفداء ونقاء الضمير وسلامة السريرة».

الاتزان
أضافت البادي: «نزلت والدتي عذيجة بنت سيف من والدي سعيد البادي منزلة رفيعة، ونالت محبته واحترامه وتقديره المميز، وأقامت معه في منطقة الطويّة، حيث كانت المنازل عبارة عن خيم كما هو الدارج آنذاك، لكنه قام وعقب فترة وجيزة من زواجهما ببناء بيتٍ مستقل لها في منطقة المعترض في العين، ورغم صغر سنها وغربتها، غير أنّها لم تستغرق وقتا طويلا حتى أصبحت بارزة، وكانت تترجم القناعة التي نشأت فيها بمنزل والدها، ومثالا على ذلك أنّ المرحوم والدي كان من هواة الصيد، ويخرج بحكم عمله أحياناً كثيرة ويغيب عن منزله، حتى إذا ما عاد وجد أنّها لم تنفق مما تركه لها من مال، وكانت تعيده إليه، ولعل في ذلك بعدا هاما في شخصيتها ومؤشرا على صفة القناعة التي كانت رحمها الله تتحلى بها في شدة ظروفها وأحوالها.

شخصية قويّة 
كانت عذيجة بنت سيف بن محمد المشغوني قويّة الشخصية، واثقة من نفسها، طموحة، متصالحة مع ذاتها، متواضعة، متفائلة، إذ قالت ابنتها: «كانت حياة والدتي عذيجة بنت سيف فريدة بكل تفصيلاتها وحيثياتها، وألقت عليها الحياة أعباء هائلة وعظيمة استطاعت أن تتصدى لها بكل قوة وعزيمة فأصبحت نبعا ارتوى منه الجميع، ورمزا للعطاء والوفاء والحب الذي لا ينضب، واتّسع قلبها لشكوى الشاكين وبكاء المعوزين وأنّات العافين في عصر تعتصره الأنانية وحب الذات، شكّلت وفاة والدي المرحوم سعيد البادي تحديا جديدا أمام أمّي عذيجة بنت سيف، حيث فرضت عليها مسؤوليات تشعبت أكثر مما كان عليه الأمر من ذي قبل، ولكنّها كانت الصابرة المحتسبة المرابطة التي لم تستسلم للواقع بل مضت تواصل عطاءها وتضحياتها ولم تقبل لدورة حياتها أن تتوقف عن الدوران فتابعت المسير بكل ثبات ولم تسلّم الراية إلا عندما فاضت روحها إلى بارئها، وهي التي علّمتنا أنّ الإنسان في النهاية ما هو سوى محصلة لما يفعله من خير أو شر».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©