«صفر كوفيد»، تلك هي اللازمة المُغريّة التي ردَّدتْها البلدانُ من حول العالم في بداية الجائحة، وهدفها يمكن تفهمه، لكن ليس بعد الآن. ذلك أن عدداً متزايداً من الحكومات بدأت تخلص إلى أن «الصفر» هدفٌ غير قابل للتحقق، أو على الأقل هدف غير قابل للاستمرار، بالنظر إلى الكلفة الاقتصادية والاجتماعية الضخمة للإغلاقات.

وبالمقابل، أخذ هدف جديد يصعد إلى الواجهة باعتباره هدفاً واقعياً وتوافقياً، وقد لخّصه الأسبوع الماضي رئيسُ الوزراء الإسباني بيدور سانشيز بقوله: ليس منع «كوفيد-19»، وإنما إيجاد استراتيجية للتعايش معه.
ولعل ذلك الأمر جزء من تحول أعمق في المشهد السياسي للجائحة، ينطوي على تداعيات ممكنة بالنسبة للديمقراطيات الكبيرة حتى في حال بدأ الوباء في التلاشي، وهو أمر يتصل بالعلاقة الجوهرية بين الحكومات والمحكومين.

فخلال الأيام الأولى لفيروس كورونا، أعاد حجم التحدي الذي يواجه العالَمَ إحياءَ ثقة مواطني تلك الدول في حكوماتهم، بعد أن أدركوا أن ثمة بعض الأشياء التي لا يمكن أن تقوم بها سوى الحكومات، وخاصة في زمن الأزمات.
لكن الانتقال إلى «التعايش» مع الفيروس بدأ يغذّيه اعتراف الزعماء السياسيين بمحدودية العمل الحكومي الفعّال، إذ يعترف كثيرون بأن إنجاح المقاربة الجديدة سيتوقف في نهاية المطاف على الاختيارات الفردية لمواطنيهم بشأن كيفية التصرف.
هذا التحول في التفكير يحدث حالياً بسرعات مختلفة في بلدان مختلفة، ومن الممكن أن يعاد توجيه مساره من خلال منعطف جديد في الوباء.
غير أن إسبانيا ليست البلد الأوروبي الوحيد الذي يتطلع إلى مقاربة جديدة، ذلك أن عدداً من جيرانها أخذوا يتجهون أيضاً نحو تخفيف الإلزامية وتدابير المراقبة. وفي إسرائيل التي تُعد نموذجاً لدول أخرى بخصوص سياسات الجائحة منذ بداية الوباء، استبعد رئيس الوزراء نفتالي بينيت فرضَ إغلاق رابع، قائلا إنه لن يكون مكلفاً وحسب، وإنما لن يكون مفيداً كذلك.
ومن جانبها، خلصت رئيسة الوزراء النيوزيلاندية أسيندا آردرن، التي لم تسعَ وراء «صفر كوفيد-19» فقط وإنما حققته لوقت طويل، إلى أن هذا الهدف لم يعد ممكناً.
لا شيء من هذا يعني أن الحكومات قررت الاستسلام وعدم فعل أي شيء، ولكنها أخذت تتجه نحو تدابير صحية عامة أكثر استهدافاً، مثل الاستخدام الواسع للكمامات وجوازات التلقيح. وباستثناء الصين، أخذت الإغلاقات الكاملة تتحول إلى ملاذ أخير لا يُلجأ إليه إلا في حال تعرض أنظمة الرعاية الصحية لضغط هائل.
أحد الأسباب المباشرة لهذا التغيير هو متحور أوميركون الأخير، الذي يبدو أن تفشيه السريع يقابَل بقدرته المنخفضة على الإماتة. ولعل هذا ما جعل رئيس الوزراء الإسباني يشعر بالقدرة على اقتراح أن تَشْرع بلدان الاتحاد الأوروبي في الانتقال نحو معاملة «كوفيد-19» معاملةَ الإنفلوانزا.
لكن التغير كان قد بدأ في اكتساب زخم قبل أوميكرون، والسبب كان سياسياً: الإحباط العام المتزايد مما بدا سلسلةً لا نهايةَ لها من الإغلاقات والقيود المتكررة بدون أي مؤشر على الضوء في آخر نفق الجائحة.
الحكومات حذِرةٌ أيضاً مِن الكلفة الضخمة للإغلاقات، بالنسبة لكل من الموظفين والشركات التي عانت أنشطُتها من اضطرابات، وللخزينة الوطنية التي توفّر الدعمَ المالي للتخفيف من حدة تأثيرات الجائحة. وبالتالي، فإن هناك احتمالا كبيراً لأن يزداد اتجاه السياسة الجديدة قوةً خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
لكن هناك أمران مجهولان رئيسيان يستوجبان المتابعة والمراقبة:
الأول يتعلق بمعقل «صفر كوفيد-19» الكبير، أي الصين. فالسلطات هناك، مستعدة لتأثيرات أوميكرون وتراهن على إنجاح الأولمبياد، وهي تمتلك أدوات المراقبة والإلزامية. وقد بات ردها على فيروس كورونا جزءاً أساسياً من قولها إن «النموذج الصيني» أثبت تفوّقه على نموذج الديمقراطيات الغربية. وبالتالي، فإن السؤال بالنسبة لبكين الآن ليس هو ما إن كانت تستطيع إغلاق أجزاء كبيرة من البلاد، وإنما هو إن كانت الإغلاقات ستحول دون انتشار أوميكرون. ومع ذلك فإن الصين ليست محصَّنةً ضد الكلفة الاقتصادية المترتبة عن السعي وراء «صفر كوفيد-19».

والإغلاقات الأخيرة أثارت قلقاً دولياً من إمكانية تعرض التجارة والأعمال الصينية لاضطرابات جديدة، مع ما قد ينطوي عليه ذلك من تأثيرات على سلسلة الإمداد العالمية.
أما بالنسبة للحكومات الغربية الديمقراطية، فإن الشيء المجهول الرئيسي مختلف. فلكي تنجح استراتيجيتها الجديدة، تدرك هذه الحكومات أنها تحتاج لانخراط كتلة مهمة من مواطنيها. ذلك أن المقاربة تفترض نوعاً من الشراكة، حيث تقوم الحكومات بتخفيف تدابيرها الخاصة بالجائحة بينما يفعل الأشخاص ما يستطيعون فعله بشكل فردي من أجل تقليص احتمالات ظهور موجات جديدة. هذا الشعور بالشراكة بدا بالفعل أنه ينجح في العديد من البلدان في بداية الوباء. ولكن السؤال الآن هو ما إن كان جهد مشترك مماثل سيكون كافياً للمساعدة على تجاوز الجائحة.

*كاتب وصحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»