غيرَّت حرب أوكرانيا الكثير في أوروبا. ولا يقتصر التغير على الأوضاع السياسية والعسكرية، بل يشملُ أيضاً بعض أنماط الحياة مثل التكيف مع نقص الوقود وارتفاع أسعاره، والسباقُ الذي يتجددُ كل صيفٍ منذ عام 2022 لملأ خزانات الغاز قبل حلول فصل الشتاء. وكما تعاني الدولُ الأوروبية وشعوبُها مشاكلَ متعددة جرّاء هذا التغير، يبدو الاتحاد الذي يجمعها في أصعب وضع منذ تأسيسه في عام 1993.
ويبدو أن مفوضية الاتحاد ودوله الكبيرة غير قادرة على مواجهة هذه المشاكل، أو بعضها على الأقل، وخاصةً مشكلة الخلافات المتزايدة التي تنذرُ بانقسامٍ حول قضايا أهمها الموقف تجاه حرب أوكرانيا وكيفية التعامل معها. الخلافاتُ بين ألمانيا وفرنسا سابقةٌ على هذه الحرب ومرتبطةٌ بتنافسٍ على قيادة الاتحاد. وبالرغم من أنها بقيت طول الوقت تحت السيطرة، وقابلة للاحتواء سواء في لقاءاتٍ ثنائية أو خلال اجتماعاتٍ أوروبية، يصعبُ توقع مآلاتها في الوقت الذي يبدو أن التنسيق بين باريس وبرلين في أدنى مستوياته. رد فعل ألمانيا على حديث الرئيس الفرنسي ماكرون في آخر شهر فبراير الماضي عن احتمال إرسال قوات إلى أوكرانيا، أظهر أن المسافة بينهما تزداد. وعندما سعى المستشار الألماني شولتز إلى احتواء آثار حديث الرئيس الفرنسي، عبر تأكيد أن المساعدات العسكرية لأوكرانيا هي كل ما يمكن تقديمه، فتح باباً لمشكلةٍ جديدة. فعندما سُئل عن امتناع ألمانيا عن تزويد كييف بصواريخ جو-أرض بعيدة المدى وعالية الكفاءة، ألمح إلى أن فرنسا وبريطانيا وأميركا ربما تقدمُ لها بشكلٍ سري ما يُغني عنه.
وهكذا يبدو أن تداعيات حرب أوكرانيا على الاتحاد الأوروبي ودوله أكبر مما كان متوقعاً. فقد ازدادت الخلافات حتى بين دولٍ تؤيد مواصلةَ تقديم المساعدات لكييف، مثل ألمانيا وفرنسا. أما الخلافات على مبدأ الاستمرار في مساعدة كييف، فهي أخطر. ولعل ما قلل خطرها حتى الآن أنها كانت محصورة في هامشٍ صغير. لكن هذا الهامش يتوسع الآن، مع إقدام بعض الدول التي كانت مؤيدةً لمواصلة دعم أوكرانيا على تغيير موقفها بشكلٍ كامل، مثل سلوفاكيا بعد تولي روبرت فيكو رئاسة الحكومة في أكتوبر الماضي. فقد انضمت سلوفاكيا إلى المجر في تحميل المسؤولية عن الحرب لحلف شمال الأطلسي «الناتو» وروسيا بالتساوي، وفي دعوتها إلى إجراء مفاوضات على أسسٍ واقعية. ويبدو أن الخلاف على جدوى مواصلة دعم أوكرانيا عسكرياً واستمرار الحرب قابلُ لمزيدٍ من التوسع.
وهكذا ففي الوقت الذي يلوحُ شبح التفكك في سماء الاتحاد الأوروبي، ينشغل أعضاؤه وخصوصاً كبارهم بنقاشاتٍ حول توسيعٍ جديد عن طريق ضم البوسنة والهرسك والجبل الأسود، وربما أيضاً أوكرانيا ومولدوفا. وفي هذا السلوك ما قد يدلُ على نوعٍ من الهروب إلى الأمام. فعندما يزداد الشعور بالإحباط، وتقل القدرة على مراجعةٍ ضروريةٍ، ولكنها تنطوي على تراجعٍ ما، ربما يميلُ المرء إلى ما يُطلق عليه الهروبُ إلى الأمام، والذي قد تكونُ تكلفتُه أكبر من العودة خطوةً إلى الوراء.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية