الحادث الإرهابي الذي ضرب المجمع التجاري والحفل المقام داخله في موسكو خبر سيء يحمل الأسوأ في داخله. وأياً كانت المواقف السياسية ودرجة الشد فيها، فإن استباحة تجمع مدنيين غافلين عن كل شيء، لقتلهم هي جوهر فكرة الإرهاب، والإرهاب فكرة عدمية بالنتيجة، يعلن فيها المجرم رسالتَه بالرعب، ويذهب ضحيتَها أناسٌ أبرياء.
انتشار فكرة الاستباحة المطلقة للتجمعات البشرية الآمنة والمدنية صارت خطراً على الأمن العالمي كله، مما يتطلب تحركاً دولياً بأدوات جديدة تعالج المشكلة من جذورها، ليس بالمقاربات الأمنية والعسكرية فقط، بل بتبديد العتمة والظلامية التي تنتشر، وذلك بإضاءات التنوير والوعي. وهذا لا يكون من دون العلم والمعرفة. ولعله من المفارقة أن نطالب بتبديد العتمة بالمعرفة في زمن ذروة التطور المعرفي الذي نعيشه اليوم. والمفارقة الأكبر أن قوى العتمة تمارس إرهابها اليوم مستخدمةً أدوات العلم والتكنولوجيا لتحقيق غاياتها الإجرامية.
ربما على العالم أن ينتبه للمظلوميات التي يرفعها البعض، ولا شك في أن بعضها مظلوميات إنسانية لم تصلها مخرجات التنمية الإنسانية بعد، مظلوميات وجيوب قهر منتشرة ينفذ منها الفكر الظلامي بصيغته المتطرفة، ليملأ فراغات البؤس واليأس، وكثيراً ما استطاع إقناع اليائسين بأن النجاة تكمن في تقديم قرابين الموت الدموي!
مهاجمة الحفل داخل ذلك المجمع في موسكو، حدثٌ يقع مثلُه كثيراً وفي أماكن متعددة على هذا الكوكب.. وتمرير الجريمة أو «تسييسها» يخلق شرعية للإرهاب باستهداف أي تجمعات مشابهة في أي بقعة على الأرض.
منذ الساعات الأولى للعملية الإرهابية كانت النظريات تنتشر حول المسؤولين عنها، وعملية التراشق بأجندات سياسية تتسع، حتى وصلنا إلى حالة من الفوضى في البحث عن الحقيقة بعد سيطرة الرغبة السياسية على مجرى التحقيق.
التصريح الأكثر خطورة كان في الساعات الأولى، وقد نشرته «نوفوستي» الروسية على شكل تحذير روسي موجّه للولايات المتحدة مفاده أن واشنطن عليها أن تقدم أي معلومات تعرفها عن الهجوم. وكان الرد الأميركي أن واشنطن قدمت تحذيرها لموسكو مسبقاً، وقبل فترة كافية، حول معلومات بهجوم يستهدف أماكن عامة.. لكن موسكو لم تأخذ التحذير على محمل الجد. والحقيقة أن أي جدية يمكن أخذها في أجواء محتقنة ومتوترة تغيب فيها الحقائق.
القبض على المشتبه بهم في ارتكاب الجريمة الإرهابية داخل غابات على تخوم الحدود الأوكرانية، وكانوا يحاولون الهروب إلى هناك، بدا مؤشراً كافياً لروسيا كي تتهم كييف، وحجة قوية لاستهدافها. ثم تظهر معلومات مسربة عن هوية مرتكبي العملية على أنهم قريبون من دوائر مخابراتية إقليمية أو في المجال الحيوي لإحدى الدول لأنهم من بلدان إسلامية! إعلان تنظيم «داعش» مسؤوليته منذ اللحظة الأولى كان حاسماً، لكنه أيضاً تعرض للتشتيت أمام أسئلة التواطؤ الذي يمكن لبعض الأطراف الأخرى أن تكون مارسته لتسهيل العملية الإرهابية، مما يضع التساؤلات المرعبة في محلها حول استخدام الإرهاب وتجنيده لمصلحة أجندات الصراعات والأزمات الدولية.
تلك لعبة خطرة وتهدد أمن البشر جميعاً، وتشبه خلق المسوخ الفرانكشتانية التي قد تنقلب يوماً على مَن يَصنعها وبرعب أكثر.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا