بالتوازي مع تقدّم الاقتصاد الهندي، تسعى الحكومة الهندية إلى تحويل الهند إلى مركز للتصنيع والاستفادة من سياسة «الصين زائد واحد» التي تسعى بمقتضاها الشركات العالمية إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعد الاضطرابات التي تسببت فيها جائحة «كوفيد-19». فخلال الجائحة، دخلت الصين في إغلاق أدى إلى اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية أضرت بالمصنِّعين. وقد ساهمت تلك الاضطرابات، إضافة إلى ارتفاع تكاليف العمالة في الصين والتوترات بين الصين والولايات المتحدة، في دفع الشركات الأجنبية إلى إنشاء سلاسل توريد بديلة لمنع حدوث اضطرابات مستقبلاً. وإذا كانت الشركات لا تغادر الصين حالياً، فإنها تسعى إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها وتقليص اعتمادها على بلد واحد. وهذه الشركات كانت تقصد في البداية بلداناً في جنوب شرق آسيا مثل تايلاند وماليزيا وفيتنام، والتي كانت محل اهتمام كبير نظراً لأن هذه الدول قريبة من الصين ولديها اتفاقيات تجارية.

لكن مؤخراً تحوّل اهتمام هذه الشركات إلى الهند نظراً لعمالتها الرخيصة، وسوقها المحلية الكبيرة، وقدرتها على التصنيع على نطاق مماثل لذاك الذي كانت تتيحه الصين. كما أن قدوم بعض الأسماء الكبيرة من الشركات المصنّعة إلى الهند زاد من جاذبيتها. وعلى سبيل المثال، فإن شركة «آبل» التي نقلت جزءاً من إنتاجها إلى الهند، أصبح لديها الآن 7 في المئة من أجهزة الآيفون تصنع في الهند، الأمر الذي أصبح مصدر فخر للبلاد. وبالمثل، ستفتتح شركة أشباه الموصلات الأميركية «مايكرون» أول وحدة تجميع ومصنع اختبار في ولاية غوجارات الواقعة في غرب الهند.

ومن جانبها، ستفتتح شركة «بوينغ» أكبر منشأة لها خارج الولايات المتحدة في بنغالورو، عاصمة ولاية كرناتكا في جنوب الهند. ويأتي إعلان شركة «بوينغ» عن استثمار 100 مليون دولار في البنية التحتية وبرامج تدريب للطيارين الهنود عقب توقيع شركة الخطوط الجوية الهندية «إير إنديا» على طلبية شراء أكثر من 200 طائرة من تلك الشركة. كل هذه الأسماء الكبيرة التي تتهافت على الهند الآن تثير اهتماماً عالمياً بالهند كمركز للتصنيع. وتأمل الحكومة أن يشجّع قرار هذه الشركات الكبرى بالتصنيع وممارسة أعمال تجارية في الهند شركاتٍ أخرى، كبيرة وصغيرة، على الاستثمار في الهند أيضاً. غير أن الهند تحمل وعوداً وتحدياتٍ للمستثمرين على الرغم من المحاولات الجارية لتيسير الإجراءات وتبسيطها.

ولاستقطاب مزيد من الشركات الأجنبية، أعلنت الحكومة عن مخطط تحفيز مرتبط بالإنتاج تقدّم من خلاله دعماً لقطاع الصناعة من أجل الاستثمار وإنشاء مصانع لها في الهند. هذا إلى جانب العمالة ذات التكلفة المعقولة والسوق المحلية الكبيرة، وهو ما يمكن أن تقدّمه الهند للمستثمرين المحتملين. غير أنه ما زالت هناك العديد من التحديات التي تواجه البلاد، مثل البنية التحتية غير الملائمة، والإجراءات البيروقراطية البطيئة.. إلخ، والتي تمثّل من دون شك نقاط ضعف تحدُّ من جاذبية البلد. وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار العديد من الشركات المصنعة متعددة الجنسيات إلى عدد من البلدان النامية الأخرى، مثل فيتنام وتايلاند والمكسيك، ينصبّ تركيز الحكومة الهندية على جذب شركات ذات قيمة عالية مصنّعة للإلكترونيات وشرائح أشباه الموصلات، وذلك من خلال تقديم إعانات وحوافز ضريبية، وفي الوقت نفسه تحاول الحكومة تقليصَ الإجراءات البيروقراطية لمضاعفة الاستثمار في الطرق السريعة والموانئ. كما تسعى إلى إنشاء مناطق صناعية، حكومية وخاصة، لجذب تلك الشركات التي اعتادت الحصولَ على مرافق من الطراز الأول في الصين.

في قلب هذه الجهود التي ترمي إلى تحويل الهند إلى مركز للتصنيع، هناك تركيز على تطوير الصناعات الإلكترونية حتى يصل إنتاجها إلى 300 مليار دولار بحلول عام 2026. ومن بين المجالات التي تبلي فيها الهند بلاءً حسناً تصنيع الهواتف. ففي أوائل عام 2020، قدّمت الحكومة حوافز مرتبطة بالإنتاج لشركات تصنيع الهواتف المحمولة، وهو ما بدأ يعطي أكلَه اليوم. فقبل عقد من الزمان، كانت 98 في المئة من الهواتف المحمولة المستخدمة في الهند مستوردة من الخارج. أما اليوم، فإن 99.2 في المئة من الهواتف المحمولة في الهند تصنَّع محلياً. وبفضل الدعم القوي الذي تقدّمه الحكومة، تجاوزت قيمة صادرات الهند من الهواتف الذكية 10 مليارات دولار في السنة المالية الماضية 2022-2023. وعلى مدى السنوات التسع الماضية، حقّقت الهند تقدماً مهماً في إنتاج الإلكترونيات الذي نما بثلاثة أضعاف تقريباً، إذ بلغ 101 مليار دولار في السنة المالية الماضية 2022-2023. وتركّز الحكومة في الوقت الراهن على أشباه الموصلات مع دخول شركة «مايكرون». وعلى غرار ما حدث في صناعة الهواتف، تأمل الحكومة أن يؤدي دخول الشركات الكبرى إلى تشجيع شركات أخرى على أن تحذو حذوها.

هذا التأثير المضاعف من المتوقع أن يساعد الهند على إنشاء نظام صناعي من الصفر. وخلافاً لاقتصادات أخرى، اتّبعت الهند مسارَ نمو خاصاً بها. ذلك أنه إذا كانت الصين تحاول تعزيز اقتصادها الخدمي، فإن الهند شهدت في البداية نمواً يقوده قطاع الخدمات بفضل تفوقها في مجال تكنولوجيا المعلومات. ولم يتعمق التركيز على تعزيز التصنيع إلا خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2022-2023، مثّلت الخدمات 53.33 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين لم يشكّل التصنيع سوى 13 في المئة. أما الآن، ومن هذه اللحظة فصاعداً، فإن كل التركيز منصبّ على قطاع التصنيع. إلا أنه مِن غير المعروف بعد إلى أي مدى ستنجح الهند في أن تصبح مركزاً تصنيعياً كبيراً.

* رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي