التباين بين اللياقة البرلمانية في آيرلندا الشمالية والعنف الذي يجتاح غزة على بعد 4 آلاف كيلومتر قوي للغاية، غير أن الجلسة التاريخية التي احتضنتها الجمعية التشريعية في بلفاست نهاية الأسبوع الماضي كانت تنطوي على رسالة قوية إلى زعماء الولايات المتحدة وأوروبا والعرب، وغيرهم من زعماء العالم الذين يسعون ليس وراء وقف إطلاق النار في غزة فحسب، ولكن أيضاً وراء طريق نحو سلام إسرائيلي فلسطيني في نهاية المطاف.

رسالة مفادها أن السلام ممكن، حتى في الصراعات التي تبدو مستعصية على الحل، وأن تجربة آيرلندا الشمالية، عقود من أعمال القتل الطائفي، وسنوات من جهود السلام الفاشلة التي توجت في الأخير بإنجاز تطلب تنازلات من جميع الأطراف، من الممكن أن تنطوي على دروس لصانعي السلام المقبلين في الشرق الأوسط.

والواقع أن ما تم خلال جلسة السبت الماضي في مبنى البرلمان في آيرلندا الشمالية لم يكن من الممكن تصوره قبل «اتفاق الجمعة العظيمة» لعام 1998، والذي أنهى عقوداً من الحرب الأهلية هناك، حيث جمعت أعمال عنف شبه عسكرية بين الأغلبية البروتستانتية في الإقليم، المصممة على البقاء جزءاً من بريطانيا، وأقلية كاثوليكية تسعى إلى تحقيق الوحدة من جديد مع آيرلندا الكاثوليكية. وفي غضون ذلك، أُرسلت قوة كبيرة من الجيش البريطاني إلى الإقليم في محاولة لكبح العنف.
غير أنه منذ ذلك الحين، أصبح الكاثوليك تدريجياً يشكلون أغلبية طفيفة. وفي الانتخابات الأخيرة، فاز حزب «الشين فين»، الذي يمثّل الذراع السياسية للجماعات شبه العسكرية الكاثوليكية خلال القتال، بأكبر عدد من المقاعد. وهكذا وفي منعطف غير مسبوق للأحداث السياسية، أدت زعيمة «الشين فين» اليمين كوزيرة أولى، في حين شغل «الحزب الوحدوي الديمقراطي البروتستانتي» المنصب غير المألوف المتمثل في منصب نائب الوزير الأول.
ومع ذلك، فإن المزاج كان تصالحياً، إذ تعهد الوزيران الجديدان بالعمل معاً لما فيه خير جميع المجتمعات. وربما يعزى ذلك جزئياً إلى أن هندسة حكومة ما بعد «اتفاق الجمعة العظيمة» تتطلب دعم كلا الوزيرين، كلا الطائفتين، لأي قرار حكومي، غير أن ذلك عكس أيضاً واقعاً جديداً، ألا وهو حقيقة أن أياً من المجتمعين لا يريد العودة إلى الأيام السابقة السيئة.
وعليه، فهل هناك أي تداعيات على الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني المستعصي على الحل؟ الواقع أنه إذا كان مجرد السلام في آيرلندا الشمالية يمكن أن يبعث على الأمل، فإن الدروس الأهم ربما تكمن في كيف تسنى التوصل إلى اتفاق 1998، بعد العديد من الجهود الفاشلة.
النزاع في آيرلندا الشمالية، ومثل صراع الشرق الأوسط، له جذور تاريخية عميقة، ذلك أنه نشأ عن قرون من التوتر الإنجليزي الآيرلندي، الذي تفاقم وتطور إلى حرب شاملة في أوائل القرن العشرين. وفي نهاية ذلك القتال في 1921، نالت آيرلندا استقلالها، ولكن أراضيها الواقعة في أقصى شمال شرق البلاد اقتُطعت منها لتشكّل إقليم آيرلندا الشمالية المنفصل، وهو ما أدى إلى ربط الأغلبية البروتستانتية من السكان آنذاك بلندن.

كانت عقود العنف، التي بدأت في ستينيات القرن العشرين، تحركّها رؤيتان متعارضتان وغير قابلتين للتوفيق على ما يبدو: وحدة دائمة مع بريطانيا، بالنسبة للبروتستانت، وإيرلندا موحدة من جديد، بالنسبة للكاثوليك، وهم أقلية تفتقر للموارد وتعيش ظروفاً أصعب. وعلى غرار الجهود الرامية لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فقد تم الاتفاق على وقف إطلاق النار، ثم ما لبث أن تم انتهاكه. كما كانت هناك جهود للتوصل إلى حل سياسي، بما في ذلك محاولة في 1973 احتوت على العديد من عناصر «اتفاق الجمعة العظيمة» الذي تحقق بعد مرور ربع قرن.

وقد كانت هناك أسباب مهمة لنجاح جهود 1998 في ما أخفقت فيه الجهود الأخرى، ومن ذلك أن سياق الصراع تغيّر بشكل كبير جداً، إذ خلصت كل من القوات شبه العسكرية الكاثوليكية والبروتستانتية إلى أنها لا تستطيع تحقيق ما تريده سياسياً بالقوة. ومن جهتها، كانت الحكومة البريطانية تبحث عن طريقة للانسحاب من النزاع أيضاً.
كما خلص المفاوضون إلى أن حل بعض القضايا الأكثر إثارة للمشاعر، مثل مصير أفراد القوات شبه العسكرية المسجونين وتفكيك الأسلحة والمتفجرات، يعني أن عليهم تأمين موافقة أفراد القوات شبه العسكرية أنفسهم. وأخيراً، تطلب الجهد قدراً استثنائياً من المثابرة والزعامة السياسيتين، من جانب الزعماء السياسيين في آيرلندا الشمالية، ولكن أيضاً وبشكل لا يقل أهمية، من جانب رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير ورئيس حكومة آيرلندا السابق برتي آهرن. وكذلك من جانب لاعب خارجي، ألا وهو: الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي تدخل شخصياً ومن خلال مبعوثه الخاص جورج ميتشل، الذي حصل على ثقة الأطراف كافة، للمساعدة في التعاطي مع قضايا مثل تفكيك الأسلحة، وتوجيه المحادثات، وإيصالها إلى خط النهاية.

المشكلة بالنسبة لصانعي السلام في الشرق الأوسط هي أن السياق هناك لم يبدِ مؤشرات على التغيير. إذ بدلاً من أن يخلصا إلى أن العنف لن يحقق أهدافه، يبدو أن كلا الجانبين يريان، منذ عمليات الاختطاف والقتل التي قامت «حماس» في السابع من أكتوبر، أنه لا يوجد بديل.

غير أن بعض الأمل قد يكمن في مثال اعتماد «اتفاق الجمعة العظيمة» على دعم خارجي قوي، في حالة إسرائيل والفلسطينيين، من إدارة بايدن والشركاء العرب الذين استعانت بهم للمساعدة في تقديم بديل سياسي يتمتع بالمصداقية. ومثلما أظهرت آيرلندا الشمالية، فإن ذلك يحمل في طياته إمكانية تحقيق تحول جذري.

والواقع أن الكاثوليك والبروتستانت ما زالوا يختلفون بشدة بشأن مستقبل الإقليم. ورغم أنهم لم يعودوا يتقاتلون، إلا أنهم ليسوا أكثر اندماجاً بكثير مع بعضهم، أو أكثر ثقة بكثير في بعضهم بعضاً مما كانوا عليه قبل 1998. غير أن تغييراً جوهرياً حدث. ففي كلمة ألقتها السبت الماضي، وصفت الوزيرة الأولى الجديدة لـ«الشين فين» ميشيل أونيل نفسها بأنها جزء من جيل «الجمعة العظيمة».

وقالت أونيل، إن سنوات الحرب وآلاف الضحايا من كل الأطراف يجب ألا تُنسى، لأنه «لا يمكن تغيير الماضي أو إلغاؤه»، لكن في مشاعر عبّر عنها أيضاً زميلها البروتستانتي، أضافت قائلة: «إن ما يمكننا القيام به هو بناء مستقبل أفضل».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»