فريد زكريا، مفكر سياسي وإعلامي أميركي بارز، صدر له مؤخراً كتاب مهم بعنوان «عصر الثورات.. من التقدم إلى النكوص»، يتناول فيه ما يزيد على أربعة قرون من مسار التحديث الغربي. الأطروحة الأساسية التي يدافع عنها الكتاب هي أن الغرب الحديث مر منذ القرن السادس عشر بثورات سياسية كبرى عديدة، انطلقت من هولندا التي كانت دولة زراعية تجارية صغيرة كرست التسامحَ الديني والانفتاح الاجتماعي خطاً مميزاً لها، مروراً بالثورة الدستورية الإنجليزية ثم الثورتين الفرنسية والأميركية. إلا أن هذه الثورات اتسمت بالازدواجية من حيث كونها ولدت حلماً جارفاً بالتغيير بفضل التقدم التكنولوجي والاقتصادي، في الوقت الذي أججت فيه ردود فعل قوية ضد التطور التاريخي والفردية الليبرالية. زكريا يرى أن القيم الليبرالية تبدو متلائمةً مع الثقافة المحافظة أكثر من تلاؤمها مع الأفكار الراديكالية الجذرية التي تتأسس على الانفصال والتحول الجذري ومسح الطاولة. ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة الفرنسية تسلطية وقمعية لكونها صدرت عن عقل فوقي قهري يدّعي الحقيقة والعدالة، اتسمت الثورتان الإنجليزية والأميركية بالاعتدال والواقعية، نتيجةً لمراعاة الثوابت المجتمعية الكبرى المتعلقة بالدين والتقليد والأمة.

ولهذه الأسباب لم تعرف بريطانيا والولايات المتحدة الثورات الفاشية والشيوعية التي عرفتها دول أوروبية عديدة في النصف الأول من القرن العشرين. ومن هنا يمكن أن نستنتج من كلام فريد زكريا أن الليبرالية، وإن كانت نظاماً سياسياً يقوم على معايير الحرية والتقدم، إلا أنها تقتضي في الوقت نفسه ضوابط التعددية والتوافق والتسويات المؤقتة.. وهي محددات أظهر وأبرز في المجتمعات المحافظة التي تستوعب التنوع والاختلاف. وكما كان يقول فوكوياما، يرى زكريا أن الليبرالية هي الأفق الأوحد للتحديث الناجع ولا بديل عنها، وما نلمسه من ثورات غير ليبرالية مضادة (في قلب الديمقراطيات الغربية)، سببه النجاح المذهل للنظام الليبرالي بما انجرّ عنه الشعور بالقلق والخوف من الفراغ المتولد عن تحلل الهويات الجماعية والانتماءات العضوية، وهو ما يفسر انفجار النزعات الشعبوية والتيارات اليمينية المتشددة. لم يتحدث زكريا عن الثورات التحررية في العالم الثالث ولا عن الثورات اليسارية الراديكالية في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية، وقد بدا له أن مفهوم «الثورة» في دلالاته الحقيقية هو نتاج ديناميكية التحديث التقني والاقتصادي التي لم تنجح بصفة حقيقية إلا في الغرب. وكما ذهب إلى ذلك مؤرخون كثر، يرى زكريا أن الاكتشافات التقنية، في ملاحة البحار بصفة خاصة، هي التي أتاحت للمجتمعات الأوروبية الخروجَ من الإقطاعية الزراعية وولوجَ عصر الرأسمالية التجارية، قبل أن تتوالى التطورات في مجالات الطاقة والنقل والاتصال..

وقد أدت بالتدريج إلى بناء الأرضية المجتمعية الملائمة للعصر الليبرالي المعولم. وما نعيشه راهناً مع الثورة الصناعية الجديدة هو انفجار الجدل الأيديولوجي التقليدي حول غائية التقدم العلمي والتقني وما يترتب عليها من آثار سياسية وأيديولوجية، تنعكس اليوم في الصدام القائم بين الثورة الليبرالية والثورات المناهضة لها. ما الذي نستنتجه من أطروحة فريد زكريا في سياقنا العربي، الذي شهد في العشرية الماضية عودة قوية لسردية الثورة في إطار الديناميكية التي عرفت بموجة «الربيع العربي»؟ من الواضح أن تلك الحركية لم تقم على دوافع ليبرالية، لا من حيث المطالب ولا من حيث الخطاب السياسي، بل قد تكون أدت على سبيل المفارقة إلى الإضرار بالمطلب الليبرالي الذي حملته قوى مجتمعية ومدنية ظلت خارج دائرة القرار والمسؤولية. ما نستنتجه من مقاربة زكريا هو أن المجتمعات المحافظة المستقرة التي حققت مستويات مقبولة من التقدم التقني والاقتصادي، ومن الإدارة السلمية للتعددية الاجتماعية، هي وحدها المؤهلة لتطبيق الحلول الليبرالية الناجعة.

والثورة هنا ليست بمعنى القطيعة أو القلب الراديكالي، بل هي نتاج عملية إصلاحية متدرجة وفاعلة. في بلدان عربية معروفة، شهدت «الثورات العسكرية» العنيفة، ومن بعدها الفوضى التغييرية الهوجاء التي تمت باسم المطالب الديمقراطية المموهة، لا سبيل لاستنبات التجربة الليبرالية، التي تقتضي وجود مجتمعات متماسكة، ونظام مؤسسي مستقر، ودولة بيروقراطية صلبة. كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران يقول إن بلاده لم تخرج يوماً من «عنف المقصلة»، وإن نظامَها السياسي بقيَّ معلَّقاً على حالة استقرار اجتماعي هشة هي سبب الأزمات السياسية المستمرة في فرنسا. ولقد فسر ميتران هذه الظاهرة بغياب تقليد ليبرالي حقيقي في بلاده، بالمقارنة مع بريطانيا وأميركا. خلاصة هذا الكلام هي أن الليبرالية في أحد وجهيها حرية وتقدم، وفي وجهها الآخر استقرار اجتماعي وسلم أهلي.

* أكاديمي موريتاني